استراتيجية الإسلام (4).. ثلاث مرجعيات في تعريف الإنسان
هوية بريس- محمد زاوي
2- الإنسان
– ثلاث مرجعيات في تعريف الإنسان:
هناك ثلاث مرجعيات في النظر إلى الإنسان: مرجعية مادية، ومرجعية روحية، وأخرى قائمة على الجمع بين المرجعيتين. تختلف هذه المرجعيات، في الأصل، من حيث النموذج المعرفي الذي تتأسس عليه كل منها. لا تجيب (هذه المرجعيات) بنفس الأجوبة على الأسئلة التالية: هل العالم مادي أم روحي؟ هل الحقيقة خارج شعورنا أم داخله؟ هل العالم مُدرَك أم يستحيل إدراكه؟ الإجابة على كل سؤال من هذه الأسئلة تحسم النموذج المعرفي وما تفرع عنه، وتعطي الإنسان نوعا خاصا من التعريف.
تقول المرجعية المادية بمادية العالم، وبالتالي بمادية الإنسان. كل أنشطته بما فيها الدينية مادية، “فعله في الزمن مادي، ينتج إنتاجا ماديا”. ما يشعر به ويحسه من مفارِقات أملاها واقعه المادي، وتعتمل في جسمه وفق قوانين المادة/ الطبيعة. العقل والروح والجسم، كل العناصر التي ينسبها الإنسان لذاته، هي ذات أصل مادي ولا تخرج عن إطار المادة. خلاصة هذه المرجعية: الواقع المادي يحدد كل فعل إنساني مهما بدا مفارِقا للمادة. يسمي المسيري هذا التفسير ب”المرجعية النهائية الكامنة”.
أما المرجعية الروحية، فلا ترى للمادة سيطرة على الإنسان. السيطرة عندها إما للروح السافلة، وإما للروح العالية. الناس أرواح، والغلبة في أجسامهم وما ينتج عنهم لروح منها. عالم الماديات عالم وهمي، والحقيقة في عالم خفي، هو عالم الروح. وما دامت الماديات وهمية، فلا اعتبار لمعاييرها وقوانينها. لا حقائق إلا الكرامات والمعجزات والمشاهدات، ولا وصول إليها ولا وصل بها إلا بفناء. الجسد وعاء فحسب، والعقل حجاب، والروح حقيقة. هناك كيان آخر غير الجسد، بل غير الفكر أيضا، يجب البحث عنه بإبعادهما (الجسد والفكر) معا. إنه “الفناء في الكون” بلغة التصوف الآسيوي (الصيني والهندي..)، و”الفناء في الله” بلغة التصوف الديني (إسلامي ومسيحي..). بهذا الفناء يجد الإنسان حقيقته، وبدونه هو في وهم.
المرجعية الثالثة محاولة توفيقية، محاولة للجمع بين المرجعيتين السالفتين. فلا علاقة للإنسان بالروح إلا عبر ملكة الجسم، ولا سلامة للجسم إلا بملكة الروح. لولا المادة لما كانت الروح، ولولا الروح لما ارتوت المادة من “ظمئها الوجودي”. لولا الجسم لما قوي الإنسان على وصل بالروح، ولولا الروح لما قوي على تحكم في رغبات الجسم. العيش لخلاص الذات أنانية، في الروح كان هذا العيش أم في المادة. الخلاص للذات، ولو في الروح، يأتي بعكس ما تُطلب من أجله الروحانيات. أما الخلاص للذات في المادة ف”حيوانية” جديدة، تتصرف عكس منحى العقل، وعكس منحى تقدم الإنسان. الأمر في هذه المرجعية أشبه ب”عزلة منتصفة” يدعو إليها أبو حامد الغزالي، وهي عزلة ذات أصول إسلامية. فكما أمر الإسلام بالتدبر والتفكر والاعتكاف والتعفف والزهد، أمر بمخالطة الناس والصبر على أذاهم ونصرة المظلوم والقيام بحق النفس والأهل والتحديث بالنعمة.. النفوس شتى، والموازين شتى تبعا لاختلافها (النفوس).. ولكلٍّ خطابٌ وسلوكٌ، والإنسان طبيب نفسه، والأصل النهل من هذا وذاك بمقدار ما تتحقق به الحياة الطيبة لكل أحد.
لم يترك الإنسان المعاصر في نفسه حيزا لتعايش النهائي واللانهائي، المحدود واللامحدود، الظاهر والخفي، الموجود والمعدوم.. ف”تشيأ” (بتعبير المسيري)، وأصبح جزءا من دائرة الإنتاج/ الاستهلاك.. فإذا أصابته الفاقة، أو حل به المرض، أو أعوزته النفس؛ لم يجد لنفسه مخرجا في الاعتدال، فارتمى في أحضان “جنون روحاني” تتسع دائرته كلما اتسعت دائرة التعب في الأرض.. إنها قفزة في “مجهول”، بقدر ما تؤكد عودة “الخفي” إلى الوجود، وبقدر ما تؤكد حاجة البشرية إليه، فهي دليل على افتقار الإنسان لنضح عزيز، أن يتعايش في ذاته “النهائي واللانهائي”.