استراتيجية الإسلام (5).. تاريخ الإنسان- مرحلة الخلق
هوية بريس- محمد زاوي
– تاريخ الإنسان
فقد الإنسان المعاصر ذاكرته القديمة، بعد قطيعة ادّعاها مع الدين، وبعد كبح متعمّد لمكنون اللاوعي؛ بدأت هذه النزعة في الغرب متأثرة باحتدام الصراع بين طرفي تناقض رئيس في مجتمع يبحث عن تناقض جديد. وعوض أن توجه المعركة إلى دين الكنيسة الإقطاعية، وجِّهت إلى الدين بصفة عامة، تحت أقنعة “مواجهة الوهم والأفيون والبحث عن الحقيقة”. بهذه الطريقة، لم يتخلص الفكر الغربي الحديث من دين الكنيسة فقط، بل من تاريخه القديم وذاكرته والحقيقة المخزونة في لا وعيه كذلك.
كان الأمر، زمن الثورة البورجوازية، شبيها بظهور دين جديد “متمركز” حول الإنسان. وبقدر ما كان هذا التمركز مفيدا في تفجير ملكات الإنسان الأوروبي وتطوير الملكات الذهنية والعلمية للبشرية عموما، بقدر ما أقام حجابا بين الإنسان وحقيقته (“مغامرته”) الأولى. الدين هو السبيل الوحيد لفهم هذه “المغامرة”، فضيعها الفكر الغربي الحديث بتضييعه (الدين). الدين هو نقطة الانعطاف الأهم بين الإنسان وما قبله، وهو يكتنز أهم المؤهلات البشرية، كاللغة وتنظيم العيش والقدرة على التجريد.. من غير لغة ما كان للإنسان أن يكون، وإنه لم يعرَض على الملائكة إلا بعد تأهيله لغويا لمهامه التاريخية، “وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة”. (سورة البقرة، الآية 31)
في هذا الانتقال من الطبيعة إلى “الإنسان”، نجد ثلاث مدارس. الأولى داروينية، لا تهتم بالخلق ولا بسؤال الأصل، ترصد تطور الأحياء، ومنها الإنسان كنوع أعلى من جنسها. الانتقال بالنسبة إليها، من الطبيعة إلى “الإنسان”، تم بتدرج وعبر مراحل، ووفق “الانتخاب الطبيعي” و”البقاء للأصلح”، حيث تؤثر الطبيعة على الأحياء وتوجه تطورها. عرفت هذه المدرسة نقدا قويا في العالم الإسلامي، ليس في منهجها العلمي أساسا، بل في حمولتها الإيديلوجية والطريقة التي روِّجت بها في العالم كنقيض للدين والغيب والبعد “التجاوِز” في الإنسان (“التجاوز” بتعبير المسيري).
المدرسة الثانية توفيقية، تقول بما تسميه “التطوير الإلهي” لا “الطبيعي”؛ وحجتها في ذلك هي “الحلقة المفقوده” بين القرد والإنسان، تعتبرها ثغرة لا جواب عليها إلا بحدوث طفرة متحكم فيها، بها كان الانتقال (التطوير) من البشر إلى الإنسان. يفتقر البشر إلى مؤهلات الإنسان، فهو مزيج بين هذا والحيوان، وما كان ليستحيل إنسانا إلا بالتدخل الإلهي، الذي جعل البشر إنسانا، وآدمَ أولَ إنسان. ينتمي إلى هذه المدرسة عدد من المعاصرين العرب، أمثال محمد بابكر الحسن (آذان الأنعام) وعبد الصبور شاهين (أبي آدم) وعمرو شريف (كيف بدأ الخلق) وعدنان إبراهيم ومحمد شحرور..
هناك مدرسة ثالثة، تقول ب”الخلق”. ليس الإنسان بالنسبة إليها نتاج تطور متدرج، ولا نتيجة “تطوير إلهي” يسد ثغرة علمية؛ بل هو مخلوق مكرّم، خلقه الله من تراب على مراحل، فقبض قبضة من تراب (من وادي نعمان/ مكة) فجعلها طينا ثم شكلها فخارا ثم صلصالا محمإ مسنون إذا قرعته سمعت صوتا (صلصلة)، ثم نفخ فيه من روحه (“قل الروح من أمر ربي”) ليكون إنسانا بإذن الله. استخلفه في الأرض، لا ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، وإنما ليصلح فسادها ويعمّرها إلى يوم يبعثون.
يرفض المسلمون المدرسة الأولى، ويجتمع إجماعهم على الثالثة، أما الثانية فانحسرت في قلة من النخبة المهتمة بالأحياء والباحثة عن توفيق بين نتائج المختبرات الغربية ودين الإسلام. وغاية الغايات أن يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات، ألا يتشبه بها (بالمرجعية الثالثة)، وألا يعود القهقرى (إلى الغابة، بالمرجعية الثانية). أن يبقى في منزلة التكريم، أي في منزلة الدين. إلا أن علم الأحياء، وما يُفترض فيه من تحديد موضوعي لمنزلة الإنسان وتساميه، أصبح معولا إيديولوجيا لهدم رصيده الديني، وجعلِه جزءا من نظام الغابة، يتسلق الأشجار ويركض في السافانا ويعيش على الافتراس. بهذه الطريقة ينفصل الإنسان عن ذاكرته، ويعيش مكبلا بثنائية “الطبيعة/ المادة”، ويفقد جوهره التاريخي (الدين وما يكتنزه من مؤهلات).
الإنسان في أرض الله، إذن، ثلاث مراحل: مرحلة الخلق (تحدثنا عنها أعلاه)، ومرحلة تهذيب الغريزة، ومرحلة معاناة التفاوت. من قرأ القرآن بتدبر ووعي، يجد ما يؤكد هذا التسلسل الزمني، فالقصص القرآن ليس عبثا، ولا هو للعبرة والاتعاظ فقط، بل ل”النظر” وما يقتضيه من عدّة معرفية لا يحصل التدبر العلمي في القرآن إلا بها.
(يتبع، في المقال المقبل سنتحدث عن مرحلتي التهذيب والتفاوت)