استراتيجية الإسلام (8).. نفس الإنسان
هوية بريس- محمد زاوي
– نفس الإنسان
* النفس في تركيبة الإنسان
النفس في تصور الإسلام جزء من عناصر التركيبة الإنسانة، وهي الروح والجسم والقلب والعقل والنفس. الروح من أمر الله لا يعلم سرها إلا هو، والجسم آلة المخلوق وهيئته التي بها يكون العيش والتكليف، والقلب مرآة النفس يعكس صحتها أو مرضها، والنفس ما يعتمل في الجسم من فكر وشعور، والعقل أداة الفكر والشعور.
وردت عناصر هذه التركيبة في عدة مواضع من القرآن الكريم، نذكر منها:
قوله تعالى: “ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (سورة الإسراء، الآية 85)؛ فهي سر لا يبلغه الإنسان بقليل علمه، والذي أوتيَه بعضُ مناهجَ لتفسير الظواهر الأقرب إليه، أو التي في إمكان خبرته وعلمه. وقد أعوزته الخبرة دهرا من الزمن في اكتشاف قواعد تاريخه وقوانين الطبيعة التي تسري فيه ومنها يعيش. فما بالك بالظواهر الأبعد، لا هو يحسها، ولا هي تخضع لمعاييره وقواعده المعتادة.
وقوله تعالى: “قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم” (سورة البقرة، الآية 247). يتحقق الاصطفاء بعنصر مادي هو الجسم، وآخر معنوي هو العلم. يشمل المعنوي كل العلوم والخبرات، النفسي منها والموضوعي. فيما يشمل المادي كل ما تعلق بالجسم وقدراته العضوية، فاعلةً ومنفعلة، مؤثرة ومتأثرة. يتمايز العنصران، لكن لا يفترقان. بينهما علاقة ديالكتيك، بحيث يصدر أحدهما عن الآخر، ليؤثر الثاني في الأول. الخبرة تقي الجسم، والجسم مضطر لاكتشاف الخبرة.
وقوله عز وجل: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” (سورة محمد، الآية 24). فالقلوب دلائل العقول، إذا أمرضتها النفوس ضلت الحقيقة، وإذا سلمت من أمراض النفس وجدتها. من تدبر القرآن وجد آفاقه في النفوس والمجتمعات، ومن مرض قلبه حُرِم التدبر.
وقوله تبارك وتعالى: “إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي” (سورة يوسف، الآية 53)، سوؤها أن لها ذاكرة قديمة، تأسرها بين الفينة والأخرى. ومن رحمه الله أخذ بأسباب التحصين، فدرأ الفوضى والغريزية والنفس الأمارة بالضمير والنظام والفطرة (ميزة إنسانية خاصة) والنفس اللوامة. وإذا فترت المعركة بين النفسين، فإما استقر الحال على نفس مريضة مضطربة، وإما على نفس مطمئنة، ثم راضية مرضية.
وقوله عز وجل: “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب” (سورة آل عمران، الآية 190)؛ أي لذوي العقول السديدة، يحسنون التأمل في قوانين الطبيعة بعد اكتشافها، فلا تكون حجابا بينهم وبين الأصل، مسبب أسبابها. يعرفون القانون وواضعه، يضعون الجزء في كل الأصل، تقربهم المعارف من اللانهاية، فلا يُخلِدون بها إلى الأرض.
حول هذا التقسيم، قريبا أو بعيدا منه، بقليل أو بكثير، تدندن الكتابات التراثية في الأخلاق أو التصوف والتزكية؛ هدفها من ذلك أن يمتلك الإنسان زمام أمره ويسيطر على نفسه، فتسهل عليه قيادتها لربها وتحليتها بفضائل الخصال. من يقرأ لأبي حامد الغزالي، أو الراغب الأصفهاني، أو ابن قيم الجوزية وأمثالهم من المهتمين بالأخلاق وأدواء النفوس؛ سيجد في كتبهم هذا المعنى.
تقدمت العلوم التجريبية ومناهج المعرفة الحديثة فأصبح الإنسان أكثر قدرة على الوعي العلمي بذاته ومكوناتها؛ فسقطت من التركيبة أعلاه الروح، وسقط معها القلب، أما النفس والعقل فألحِقا بالجسم. “ليست الروح خاضعة لمباضع التجربة، فهي غير موجودة”، هكذا قال كلود برنار. القلب عضو من أعضاء الجسم، وظائفه معروفة حددتها علوم الطب والبيولوجيا بتفصيل. العقل عضو من الأعضاء أيضا، أكثر الأجهزة العضوية تعقيدا في الإنسان، به تميز عن سائر الحيوانات. أما النفس فخلاصة عمليات جسمية، عصبية وخلوية معروفة لدى الأطباء والعلماء؛ حركتها جسمية، وكذلك تأثيرها وتأثرها.
هل لهذه المطلقات الحديثة من حدود؟ فلنذكر بعضها كما تثار على ألسنة المدافعين عن التقسيم التراثي. حدود الجسم عجزه في الطبيعة، ومنها طبيعة ذاته؛ وعجزه في المجتمع خاضعا لضرورته. وحدود “مباضع التجربة” التخلف عن فهم بعض ظواهر الكون إذ تبقى عصية عن متاح التقنية والعلم، وإذ تُعرَف بأصلها ولا بتفاصيلها. وحدود القلب العضوي بعض وظائفه المكتشفة حديثا، كالذاكرة. وحدود العقل في بداياته نقص الجارحة، وفي نهاياته ما لم يصل إليه، وما لا يحتاج إليه، وما تعارف عليه المناطقة من “عرو من النقيضين والضدين، وجمع بينعما، ولزوم للدور والتسلسل، وقلب للحقيقة، وتعدد للفاعل، وتحصيل للحاصل، وبطلان للحصر” (جمعوها في “عجل وقتب”). أما حدود النفس الخلوية العصبية ف”الظمأ الأنطولوجي” في مناطق بعينها من الدماغ (“منطقة الألوهية”، حسب ما جاء في كتاب “ثم صار المخ عقلا” لعمرو شريف)، مناطق أعمق في اللاوعي لا يدرك الظاهر منها إلا الرموز. هكذا يعاد إنتاج الأساس النفسي للإسلام ووسيلته، الاطمئنان والذكر، على ضوء المُكتشَف الحديث. “الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.
كان لا بد للحدود أن توضع، “فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى” (سورة النازعات، الآيتان 38-39). فمن لم يعرف حدود النعمة، أصبح فيها سجينا. لم يكن العلم في مصلحة الإنسان إلا بما يجعله عبدا لمحتكري التقدم العلمي، يستهلك منتوجاتهم ويعيش على هامش رأسمالهم. في وضعية كهذه، لا بد أن ينزل العلم من عليائه ليرتبط بالإنسان من جديد، لينتج إشكاليات من صميم حاجة هذا الإنسان لا من صميم مصلحة الاستغلال. فلنخرج من الصخب إلى الاطئنان كيفما كانت مرجعيته، فإنه لن يكون بسوء الفوضى والخباثة والاضطراب في زمن تعفن النظام الاجتماعي السائد عالميا!
(يتبع)