استقلال المغرب.. الذّكرى والعبر
هوية بريس – عادل بنحمزة
في إحدى الخطب أكد الملك محمد السادس وهو يقوم بتوصيف التحديات التي يواجهها المغرب، بخاصة في السنوات الأخيرة وما عرفته من مواجهات مع عدد من الدول الكبرى، أن “المغرب مستهدف لأنه دولة عريقة تمتد لأكثر من اثني عشر قرناً، فضلاً عن تاريخها الأمازيغي الطويل، وتتولى أمورها ملكية دستورية ومواطنة منذ أزيد من أربعة قرون في ارتباط قوي بين العرش والشعب، والمغرب مستهدف أيضاً لما يتمتع به من نعمة الأمن والاستقرار التي لا تُقدر بثمن، وبخاصة في ظل التقلبات التي يعرفها العالم”.
هذا الاستهداف يمثل ضريبة قدمها المغرب على مر التاريخ، ذلك أن قدر الجغرافيا وضعه في مواجهة مفتوحة مع القوى الاستعمارية، بل إنه تحول إلى موضوع صراع بين تلك القوى، وهو ما تمت معالجته في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 وما تلاه.
تحل اليوم الذكرى السادسة والستون لإعلان استقلال المغرب، وهو في الواقع تاريخ يؤشر إلى بداية تحرير التراب المغربي من مختلف القوى المحتلة، وهو ما انتهى بخروج الإسبان من الصحراء سنة 1976، مروراً بطرفاية سنة 1958 وسيدي إفني سنة 1969، لذلك يمكن القول إن هناك تواريخ للاستقلال وإن تخصيص يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) هو فقط مسألة رمزية ليس إلا، وهكذا يجب التعامل مع هذا الحدث البالغ الدلالة في تاريخ المغرب.
لقد أدى تأخر المغرب عن القيام بالإصلاحات اللازمة عند بداية القرن الماضي إلى فقدان استقلاله ووقوعه ضحية للأطماع الاستعمارية، حيث تم تقسيمه إلى ثلاث مناطق نفوذ، إسبانيا في الشمال والجنوب، فرنسا في الوسط والشرق، بينما أصبحت مدينة طنجة منطقة دولية، هذا التقسيم كان إحدى خلاصات مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي عقد بين 16 كانون الثاني (يناير) و7 نيسان (أبريل) 1906 وحضرته اثنتا عشرة دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة.
موضوع المؤتمر الذي خلد ما عرف بالأزمة المغربية الأولى، كان يتعلق بتسوية الأطماع الأوروبية في المغرب لتجنب أي مواجهة مباشرة، هذه التسوية تميزت بتسليم فرنسا لبريطانيا في مصر ولإيطاليا في ليبيا، بينما استقر الأمر على تقسيم المغرب بين فرنسا وإسبانيا وفقاً للتقسيم الذي ذكرناه سالفاً، أما ألمانيا فقد خرجت خاوية الوفاض، رغم أن القيصر الألماني جاء إلى طنجة وعرض على السلطان مساعدته، وكان ذلك عاملاً من ضمن عوامل أخرى عمّقت العداء بين ألمانيا من جهة وعدد من الدول الاستعمارية الأوروبية، تسببت في ما بعد في اندلاع الحرب العالمية الأولى. في تلك الظروف فقد المغرب جزءاً واسعاً من سيادته، وشكل تعدد القوى الاستعمارية عقدة ظلت آثارها وتداعياتها مستمرة إلى اليوم في عدد من القضايا المصيرية، وفي صدارتها قضية الصحراء المغربية.
في تلك الظروف الصعبة تحرك بعض المثقفين المغاربة لمطالبة السلطان باتخاذ التدابير الكفيلة بصون استقلال المغرب ووحدته وتطهير “المخزن”، أي بنية النظام العميقة، من العناصر الفاسدة، وفي ذلك نجد الحجوي، وهو واحد من النخبة “المخزنية”، يبعث رسالة إلى السلطان مولاي عبد الحفيظ جاء فيها: “ها نحن سيدي لا نمل من إبداء ما عندنا، فإن الله لا يمل حتى تملوا لئلا يقال إن الأمير لم يجد ناصحاً ولا معيناً على الخير، فإنا ننصح مولانا أيده الله… برفع الحجاب عن أمته والنظر في ما قد أضر بها” .
هنا يجب التذكير بأن وصول مولاي عبد الحفيظ إلى العرش سنة 1908 جاء نتيجة عزل أخيه المولى عبد العزيز لعجزه عن صد الهجمات الفرنسية في كل من وجدة وأنفا، كما أن اعتلاء مولاي عبد الحفيظ العرش جاء نتيجة بيعة مشروطة، وذلك للمرة الأولى في تاريخ المغرب، كان من أبرز شروطها: استعادة الأقاليم المحتلة، وضع حد لمشكلة الحمايات والامتيازات الأجنبية، رفض كل تدخل أجنبي في شؤون البلاد، إعلام الأمة بكل اتصال مع القوى الأجنبية، إدخال إصلاحات لتقوية الدولة وحماية البلاد، إصلاح الجيش ودعم التعليم الإسلامي واحترام مال الأحباس، ضمان استقلال القضاة عن العمال والباشوات والقواد، ضمان امتيازات الشرفاء والعلماء ورجال الدين، وأخيراً إبعاد المنافقين عن البلاط.
إضافة إلى ذلك، وفي السنة نفسها (1908)، وبالضبط في تشرين الأول (أكتوبر)، قامت مجموعة من المهاجرين المغاربة العائدين حديثاً من المشرق إلى طنجة، بنشر أول مشروع دستور في تاريخ البلاد على أعمدة جريدة “لسان المغرب”، وقد كان متطابقاً كثيراً مع الدستور العثماني لعام 1876، كما عرف المغرب مشاريع دستورية أخرى، منها في الفترة نفسها تقريباً مشروع “جماعة فاس” وما عرف بمذكرة الحاج زنيبر.
لقد كان للعامل الخارجي دور مهم في تنشيط الحركة الإصلاحية في المغرب، وفي محاولة تحديث الدولة عبر الانتقال من بنية تقليدية إلى بنية عصرية، تقوم على تثبيت إرث عراقة الدولة على أسس دستورية كمظهر من مظاهر التحديث والإصلاح. صحيح أن تلك الحركية لم تتطور كما كان يجب لها أن تتطور، لكنها مع ذلك شكلت إرثاً ومرجعية لنخبة الحركة الوطنية، سواء في معركة الاستقلال أم في السنوات الأولى للاستقلال، وما تلاها من جهود لبناء الدولة المغربية الحديثة.
في سياق حيوية النخبة المثقفة ذاته، نستحضر حدث تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال التي تقدم بها حزب الاستقلال الذي يضم أعضاء الحزب الوطني السابق وشخصيات حرة يوم 11 كانون الثاني 1944، كانت تلك المبادرة تمثل نقطة تحول جوهرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي، إذ إن الحركة الوطنية وضعت المستعمر أمام معركة وجود، ذلك أنها حركة تأسست في الأصل في صلب معركة شديدة الارتباط بالهوية والخصوصية، وذلك عقب إصدار السلطات الاستعمارية ما سُمّي بالظهير “البربري” في 16 أيار (مايو) 1930، حيث عمل عدد من العلماء الوطنيين على قراءة اللطيف في المساجد، دفاعاً عن الإسلام، وعن وحدة الأمة المغربية التي كانت مستهدفة بشدة، لذلك فإن تأسيس كتلة العمل الوطني سنة 1934، وبعدها الحزب الوطني سنة 1937، لا يمكن فصلهما عن نشأة حزب الاستقلال، فكل تلك الدينامية التي عبرت عنها نخبة الحركة الوطنية، كانت استجابة لحاجة مجتمعية ملحة هي الدفاع عن الإنسية المغربية، وعن الشخصية المغربية، في وجه الدولة الكولونيالية.
وعندما نعود اليوم إلى هذه الصفحات المشرقة من تاريخ نضال الأمة المغربية، من أجل الحرية، فإنما للتأكيد أن ذلك النضال كان يروم تحقيق الاستقلال وإرساء نظام ديموقراطي، وهو الأمر الذي جاء صريحاً وواضحاً بجلاء في وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي عكست تحولاً جوهرياً في خطاب الحركة الوطنية من المطالبة بتحقيق إصلاحات في ظل الحماية، إعمالاً لبنود عقد الحماية (دفتر مطالب الشعب المغربي سنة 1934 كنموذج)، إلى المطالبة بالاستقلال الكامل في توظيف ذكي للوضعية التي كانت تعرفها فرنسا في تلك الفترة، بخاصة نتائج الحرب العالمية الثانية واندحار فرنسا في عدد من مستعمراتها.
لقد عكست وثيقة 11 كانون الثاني التلاحم القوي ما بين العرش، كما جسده آنذاك السلطان محمد بن يوسف (محمد الخامس)، والشعب المغربي، كما عبّر عنه أروع تعبير حزب الاستقلال، وهو التلاحم الذي سيبلغ مداه مع ثورة الملك والشعب سنة 1953، عندما امتدت أيدي الاحتلال وأذنابه من القواد والباشوات إلى السلطان الشرعي، ونفته، عقاباً له على تعاونه وتنسيقه مع الحركة الوطنية، ورفضه مجاراة المخططات الاستعمارية.
كان عمل الحركة الوطنية في المغرب يسعى أساساً إلى تقويض الدولة الكلونيالية وتحقيق الاستقلال وبناء نظام ديموقراطي تكون فيه السيادة للأمة، يقوم على العدالة الاجتماعية والحريات وإنصاف الأفراد والمناطق في مغرب موحد وواحد، ليس فيه مجال لمغرب نافع وآخر غير نافع، واللحظة السياسية الوطنية والجهوية والدولية بفرصها وتحدياتها التي يوجد المغرب في صلبها، تفرض التذكير بهذا التاريخ، لأن الشعوب التي لا تعرف ماضيها تكرر أخطاءها، ولأن مجابهة التحديات الكبرى التي تواجه المغرب كغيره من دول المنطقة، تفرض التحلي بمنسوب عال من الوعي التاريخي.