اغتيال الرئيس هنية.. الحرب والعدو ومفهوم الموت

01 أغسطس 2024 20:39

هوية بريس – إبراهيم الطالب

نترحم قبل كل شيء على روح البطل الشهيد بإذن الله الشهم الرئيس إسماعيل هنية، ونسأل الله أن يكتبه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهنيئا له التحاقه بإخوانه الذين سبقوه، على درب المقاومة والجهاد ضد العدو الصهيوني الغاشم المتغطرس.

ويكفي هذا البطلَ أن يصرح عدوه الصهيوني المتطرف، وزير التراث بدولة الكيان الغاصب “عميحاي إلياهو” متشفيا: “وفاة هنية تجعل العالم أفضل”.

وهذا يعني أن هنية وإخوانَه من المجاهدين الأبطال يقضُّون مضاجع أعدائهم، ويضيقون عليهم العالم رغم رحابته، لأنهم يعطون للأمة النموذج الذي ينبغي أن تسلكه إذا أرادت أن تخرج من الاحتلال العسكري والثقافي، وتتجنب الإلحاق الحضاري الشامل بالثقافة الغربية، والذي يعني الموت والاضمحلال والاندماج الكامل في الجسم الغربي الصهيوني.

وقد أثبتنا له رحمه الله الرئاسة لأنه أول رئيس وزراء فلسطيني منتخب وفق ديمقراطية الغرب، لكن تم الانقلاب عليه من طرف العملاء تماما كما فُعل مع الرئيس مرسي رحمه الله.

لكن ما يجهله هؤلاء الأغبياء هو أن دماء الشهداء تُنبت أجيالا أقوى من آبائهم بأسا وهمًّا، وتوقظ الغافل اللاهي من المسلمين وغير المسلمين وتعطي للقضية وجاهتها.

وما دامت الحرب بين المسلمين والصهاينة حربَ وجود كما صرح بذلك “النتن ياهو” في الكونغريس الأمريكي، فالشهداء فيها هم قوة لمن خلفهم، تجعلهم أكثر إصرارا على الموت على ما مات عليه أسلافهم، وهذا ما يشاهده العالم اليوم في غزة الأبية، بل هذا المعنى ما يجعل أبناء الدول الغربية تعيد فهمها وقراءتها لمشكلة الشرق الأوسط.

فمفهوم الموت في التصور الإسلامي هو مفهوم راقٍ، يجعل كل مطلع عليه مدركا لمعناه، كما يجعله يغير نظرته للحياة.

فحياة البشر يحددها مفهومه للموت، من هنا كان مفهومَا الجهاد والشهادة مختلفين عن القتال والموت عند الغربيين. فالموت في المخيال الإسلامي هو بداية لحياة سعيدة وراحة من الدنيا ومتاعبها.

لهذا عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر”، يحدد للمسلمين مفهوم الدنيا ومفهوم الموت.

نسرد هذا الحديث عن الموت لأن دولنا وشعوبنا تحتاج إلى تجديد لكثير من المفاهيم الشرعية التي تشكل عقيدتها وتصورها للكون والإنسان والحياة، هذه العقيدة التي عملت الآلة الفكرية والإعلامية والثقافية العلمانية الداخلية والخارجية، على تحريفها وشيطنتها.

إن دولنا الإسلامية ستحتاج حتما خلال المرحلة القادمة إلى مفهوم الجهاد والتضحية وبذل الأرواح من أجل الآخرة، حتى يتم الدفاع عن أمن بلداننا، خصوصا وأن هذه المفاهيم قد تم استهدافها خلال الحرب على الإرهاب من طرف الآلة الفكرية والإعلامية والسياسية العلمانية سواء في الداخل أو الخارج كما ذكرنا، وقد قام الغرب بممارسة الضغط على الدول حتى تنخرط في مشروعه لمحاربة الإرهاب والتطرف، وليست تعني بحربها سوى الإسلام وعقيدته والجهاد والمقاومة لمشاريعها التوسعية.

هذه المفاهيم هي التي دأبت الدولُ المتعاقبة على حكم المسلمين على جعلها أساسا لعقيدة جيوشها بل لعقيدة كل رعاياها من المسلمين، فكل الفتوحات وكل الانتصارات وكل حضارة الإسلام في كل بقاعه وأقطاره إنما بُنيت على الشجاعة والنجدة وقيم التضحية بالنفس والمال، حيث بَنَت جسما جمعيا قويا، لم يعجزه أن يقف في وجه القوى الدولية التي عاصرها.

فإذا رجعنا إلى الصراع الصهيوني الفلسطيني، تبين أن الصهيونية لا تقاتل حماس ولا أي فصيل من فصائل المقاومة لأنهم خصومها، بل تقاتل الفكرة التي بُنيت عليها حماس، وهي فكرة المقاومة للمحتل، وبناء الصف المجاهد المقاوم ضده على أساس العقيدة والقرآن والدين، ونشر هذه القناعات والعقائد في صفوف الشعب والرعايا، وهذا اتضح للعالم في التضحيات الجسام التي بذلها أهلنا في غزة سواء منهم القادة أو عموم الناس.

فالصهيونية تقاتل فكرة المقاومة والرفض والممانعة والجهاد ضدها أينما وجدت، وذلك بالاغتيالات والقتل والمكائد والإغراء ومشاريع التطبيع، وما جرى للرئيس محمد مرسي من عزل وتصفية وما وقع في “رابعة” وكل المشايخ الذين في سجون الأنظمة الموالية لهم، بعد التأمل تجد أن القاسم المشترك بين كل ذلك وأولئك، هو وجود عداء منهم للصهيونية العالمية وأنهم يشكلون تهديدا حقيقية للوجود الغربي الصهيوني في بلدان المسلمين، خصوصا بعد تنامي الوعي بالمخططات الصهيوغربية، وقد دامت هذه الحروب بين الفكرة الإسلامية الرافضة للخنوع والاستسلام والغرب بشقيه النصراني والصهيوني طيلة القرن الماضي وإلى الآن، فما استطاعت أن تُركِّع الشعوب، بل ازداد الوعي بالقضية وتوسع نطاقه بعد طوفان الأقصى ليشمل أبناءَ الغرب ونخبَه.

إلا أننا مع ذلك ينبغي أن نعترف بأنها استطاعت أن تستغل ضعف الأنظمة، وحاجة هذه الأخيرة إلى المساندة والدعم من طرف الغرب إما في حمايتها أو في ملفات الحدود التي خلفها الاحتلال، لتُسقِطها في ذل التطبيع مع دولة الكيان الغاصب.

لذا، فاغتيال أمثال أبي العبد إسماعيل هنية رحمه الله من القادة والنخب لا يضر الفكرة أبدا، فكلما مات سيد قائد إلا وارتقى هو للجنان ليفسح المجال لغيره من القادة للبروز والتقدم نحو المجد، فهل ضر الحضارة الإسلامية اغتيال المجوسي للفاروق عمر بن الخطاب، أبدا، بل رأينا الغافقي في مشارف باريس يحمل راية الإسلام بعد أن فتح عقبة وموسى وطارق شمال إفريقية وشبه الجزيرة الإيبيرية بعد سنوات من مقتله رضي الله عن الجميع.

فالغرب يدرس تاريخنا ويعلم أن فكرة تبليغ الدين والولاء والبراء والجهاد هي المحفز لتوسع نفوذ الإسلام فوق الأرض، بينما القرآن ونظمُه وأخلاقه وقيمه تفتح القلوب قبل البلدان، هذا ما يجعل الغرب يركز في دولنا على التعليم ومقرراته ودور القرآن ورجالاتها، والعلماء ومؤسساتهم في كل مشاريعه الإفسادية، وقد علِم ذلك ليوطي في المغرب فقال: “لا أخاف على وضعيتنا إلا من أصحاب هذه الجلابيب والبرانس الذين يترددون على القرويين ليتحلّق الطلبة حولهم، فيبثون فيهم من روحهم الإسلامية المتعصبة، قبل أن يلقنوهم دروسا في الشريعة الإسلامية” (قدور الورطاسي؛ ذكريات في الدراسة بفاس ص:50).

وقد أدرك هذا أيضا أبناء ليوطي وأحفادُه من الغربيين والصهاينة، حيث قاتلوا خريجي المدارس القرآنية “طالبان” لأكثر من عشرين سنة ولم يركعوهم، فقد قتلوا قادتهم ودمروا بلادهم ووضعوا على رأس الدولة عملاءَهم أمثال “كرزاي” بنعرفة الأفغاني، وقدمت “طالبان” الأرواح والأموال والممتلكات وسكنوا الكهوف لسنوات واسترخصوا في سبيل دينهم واستقلالهم كلَّ غالٍ ونفيس حتى استسلم الأمريكان، واضطروا إلى استقبال قادة طالبان والاستسلام لهم.

الأمر نفسه تعاني منه الصهيونية وكيانها المتوحش لأن المجاهدين في فصائل المقاومة أغلبهم حملة القرآن وخريجو المدارس القرآنية، لذا فما يخشاه نتنياهو وحكومته، هو إيقاف الحرب والذي يعني أن المقاومة الإسلامية قد انتصرت، الأمر الذي سيقوِّيها داخليا، ويجمع لها الدعم والتأييد خارجيا، خصوصا مع هذه القفزة الهائلة على مستوى التسلح والاستراتيجية والنجاعة الميدانية للمقاومة، ولذا يعتبر الصهاينةُ الإرهابيون أن القتال ضد الفلسطينيين لا تراجع عنه مهما كلَّف الأمر، وأن الهدف منه هو القضاء على المقاومة، أي هم لا يمانعون في وقف إطلاق النار إذا تخلت المقاومة عن فكرتها والتي تعني الجهاد وحمل السلاح حتى الاستقلال.

ومما يزيد من معاناة الصهاينة واستحالة استمرار كيانهم أنهم يدركون أن الحرب ضد الصهيونية ليست واجبَ الفلسطينيين، بل هي واجب ديني في عنق ملياريْ نسمة من المسلمين، فحتى ولو أبادوا ملايين الفلسطينيين فالمقاومة والجهاد لن يسقطا عن الأردنيين والمصريين والعراقيين والسوريين، فهذا هو الفقه الإسلامي، الذي يرسل الصهاينة عملاءهم العلمانيين ويمولونهم من أجل إعادة قراءة التراث الإسلامي.

وهيهات هيهات فالعلم عند المسلمين لا يرتبط بالورق والدفاتر، وإنما هو مسطر منقوش في القلوب والضمائر، يوَرَّث حفظا واستظهارا خلفا عن سلف حتى تنتهي المرحلة الدنيوية من حياة البشر، فهيمنة الإسلام من جديد هي حتمية تاريخية، ونبوءة في كل الشرائع السماوية، ويشهد لها الواقع الحالي، فلا بديل للبشرية عن الإسلام، فهو الذي يجيب عن الأسئلة العالقة المحيِّرة لدى الشباب من كل الملل والنحل، وهذا ما يفسر الآلاف من المعتنقين الجد للإسلام في مختلف ربوع الأرض، والمتهوك ما عليه إلا الرجوع إلى الإحصائيات الغربية وتقارير مؤسساتها.

إلا أن ما تعانيه المقاومة ليس تقديم الشهداء ولا الدمار في الممتلكات والأرواح، بل ما تعاني منه هي وكلُّ الشرفاء من المسلمين هو الخيانة المباشرة وغير المباشرة في الداخل والخارج، فما تصرفه الصهيونية الدولية من مال في الحرب لا قيمة له أمام ما تصرفه على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والحقوقية، لتشتيت قوى التأييد للقضية، من هنا نعتبر أن “التطبيع” أخطر من القتل والتدمير.

فالصهيونية اليوم لا تهدد وجود الإسلام في أرض فلسطين المغتصبة فحسب، بل تهدد النسيج الاجتماعي والثقافي والديني والاقتصادي للمغاربة ولكل الدول التي تقبل بالتطبيع مع الكيان الغاصب، خصوصا مع عملية إعادة نشر الصهاينة في البلدان التي هاجروا منها للاستيلاء على ثرواتها، فالمكون العبري لم يعد يهوديا بل ظل يتحول من العقيدة اليهودية إلى العقيدة الصهيونية المتطرفة، التي خططت للوطن “القومي” ليهود العالم في مؤتمر بازل 1897، وحازت الاعتراف به من دول الغرب “الديمقراطي” سنة 1948، ومن يومها والغرب في صف الصهاينة من مذبحة دير ياسين 1948 إلى هولوكوست غزة 2023/2024.

فهنيئا للذين ارتقوا، وصبرا للذين بقوا، والعاقبة في كل واقعة لمن لزم الحق وناضل عنه، وكل ذنب بالشهادة مغتفر ومن صبر ظفر.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M