اغتيال المعنى في حفلات التخرّج

24 يوليو 2025 19:30

اغتيال المعنى في حفلات التخرّج

هوية بريس – عبد العلي حمداوي الزمزامي

يُعدّ حفل التخرّج في المؤسسات التعليمية مناسبة تربوية رمزية، تُجسّد نهاية مرحلة من التحصيل العلمي، وتُعلن بداية مسؤوليات معرفية ومجتمعية جديدة. غير أنّ بعض مظاهر الاحتفال التي انتشرت مؤخرًا تُثير تساؤلات جديّة حول المعاني المغيّبة في هذا السياق، وتكشف عن اختلالات تربوية داخل بعض الفضاءات الجامعية.

في هذا السياق، راج على منصات التواصل الاجتماعي -الفايس بوك- مقطع مصوّر أو مقطعين منسوبين لحفلي تخرّج لمؤسستين من المؤسسات في مملكتنا الحبيبة، تظهر مظاهر احتفالية لا تنسجم مع رمزية المناسبة، وتُجسّد انزياحًا عن القيم التعليمية.

ورغم التحفظ حول موثوقية المقطعين، فإن مثل هذه الوقائع تكشف عن إشكالية أعمق، تتعلّق بتفريغ لحظة التخرّج من معناها المعرفي، وتحويلها إلى منصّة للعرض السطحي والاستهلاك الرمزي، أو إن شئت فقل العرض التفاهي.

من المنظور التربوي، يُمثل التخرّج لحظة اعتراف بالجهد، وتكليلًا لمسار تعليمي يستوجب التقدير. وقد أشار الفيلسوف التربوي  الفرنسي فيليب ميريو (Philippe Meirieu) إلى أن “التربية هي بناء المعنى داخل مجتمع المعرفة، لا مجرد تلقين ميكانيكي للمعارف.” وفي سياقنا الشرعي نحن كمسلمين، يُرفع مقام أهل العلم كما ورد في قوله جل وعلا:

“يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” [المجادلة: 11]، مما يكرّس رمزية التخرّج كمرحلة مفصلية في حياة الطالب لا يجوز إفراغها من مضمونها.

إنّ غياب التأطير التربوي وقواعد التنظيم السلوكي للمناسبة يفتح المجال لانحرافات رمزية وسلوكية، تُنتج صورة غير لائقة عن المؤسسة التعليمية عموما والجامعية على وجه الخصوص. وقد أكد المفكر المغربي عبد الكريم غلاب في كتابه فلسفة التربية في المجتمع العربي المعاصر ، على ضرورة حماية القيم التربوية من التآكل تحت ضغط الثقافة الاستهلاكية، بما يضمن بقاء المؤسسة التعليمية في موقعها كمُنْتج للمعنى، لا مستهلك للفراغ القيمي.

في ضوء ذلك، تُطرح ضرورة إشراك جميع مكوّنات المؤسسة التعليمية الجامعيةخاصة —الإدارة، الأساتذة، الطلبة—في صياغة فلسفة تربوية حول حفلات التخرّج، تضمن:

– إعداد ورش تربوية تُمهّد للمناسبة وتُعمّق وعي الطلبة بمعانيها.

– وضع دليل سلوكي يحدّد الأطر الرمزية المقبولة ضمن الاحتفال.

– إشراك الطلبة في التنظيم بروح المسؤولية والتقدير، بدل التلقي السلبي.

ويأتي هذا التوجّه منسجمًا مع حديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

“من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخط وافر” (رواه أحمد وابن حبان عن أبي الدرداء رضي الله عن) الذي يُبرِز قيمة التعلم كعبادة وسعي نحو النضج، لا مناسبة للترف والفراغ.

إنّ الطالب في لحظة التخرّج لا يُعبّر فقط عن نجاحه الأكاديمي، بل يعلن عن نضجه السلوكي والمعرفي. وإذا ما غابت هذه الرمزية عن المشهد، تتحوّل الشهادة من عنوانٍ للجدارة إلى وثيقةٍ فاقدة للدلالة التربوية. ويُحيل هذا الأمر إلى عمق الإشكال التربوي المتمثل في فقدان الرسالة القيمية للمؤسسات التعليمية. وقد أشار الدكتور مصطفى محسن في كتابه التربية والمعنى: نحو إعادة تعريف المعرفة ، إلى أن كل مؤسسة تعليمية تُغفل البعد الرمزي والسلوكي في مخرجاتها، تُفرّغ شهاداتها من معناها، وتُنتج أفرادًا دون أثر معرفي أو تربوي واضح. وهو قول يُحيل إلى صميم الإشكال المتعلق بفقدان الرسالة القيمية للمؤسسات التعليمية.

وفي الختام، فإن التخرّج—بما يحمله من دلالات معرفية، تربوية، وسلوكية—يجب أن يبقى إعلانًا عن الانتقال إلى مرحلة من المسؤولية المجتمعية، لا خروجا استعراضيًا من عبء الدراسة. وإن المؤسسات التي تُغذّي التفاهة بدل المعنى، تُساهم في تفريغ العلم من قيمته، وتحجب عن المجتمع صورة النخبة التي يفترض بها أن تقوده نحو غدٍ أفضل.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
18°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة