إلغاء إلزامية الخطبة الموحدة عين الصواب والحكمة

16 يوليو 2024 14:42

هوية بريس – د. عبد الله السباعي

تنفس المغاربة الصعداء حين أعلن المجلس العلمي الأعلى إلغاءَ إلزامية التقيد بالخطبة الموحدة، ورأوا أنَّ ذلك عينُ الصوابِ والحكمة؛ وذلك لما في توحيد الخطبة من المفاسد على الخطباء وعلى المصلين، من شأنها أن تعود بالبطلان على خطة “تسديد التبليغ”، وأن تأتي على بنيانها من القواعد؛ وبيان ذلك أن الخطة تروم سد الفجوة بين الدين والتّدين عند المغاربة، وتهدف إلى أن يكون للتبليغ أثرٌ على سلوك المغاربة، بحيث يظهر التَّدَيُّنُ في حياتهم اليومية، فيثمر لهم الحياة الطيبة وسعادة الدارين، ولا يتأتى ذلك إلا إذا استطاع الخطباء والوعَّاظ أن ينفذوا إلى قلوب الناس، بحيث تلامس كلماتهم شغافَ قلوبهم، وتصل رسالاتهم إلى سويداء أفئدتهم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان بلاغُهم بلاغا مبينا تعقله القلوب، ويحصل به الفهم والإفهام، وتقوم به الحجة على العباد، ولهذا كانت مهمة الرسل ليس هي مطلق البلاغ، وإنما البلاغ المبين، كما قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَياَ۬لرُّسُلِ إِلَّا اَ۬لْبَلَٰغُ اُ۬لْمُبِينُ﴾ [النحل:35]، وتوحيد الخطبة يعتبر عائقا أمام تحقيق هذا الهدف، من جهتين: من جهة الخطيب، ومن جهة المصلين:

➢ فأما من جهة الخطيب فتوحيد الخطبة يعوقه من وجوه كثيرة منها:

1) أن مطالبة الخطيب بسرد الخطبة، وعدم التصرف فيها بنقص ولا بزيادة -ولو كانت الزيادة شرحا وبيانا- جعل كثيرا من الخطباء يشعرون بأنهم ليسوا محل ثقة عند الجهات المعنية لا في علمهم وكفاءتهم، ولا في صدقهم وأمانتهم، وهذا ينتج عنه شعور بالإهانة وعدم التقدير، وعدم اعتبار لمعرفتهم بأحوال المخاطبين ومستوياتهم، وما يفشو فيهم من المخالفات الشرعية المخلة بحسن تدينهم، والتي تختلف من منطقة إلى أخرى، هذا الشعور يُحَطِّم معنويات الخطباء، ويجعلهم غير متفاعلين مع الخطبة المفروضة عليهم، فيؤدونها ببرود وانكسار، ومن المعلوم أن الكلام إذا لم يخرج من القلب فإنه لا يجاوز الآذان، ولا يبلغ القلوب. وهذا يُبَدِّدُ التبليغ ولا يسدده.

2) أن لغة الخطبة لا تناسب جميع الخطباءومستوياتهم، وكثير منهم لا يُحسن قراءة الخطبة بلغة سليمة خالية من الأخطاء النحوية واللغوية؛ مما يجعل بعضهم يتلعثم، أو يلحن لحنا فاحشا، بل إني أجزم أن بعض الخطباء -خاصة في العالم القروي- قد تخفى عليه كثير من المعاني والألفاظ في الخطبة، فكيف نريد منه أن ينجح في تبليغ شيء لا يفهمه ولا يحسن قراءته؟! وكيف نريد من المتلقي أن يتأثر برسالة خطيب لا يفهمها ولا يكاد يُبِينُ في قراءتها؟!

3) بعض الخطباء جمع الله له بين العلم وفصاحة اللسان، ولا يحب القراءة من الأوراق؛ لأن ذلك يحول بينه وبين التواصل المباشر مع المخاطبين، والذي يعتبر نجاحه أساسا لنجاح مهمة التبليغ.

4) بعض الخطباء أساتذة ودكاترة بل وعلماءمتخصصون، يستطيع أحدهم إعداد خطبة مثل الخطبة المقترحة أو أحسن منها بمراحل، فإلزامهم بالقراءة الحرفية للخطبة الموحدة يعني عدم اعتبار لمنزلتهم العلمية، ومعاملتهم مثل غيرهم من الخطباء الذين ليس لهم أي تكوين علمي ولا أكاديمي، وتسوية لهم بمن يحمل الشهادة الابتدائية أو ربما لا يحملها، مما جعل كثيرا من هذه الفئة يفكر في اعتزال الخطابة، مما يُعْتَبَر خسارةً كبيرة للمشروع، وإصابةً في مقتل لخطة التسديد، التي لن تنجح -إن كُتِبَ لها النجاح- إلا بمثل هذه القامات والكفاءات العلمية.

5) بعض الخطباء المتخصصين في العلوم الشرعيةتكون لهم آراء وملاحظات علمية حديثية أو لغوية أو غير ذلك؛ فكيف يطلب منهم عدم التصرف؟! ولماذا لا تحترم آراؤهم واجتهاداتهم؟! أليس إلزامهم بخطبة يرونها معيبة صورة أخرى من صور الاحتقار وعدم الاعتبار، وداع آخر من دواعي التفكير في الاعتزال، وفي ذلك من الأضرار على خطة التسديد ما سبق بيانه.

فمن الملاحظات التي لاحظها بعض الخطباء على سبيل المثال لا الحصر:

– ذكر الحديث أحيانا بغير مصدر (كحديث: “أيها الناس إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي…“، وحديث:” لا هجرة بعد الفتح…“) .

– تخريج بعض الأحاديث من معجم الطبراني ونحوه، مع وجود ما يغني عنها بمعناها في الصحيحين أو أحدهما (كحديث: “أليس هذا اليوم الحرام؟…“).

– العدول عن الألفاظ الصحيحة إلى ألفاظ لا يعلم لها أصل، كلفظ : “المهاجر من هجر المعاصي“.

– عدم العناية ببيان درجة الأحاديث المخرجة من غير الصحيحين، وهذا مهم جدا؛ لأنه يُرَبِّي المصلين على عدم قبول كل ما يروج في وسائل التواصل.

– استعمال أساليب لغوية ركيكة أحيانا، يضيع بها المعنى، والوقوع في بعض الأخطاء اللغوية، كقولهم في الخطبة الأخيرة: “لقد جاء البيان القرآني مبرزا على هذا المعنى”، وصواب العبارة: “مبرزا هذا المعنى”، فمن المعلوم أن أبرز يتعدى بنفسه، ولا أظن هذا يخفى على كاتب الخطبة، فإن كانت هذه مجرد هفوة، فظهورها يجعلنا نتساءل: هل تُعَمَّم الخطبة على الخطباء كلهم أجمعين أبتعين من غير أن تُراجَع من قبل لجنة للمراجعة والتدقيق؟!

كانت هذه بعض الأمثلة، ولعل الله ييسر تتبع هفوات الخطب الموحدة في مقالات لاحقة…

• وبالجملة فتوحيد الخطبة لن يناسب إلا فئة من الخطباء المسترزقين، الذين يتعاملون مع مهمتهم كوظيفة ومصدر من مصادر الرزق، وليست عندهم هِمَّة رسالية لتبليغ الناس ونفعهم، وإنما مثل أحدهم كمثل أي موظف في مكتب حكومي، يقوم بما طُلب منه للحفاظ على منصبه، وتحسين وضعيته الاجتماعية. وهذا النوع لا يُفرح بهم، ولا يُعَوَّلُ عليهم في إنجاح خطة “تسديد التبليغ”، نظرا لغياب همة التبليغ عند هذه الفئة أساسا، وفاقد الشيء لا يعطيه.

➢ وأما من جهة المصلين فتوحيد الخطبة يعتبر عائقا من عوائق التبليغ من وجوه كثيرة:

1) شعور المصلين بالإهانة؛ لأن فرض خطبة موحدةعليهم يشعرهم أن الجهات الرسمية تغتنم حرصهم على أداء الفريضة؛ لاستغلال المنبر، واستعمال الخطيب، من أجل سوقهم كما تُساق النعاج، وذلك بغض النظر عن الخطة وأهدافها النبيلة، فقد سمعنا تَضَجُّرَ واستياءَ كثير من الناس، ولو أجري استطلاع للرأي نزيهٌ لربما فاقت نسبة الرافضين لتوحيد الخطبة %90، وذلك التضجر والاستياء يحول بين الناس وبين انتفاعهم بالخطبة، ويحول دون نجاح الخطة.

2) شعور الناس بأن الخطيب ليست له شخصية، وإنما هو مجرد “بوق” يَتَهَجَّى ما يُمْلَى عليه حرفيا بغير زيادة ولا نقصان، وهذا يذهب بمصداقيته عند الناس، ويَحُطُّ من قدره عندهم، ويحول دون انتفاعهم به.

3) المستوى المتواضع لأغلب المصلين في اللغة العربية يحول دون فهمهم للخطبة، فأغلب المصلين مستواهم الدراسي متواضع، والمثقفون منهم تغلب على كثير منهم -كالأطباء مثلا- الثقافة الفرنسية، وبضاعة أكثرهم في اللغة العربية ضعيفة مزجاة، وقد سألت طائفة من المصلين عن الخطبة الأولى الموحدة، فصرحلي بعضهم بأنه لم يفهم شيئا، وصرح البعض أن قد فهم بعضا ولم يفهم البعض الآخر، فكيف يمكن للناس أن ينتفعوا بشيء لا يفهمونه، أو لا يفهمون أكثره؟! فهل يفهم المواطن العادي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يستدل بها من غير أن يوضح له معناها، ويُبَيَّن له محل الشاهد منها، بلغة يفهمها، ولو بالدارجة إن اقتضى الحال ذلك؟! وهل يفهم المواطن العادي كلام العلماء المفسرين كابن عاشور (وإن لم يُصرح باسمه لسبب مما!!) بلغتهم العاليةمن غير أن يوضح كلامهم للعامة بلغة قريبة منهم؟!

4) أغلب الناس في العالم القروي وفي المناطق التي يتكلم أهلها بالأمازيغية لا يفهمون شيئا من الخطبة الموحدة، خاصة وأن الخطيب ممنوع من التصرف في الخطبة بالزيادة أو النقص أو الشرح… وهذا أمر تجب إعادة النظر فيه في جميع الخطب الموحدة، فإنه يُطلب من الخطيب سردها -بِعُجَرِهَا وَبُجَرِهَا- من غير تغيير أو تصرف فيها، والخطيب يعلم يقينا أن غالب المصلين في قريته أُمِّيُّون أو كَالأُمِّيِّين، وأنهم لا يفهمون شيئا مما يقال لهم، فهل هناك عبث أَفْظَع من هذا؟!

5) توحيد الخطبة جعل بعض المصلين يشكك في مصداقية خطة “تسديد التبليغ”، ويتكهن تكهنات من قبيل:

هل يُقصد بهذه الخطبة التي لا يفهمها كثير من الناس منعهم من الاستفادة من خطبائهم؟

أم هل يقصد تفريغ خطبة الجمعة من محتواها لتصبح ألفاظا بلا معنى، جسدا بلا روح؟

أم هل يقصد من توحيد الخطبة منع الخطباء من الدعاء لأهل فلسطين بالنصر على أعدائهم؟! ولا شك أن شيوع مثل هذه التكهنات في وسائل التواصل يصيب خطة التسديد في مقتل.

فهذه خمسة عوائق من جهة المصلين تحول دون انتفاعهم بالخطبة الموحدة، وقد تقدم ذكر خمسة مثلها من جهة الخطيب، فتلك عشرة كاملة، كلها تدل بما لا مجال معه للشك أن قرار إلغاء إلزامية الخطبة الموحدة، كان قرارا سديدا حكيما، ونسأل الله عز وجل أن يسدد القائمين على الشأن الديني، وأن يوفقهم لما في خير البلاد والعباد.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M