الأجيال المغربية من تحرير إلى “زِدْ”

الأجيال المغربية من تحرير إلى زِدْ
هوية بريس – د. الحضري لطفي
مقدمة
الحديث عن الأجيال في التاريخ المغربي ليس مجرد لعبة زمنية تقسم الماضي إلى مراحل، بل هو منهج لفهم البنية النفسية والاجتماعية والسياسية لكل مرحلة. فالأجيال ليست كتلًا صمّاء يمكن الحكم عليها بجملة اختزالية: “جيل اتكالي”، “جيل لا يخاف”، أو “جيل بلا قيمة”. هذه صور سطحية تُسقط التنوّع الداخلي وتُلغي السياق الموضوعي الذي عاشه كل جيل. المنهج الصائب هو أن نحاكم الأجيال وفق تضحياتها وظروفها، وأن نرى في كل جيل حلقةً من حلقات السعي نحو الحرية والكرامة.
يمكن أن نُقسّم المغرب الحديث إلى ثلاث محطات كبرى:
1. جيل الاستقلال: جيل التأسيس والتحرر.
2. جيل الرصاص: جيل الصمود تحت القمع.
3. جيل “الرقمي”: جيل التغيير والاعتراف.
4. ديل الذكاء الصطناعي: AI
فكل جيل يتفاعل مع تحدياته، ويترك بصمته في التاريخ من خلال تضحيات لا يمكن تجاهلها. الحكم العادل يقتضي النظر إلى السياق الذي نشأ فيه كل جيل، وما قدّمه في مسيرة بناء الوطن، بدلًا من مقارنات سطحية تحجب العمق الحقيقي لمساره.
جيل الاستقلال: تضحيات التأسيس والتحرر
تشكل المقاومة المغربية ضد الاحتلالين الإسباني والفرنسي ملحمة تاريخية حافلة بشخصيات عظيمة قادت المقاومة المسلحة والحركة الوطنية. كان جيل الاستقلال على وعيٍ بأن الموت قريب منه، وأن أي حركة أو انتفاضة قد تُواجه بالرصاص المباشر، ومع ذلك اختار أن يتحرك، وأن يقدّم أغلى التضحيات في سبيل الحرية. ونظرًا لكثرة الأسماء وتنوع أشكال المقاومة (مسلحة، سياسية، فكرية)، فإن ما يلي يمثل أبرز وأشهر هؤلاء المقاومين والمناضلين دون أن يحيط بكل من ساهم في مسيرة التحرير:
قادة المقاومة المسلحة:
₋ محمد بن عبد الكريم الخطابي: قائد ثورة الريف ومعركة أنوال (1921)، رمز عالمي للمقاومة.
₋ موحا أوحمو الزياني: قائد معركة الهري (1914) ضد الفرنسيين.
₋ أحمد الهيبة بن ماء العينين: بطل معركة سيدي بو عثمان (1912).
₋ الشريف محمد أمزيان: من أوائل قادة الريف ضد الإسبان (استشهد 1912).
₋ عسو أو بسلام: قائد معركة بوغافر (1933) بالأطلس الصغير.
₋ حمو وسلام: مقاوم بارز في الجنوب (ورزازات وتافيلالت).
رواد الحركة الوطنية والنضال السياسي:
₋ علال الفاسي: زعيم الحركة الوطنية ومؤسس حزب الاستقلال.
₋ محمد بن الحسن الوزاني: مؤسس حزب الشورى والاستقلال.
₋ أحمد بلافريج: قيادي بحزب الاستقلال، من الموقعين على وثيقة الاستقلال (1944).
₋ محمد الزرقطوني: قائد المقاومة المسلحة الحضرية في الدار البيضاء (1953).
₋ مليكة الفاسي: رائدة مغربية، موقعة على وثيقة الاستقلال.
₋ عبد الخالق الطريس: من قادة المنطقة الشمالية (منطقة الحماية الإسبانية).
₋ عبد السلام بنونة والطيب بنونة: من وجوه النضال الوطني في الشمال.
₋ محمد المختار السوسي: عالم ومثقف مقاوم من الجنوب.
₋ عبد الله إبراهيم: سياسي ومناضل، تولى رئاسة الحكومة بعد الاستقلال.
المقاومون في جيش التحرير والفداء:
إلى جانب قادة المقاومة المسلحة ورواد الحركة الوطنية، برزت أسماء عديدة في مرحلة الكفاح المسلح المنظم، خصوصًا بعد نفي السلطان محمد الخامس عام 1953، حيث تحولت المقاومة إلى عمل فدائي سري اعتمد على الخلايا المسلحة:
₋ علال بن عبد الله: الفدائي الذي حاول اغتيال محمد بن عرفة (1953).
₋ إبراهيم الروداني: من أبرز وجوه المقاومة المسلحة والنقابية.
• الفقيه البصري (محمد البصري): من أبرز قادة جيش التحرير، ومن مؤسسيه في الشمال والجنوب، ولعب دوراً محورياً في تنسيق العمليات المسلحة.
• عمر بن عبد الجليل: من قادة المقاومة المسلحة في المدن، نشط في تنسيق الخلايا الفدائية بالدار البيضاء والمناطق المجاورة.
• أبو بكر القادري: من رواد الحركة الوطنية الذين دعموا ونسّقوا مع العمل الفدائي.
• المهدي بن بركة: لعب دورًا تنظيميًا بارزًا في تنسيق العمل الوطني والمقاومة المسلحة بعد عودته من المنفى.
• محمد بلقاسم الناصري: مناضل وطني بارز انخرط في العمل الفدائي في الشمال.
• عباس المساعدي: من القادة الميدانيين الأوائل لـ جيش التحرير في الشمال، ساهم في تنظيم صفوف المقاومة.
• محمد بن أحمد بن محمد أشهبار: من قادة المقاومة المسلحة في الجنوب والصحراء، شارك في عمليات جيش التحرير.
هذه المرحلة أظهرت أن جيل الاستقلال كان يدرك أن الموت يلاحقه في كل لحظة، وأن أي عملية فدائية قد تنتهي بالرصاص المباشر. ومع ذلك، استمر في المقاومة، ليؤكد أن التضحية لم تكن خيارًا ثانويًا بل قدرًا اختاره هذا الجيل بوعي كامل.
وجد هذا الجيل نفسه، بعد التحرير، أمام تحديات بناء الدولة الحديثة والصراع على توزيع السلطة والموارد، وهي تحديات ستكون نواة لبروز جيل الرصاص.
تنبيه منهجي
هذه الأسماء تمثل قممًا شامخة في تاريخ جيل الاستقلال، غير أن آلاف الرجال والنساء في مختلف المناطق ساهموا في مسار التحرير. فلا يمكن حصر التضحيات في شخصيات معدودة، بل هي ملحمة جماعية صنعتها أجيال متعددة من كل الشرائح الاجتماعية.
جيل الرصاص: تضحيات الصمود والذاكرة
جيل الرصاص هو الجيل الذي عاصر سنوات الرصاص، ودخل في صراع مع السلطة من أجل الإصلاح السياسي والديمقراطي، ودفع لذلك ثمناً باهظاً من حريته وحياته.
بعد الاستقلال، دخل المغرب مرحلة صعبة اتسمت بالتوترات السياسية والاجتماعية. هذا الجيل لم يواجه مستعمِرًا خارجيًا كما فعل جيل الاستقلال، بل عاش تحت ضغوط داخلية رافقت بناء الدولة الوطنية، وتجلّت في تضييق سياسي واجتماعي واسع:
₋ انتفاضات شعبية: مثل أحداث الدار البيضاء 1965، وانتفاضات 1981 و1984 و1990.
₋ الحركات الطلابية والنقابية: فضاءات مقاومة بالفكر والتنظيم، انتهى كثير من رموزها في السجون.
₋ المعتقلات السرية: تازمامارت ودرب مولاي الشريف كرمزين لثمن الحرية.
جيل الرصاص حفظ للذاكرة الوطنية شعلة الحرية، وأثبت أن التضحية ليست دائمًا بالسلاح، بل بالصمود والمقاومة السلمية.
جيل “الرقمي”: تضحيات الحاضر والمستقبل
هو جيل خرج إلى الشارع في زمن العولمة والرقمنة ليطالب بالكرامة والاعتراف. (الجيل الرقمي يشار إليه أحيانًا باسم “الجيل زِدْ” في الأدبيات العالمية)، لم يولد في زمن الاستعمار ولا عاش سنوات الرصاص، لكنه وجد نفسه في مواجهة تحديات جديدة تتعلق بالعدالة الاجتماعية والمشاركة في صنع القرار:
₋ حركة 20 فبراير (2011): محطة فارقة أعادت سؤال الإصلاح والحرية إلى صدارة النقاش الوطني.
₋ الاحتجاجات الاجتماعية (الريف وجرادة): رفعت مطالب الكرامة والتنمية، وانتهت بكثير من المشاركين إلى أحكام ثقيلة.
₋ الاحتجاجات المتواصلة: التي تخص التعليم والبطالة وغلاء المعيشة، وتكشف عن إصرار على جعل قضايا الشباب في قلب النقاش الوطني.
هذا الجيل يغامر بمستقبله الشخصي، ويضحّي براحته وأمنه الاجتماعي من أجل أن يُسمع صوته ويشارك في رسم مستقبل وطنه.
جيل الذكاء الاصطناعي
يُطلَق مسمى “جيل الذكاء الاصطناعي” (Generation Alpha) على المواليد الذين يبدأ تصنيفهم تقريبًا من عام 2010 فصاعدًا. هذا الجيل لم يدخل بعد إلى مرحلة الرشد والقيادة، لكنه يمثل نقطة تحول حاسمة في سلسلة الأجيال المغربية.
تبدأ هذه التسمية تقريباً من عام 2010، وهي الفترة التي شهدت الانتشار الواسع والمكثف لـ الهواتف الذكية ووصول شبكات الجيل الثالث والرابع (3G/4G) إلى أغلب المدن المغربية، وبلغت فيها وسائل التواصل الاجتماعي ذروة تأثيرها.
إذا كان “الجيل الرقمي” قد استخدم التكنولوجيا كأداة للمطالبة والاحتجاج، فإن “جيل الذكاء الاصطناعي” يولد ويعيش داخل هذه التكنولوجيا. لقد بدأوا حياتهم في عالم لم يعد فيه الإنترنت مجرد شبكة، بل هو بيئة مدمجة مع كل نشاط يومي: التعليم، الترفيه، التواصل.
سمات وهوية الجيل
جيل الذكاء الاصطناعي في المغرب يتشكل بخصائص فريدة:
• المواطنة الرقمية الأصلية: هذا هو الجيل الأول الذي لم يعرف عالماً بدون “شاشات اللمس” والمساعدات الرقمية. يتعلمون ويتفاعلون بأساليب مختلفة تماماً عن آبائهم (الجيل الرقمي) وأجدادهم (جيل الرصاص والاستقلال).
• عولمة الهوية: هذا الجيل هو الأكثر عرضة للانفتاح على الثقافات العالمية بشكل مباشر وغير خاضع للرقابة التقليدية، مما يطرح تحديات كبيرة أمام الهوية الثقافية واللغوية المغربية التقليدية، ويزيد من الوعي بضرورة التميز في فضاء عالمي تنافسي.
• التكيف مع الـ AI كواقع: ستكون أدوات الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من مسارهم التعليمي والمهني. سيجدون أنفسهم في سوق عمل يتمحور حول المهارات الرقمية المتقدمة وحل المشكلات المعقدة التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، مما يتطلب منهم مرونة معرفية عالية.
• تحديات التنمية المتفاوتة: في المغرب، يواجه هذا الجيل تحدياً كبيراً يتمثل في التفاوت الرقمي بين المدن والمناطق النائية، مما قد يؤدي إلى فجوة أكبر في الفرص بين من يستطيع الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة ومن لا يستطيع.
بالإضافة إلى التحديات المهنية، سيواجه هذا الجيل تحديات أخلاقية وتشريعية تتعلق بـ خصوصية البيانات، والنزاهة الرقمية، ومستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة في المجتمع المغربي، ويبرز التحدي الأكبر في الحفاظ على التوازن العقائدي في مواجهة الشبهات والأفكار الفلسفية المعقدة التي يثيرها الذكاء الاصطناعي في الفضاء الرقمي.
الفطرة الجامعة: الحرية كخيط ناظم
رغم اختلاف الظروف، فإن الرابط بين الأجيال الثلاثة هو فطرة الحرية التي لا تموت. الحرية جعلت جيل الاستقلال يحمل السلاح، وجيل الرصاص يصمد في السجون، وجيل “زاد” يهتف في الشوارع. هي حاجة وجودية لا يمكن أن تُختزل في حزب أو حركة.
والمثال الأبرز هو فلسطين: لا يجوز اختزال الشعب الفلسطيني في فصيل واحد. فـحما-س ليست الشعب، بل ثمرة تراكم أجيال المق-اومة، من ثورة 1936 إلى منظمة التحرير، إلى الانتفاضتين، وصولًا إلى جيل اليوم. الحرية هناك هي نفسها الحرية هنا: توق فطري يربط بين الأجيال مهما اختلفت الوسائل.
خاتمة
يمثل هذا التصنيف للأجيال المغربية، والمُؤطَّر حول مفاهيم التضحية والصراع على الكرامة والحرية، إطاراً تحليلياً رصيناً لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية في المملكة. لقد أثبت التحليل أن الذاكرة الجماعية للمجتمع المغربي تتشكل من خلال سلسلة من المواجهات الوجودية المتتابعة: من التضحية بالدم لتحقيق التحرير والاستقلال (جيل الاستقلال)، إلى التضحية بالحرية لتحقيق الإصلاح السياسي (جيل الرصاص)، وصولاً إلى المخاطرة بالمستقبل لفرض العدالة الاجتماعية والاعتراف (الجيل الرقمي).
إن التحدي اليوم يقع على عاتق جيل الذكاء الاصطناعي (Alpha)، الذي يجد نفسه أمام مسؤولية التكيف المعرفي والتقني غير المسبوق. إن الرهان لم يعد مقتصراً على الصمود السياسي أو الاقتصادي، بل يمتد إلى الاستدامة المعرفية والهُوياتية. ففي ظل الهيمنة الرقمية وتزايد تأثيرات الذكاء الاصطناعي، تبرز إشكالية الحفاظ على التوازن العقائدي والمرجعية الأخلاقية في مواجهة الشبهات الفلسفية وتحديات الخوارزميات.
بالتالي، فإن مشروع الحرية والكرامة في المغرب يبقى مشروعاً متجدداً ومستمراً، ينتقل من جيل إلى جيل بأدوات مختلفة، لكن بخيط ناظم ثابت هو السعي الدائم نحو بناء ذات وطنية قادرة على التنافس والاحتواء



