الأدبُ والحياة
هوية بريس – ربيع السملالي
الأديب الذي لا يمشي في الأسواق والشوارع ولا يجالس كلّ من هبّ ودبّ، ويظلّ حِلْسَ بيته دافنًا وجهه في الكتب، لا يمكن أن يخلق لنا نصًّا ذَا بال نابضًا بالحياة؛ يتجاوز الزمان والمكان ويشق طريقه نحو الخلود.. فالقارئ ينتظر دوما من الكاتب أن يعبّر عما تجيش به نفسه من آلام وآمال.. فكيف لهذا الأديب أن يفعل ذلك وهو ينزّه نفسه (المقدسة) عن الاختلاط بالنّاس والاستماع إليهم وإلى معاناتهم.. فهو يعيش حياة رغد هادئة في حماية أهله، فلا تحتك أكتافه بأكتاف الناس، ولا يتعرض جسمه كما يقول جبرا لعواصف حبهم وحقدهم.
إنّ الكتابة الجادّة المُحكمة ينبغي أن تستلهم الأحزان وشجون النّفس، وأن تدوّن الخسارات والخيبات، وأن تروي أزمات الرّوح والأحلام الكثيرة التي تحطّمت في القلب. يُقال إنّ المعاناة والألم والحرمان تسهم في إذكاء وهج الإبداع لدى كثير من الكُتّاب. لذلك نجد سير الكتّاب المبدعين حافلة بقصص الحرمان والقهر.
فالحياة على حد تعبير زكي مبارك: هي كتاب الأديب، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة، وإنّه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود، لا أن نترك الحقيقة ونبحث عنها في الخيال، ونهرب من العالم ونلجأ إلى القلم.
وقد وجدت هذا المعنى واضحًا عند كثير من كُتّابي المفضلين أذكر على سبيل المثال نجيب محفوظ، فرواياته تزخر بالحياة بكل أشكالها وألوانها.. وإن كان الغالب على شخوصه الحزن والبؤس والألم والتعاسة.. فكأنّه يؤرخ لحياة الضنك التي كان يحياها الإنسان المصري في زمانه!..
إن الكتاب كما يقول حنا مينه في كتابه (كيف حملت القلم؛ ص:33): يكمّل معرفتنا بالإنسان والطبيعة، ويظهر لنا ما كان يتعذّر علينا أن نراه فيهما، وبالمقابلة فإنّ الإنسان والطبيعة يكملان معرفتنا بالكتاب، ويظهران لنا ما كان يتعذّر فهمه فيه، فإذا حجب أحدهما الآخر، أي إذا حجبت الكتب عنّا النّاس، أو إذا حجب الناس عنّا الكتب، لم نحصل إلا على أحد شطري المعرفة، وبقينا نظريين بدون تجربة، أو تجريبيين بدون نظرية، ولم تستقم لنا المعادلة المطلوبة مع الاعتراف بأن التجربة ترتفع إلى مستوى النظرية في الممارسة العملية أحيانا.
الجاحظ، أحد أكبر كتابنا ونوابغنا العرب، أدرك هذه الحقيقة وطبقها تطبيقًا صحيحًا في حياته. كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر في ما حوته من الكتب، وقد ثابر على ذلك طيلة حياته، حتى كان أحد شهدائها الأمجاد، فقد انهارت عليه رفوفها وأكداسها وهو مقعد، فذهب في موكب الظمأ الذي لا يرتوي إلى المعرفة.
بيد أن الجاحظ، وهذه حاله مع الكتب، لم يكن يسمح لها أن تحجب الناس عنه، كان يعيش ليلاً مع الكتب ونهارًا مع الناس، يشاكل طبقاتهم، ويسألهم عما يهمه ويريد أن يتفهمه، ويأخذ من كل من يعتقد أن عنده من المعارف ما ليس عند سواه، فهو (يسترشد بآراء الحراس، ويتحدث إلى الحواة والجزارين والعطارين والنجارين والصيادين والأكارين والقابلات ويسأل الحشوة وأرباب البطانة، وقد يأخذ بآراء البحريين إذا رووا له غرائب قبلها عقله، أو يردها إذا كانت حديث خرافة، ويتحدث إلى كل من عنده طرائف من الكلام وعجائب من الأقسام).
ومن غريب ما يحضرني في هذا الباب ما ذكره جبرا إبراهيم جبرا في كتابه (أقنعة الحقيقة وأقنعة الخيال؛ ص:28) أنّ الشاعر الإنجليزي المعاصر ديلن توماس عندما انتهى من حديث له عن الشّعر في إحدى القاعات في الولايات المتحدة، قامت فتاة جميلة من بين الجمهور وسألته: أريدُ أن أصير شاعرةً، فهلا أخبرتني ما يجب أن أفعل؟
فرفع رأسه من بين أوراقه وألقى عليها نظرة، ثمّ قال: (اذهبي وصيري عاهرة).
فهبطت الفتاةُ خائبةً في مقعدها، وخيّم على القاعة سكون عميق.
لعلّ هذا الشاعر السريالي أراد أن يصدم مستمعيه، لأنّه ككثير من رفقته يجد مُتعةً في صدم المستمعين. ولكنّه في الواقع عبّر عن مبدأ أولي في قول الشّعر، فوضعه في هذه العبارة الجارحة ليؤكّد معناه.
فقد أراد أن يقول: اذهبي واختلطي بالنّاس. اعرفي البشر في ساعات ضعفهم. استشعري شهواتهم. المسي حقارتهم. تحسّسي مخاوفهم. روزي قروشهم. اخترقي رياءهم. استمعي إلى قهقهاتهم. بللي وجهك بدموعهم. افهمي شتائمهم. اذهبي واختبري الحياة. اختبري الحياة. اختبريها وجرّبيها تقولي الشّعر.
وفي كتابي “زاد الأديب” ص:172، مقالة بعنوان “بائعو الوهم”:
إنّ الكتابة عمل إنساني يَهدفُ بالدّرجة الأولى إلى تنوير القُرّاء وإلى وضع كثير من النقاط فوق كثير من الأحرف.. كي تُصبحَ قراءة الواقع ممكنة وفهم الواقع مستطاعًا، والتّعامل مع المتغيّرات أيسر. الكتابة ما لم تكن تعبيرًا عن حقّ ملايين القُرّاء في حياة أفضل بكل معانيها فهي لا تساوي وزنها ورقًا..
ولله درّ الدّكتور زكي مبارك الذي فهم هذا المعنى فهما جيّدا فقال عن نفسه حين كان فقيرا في باريس:
لم يكن أمامي إلاّ مسلك واحد هو الاندماج المطلق في باريس لأحدّثَ قُرّاء (البلاغ) بأحاديث مُنتزعة من الحياة الواقعة في باريس، وكان لابدّ من معاقرة الحياة في باريس لأنجح في مراسلة (البلاغ).. .وهدتني الفِطرة إلى قضاء أوقات الفراغ في الملاهي والمراقص والقهوات.
كنتُ أذرع باريس بقدمي لأخلق لمقالاتي جوّا من الحقيقة لا من الخيال.
وقال في موضع آخر من ذكرياته في باريس:
أنا تركتُ العالم يموجُ على شواطئ السين، ولكن لماذا؟
لأقرأ كتابًا يتحدّثُ عن العالَم؟.. هذا حمق وسفه. كيف أترك الحقيقة ثمّ أبحث عنها في ألفاف الخيال؟ ألأكتبَ بحثًا يشرح بعضَ حقائق العالَم؟ كيف؟ وأنا أهربُ من العالم لألجأ إلى القلم والكتاب والمصباح.
في أخبار الأدب الفرنسي أنّ أديبًا كان يكتبُ كلّ يوم قصة ويرسلها إلى إحدى الجرائد، وكان يتمنى في كل صباح أن تنشر له قصة فيأخذ عليها أجرًا ينتفع به في معاشه، ولكن الجريدة التي كان يرسل إليها أقاصيصه لم تنشر له شيئًا، وكذلك كان يستقبل كل صباح بأمل خائب وإحساس مطعون. واتفق له يومًا أن يتأمل أحوال البيت الذي يعيش فيه فوقف على أخبار طفل يتيم دمعت له عيناه؛ فكتب فيه أقصوصة سماها (اليتيم) وأرسلها إلى تلك الجريدة التي أهملت كل ما كتب، وكان يخشى أن تنال تلك الأقصوصة ما نالت أخواتها السوالف من الإهمال، ثم فوجئ بظهور تلك الأقصوصة في صباح اليوم التالي، وما كاد ينتهي من مراجعة الجريدة حتى جاءه خطاب في صك بمبلغ من المال مكافأة على قصته، وفي الخطاب فوق هذا كلمات من طيب الثناء، وأراد ذلك الأديب أن يحاسب نفسه وأن يقارن بين ما كتب بالأمس وما كتب اليوم، فرأى أن أقاصيص الأمس كانت من وحي الخيال، أما قصة اليوم فكانت من وحي الحياة، وهذا هو السر فيما ظفرت به من كريم القبول.
ويرى جبرا إبراهيم جبرا أنّ أحد الأسباب في قلّة الشاعرات المجيدات، هو عدم اختلاطهن بالنّاس وعنفهم، وقال: إنّهن يعشن في أغلب الأحيان مصانات في عزلة اجتماعية رتيبة. إلا إذا عرفن ذلك الصراع الداخلي المُمزّق الذي ينتهي بهن إلى الحزن والأنين، أو الثورة، أو الإبداع.
وكذلك الدّكتور عبد الفتاح كيليطو يرى أنّ الكتابة قديما كانت نشاطًا رجوليا. كما في كتابه الأدب والارتياب، وقد طرحت عليه سؤالا في ذلك في ندوة بمعرض الكتاب بالدّار البيضاء فابتسم وقال: كان ذلك قديما.
فلسان حال أغلب القُرّاء كما قال المنفلوطي في نظراته (ج1/ص11): فكنتُ لا أقرأ إلاّ ما أفهم، ولا أفهم إلا ما أشعر أنّه خرج من فم قائله خروج السهم من القوس، فإذا هو في كبد الرّمية ولُبّها.
وحتّى في المجال الشرعي فلا يمكن للفقيه أن يؤثّر بكلامه وكتبه في النّاس كما ينبغي أن يكون التأثير ما لم يكن مشاركًا في معركة الحياة، ومنافحا عن دينه بلسانه وقلمه ويده كما كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكما قال سيد قطب: إنَّ فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذَ عن القاعدين، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة! إنَّ فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق. وحفظ ما في متون الكتب. والتعامل مع النصوص في غير حركة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، ولم يكن مؤهلاً له في يوم من الأيام. [في ظلال القرآن؛ ج3/ص:1739].
ودامت لكم المسرّات..
القصة والرواية والقصيدة والمقالة الناجحة هي من تعبر عن واقع الناس وحياتهم وتحمل معنى إيجابي في طياتها وسمعت عن كاتب أجنبي له آلاف من المعجبين لإيجابية رواياته،أما نجيب محفوظ فهو قمة من الناحية الفنية ورغم هذا اتهم بسرقة فكرة رواية الطريق من الأديب الشاعر الكبير الهندي طاغور،ومن الناحية الأيديولوجية هو عدو لدود لما يسمى الإسلامية فتراه يجعل من مشاهد أمكنة الفجوروالخلاعة جنانا كجعله للطريق الموصل له زهر وريحان بينما لما يصف المسجد يصفه بئيسا متداعيا خاليا ومؤذنه هو خادم الحشاشين في ثرثرة فوق النيل،وكذلك يقتل دوما أبطاله أما رواية أولاد حارتنا فقمة الضرب في الأديان،بينما نجيب الكيلاني وعبد الحليم عبد الله وحتى إحسان في رائعته شيء في صدري هم أفضل منه احتراما للدين وفنيا يضاهونه ويفوقونه أحيانا.
وفي واقعنا المجتمعي المعاش نماذج وشخوص لو حولت مآسيها لروايات لكانت مدعاة للإحساس بآلام الناس وشهادة على قسوة قلوبنا وتبلد مشاعرنا،ورواية بداية ونهاية لمحفوظ تستحق الإهتمام وهي تعتبر قمة لوصف مجتمع مصري بئيس كمجتمعنا البئيس التعيس المحروم تماما،وكأن مآسي وآلام المجتمع العربي متشابهة متصلة من البداية للنهاية.