الأسرة في مرمى الحداثة.. قراءة بلغة الأرقام في نسب الطلاق

الأسرة في مرمى الحداثة.. قراءة بلغة الأرقام في نسب الطلاق
هوية بريس – نور الدين درواش
تشهد الأسرة المغربية في السنوات الأخيرة تحولات عميقة في بنيتها ووظائفها، انعكست بوضوح في ارتفاع معدلات الطلاق بشكل غير مسبوق. فحسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط، ارتفع عدد حالات الطلاق من 44 ألف حالة سنة 2014 إلى أكثر من 65 ألف حالة سنة 2024، مع هيمنة الطلاق الاتفاقي بنسبة بلغت 89.3%.
هذا التطور الإحصائي لا ينبغي أن يمر مرور الكرام ولا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات الاجتماعية والفكرية التي يعيشها المجتمع المغربي، وعن تأثير التيارات الثقافية الحديثة -خاصة الطرح العلماني والنسوي- على مفاهيم الزواج والعلاقة بين الرجل والمرأة.
ينظر الإسلام إلى الزواج بوصفه ميثاقا غليظا، يقوم على المودة والرحمة والتكامل بين الزوجين، لا على الصراع والمنافسة والشقاق. يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
فالأسرة في التصور الإسلامي ليست عقدا مصلحيا أو علاقة مؤقتة، بل بناء متكامل يتأسس على المسؤولية المشتركة، والرحمة المتبادلة، والالتزام الأخلاقي. والتطلع إلى مشاركة الحياة في الدنيا والآخرة ولهذا جعل الله تعالى الطلاق آخر الحلول عند تعذّر العشرة بالمعروف، فقال سبحانه: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229].
وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة”.
فالإسلام لا يُحرّم الطلاق، لكنه يضعه في موضع الضرورة القصوى، حماية للأسرة من العبث، وصونا للمجتمع من التفكك.
لكنه مع الأسف اليوم انتقل إلى تهرب من المسؤولية واستقالة قبل الأوان من أعباء البيت والأسرة.
لا يمكن أن ننكر أن هناك أسبابا اقتصادية ونفسية تفسر جزءا من ارتفاع نسب الطلاق -كغلاء المعيشة وضغوط الحياة الحديثة- غير أن البعد القيمي والفكري لا يقل خطورة.
لقد أسهم انتشار بعض الأفكار الوافدة، المتأثرة بالطرح العلماني والنسوي، في إعادة تشكيل نظرة عدد من النساء والرجال إلى مؤسسة الزواج خاصة وللحياة على وجه أعم، فصار الاستقلال الفردي أحيانا يُقدَّم على حساب التماسك الأسري، وتُفهم حرية المرأة بمعناها الانفصالي لا التكميلي.
ولئن كان الإسلام قد قرَّر للمرأة استقلالها المالي وكرامتها الإنسانية، فإنه في الوقت نفسه جعل هذا الاستقلال جزء من منظومة التكامل لا من منطق التنازع. فالمرأة شريكة في البناء، وليست خصما في العلاقة، والزواج في الأصل شراكة لا معركة.
إن بعض الخطابات النسوية الحديثة، حين تُصوِّر الأسرة قيدا على الحرية، أو الزواج عبئا على الطموح، تُساهم -من حيث لا تشعر- في ترسيخ ثقافة الانفصال بدل ثقافة الإصلاح. وهذا ما تعكسه الأرقام الأخيرة، حيث بات الطلاق الاتفاقي خيارا سهلا وسريعا بدل الصبر والمعالجة الهادئة للمشكلات.
إن النظرة التي تسوقها كثير من النسويات للطلاق وأنه نجاح وحرية هي نظرة خاطئة، لأن التي تختار الطلاق من غير ما ضرورة ملحة؛ هي في الحقيقة قد أنيطت بها مسؤولية عظيمة فعجزت عن القيام بها فاستقالت واخترت أن تكون بلا مهمة.
إن تفكّك الأسرة لا يعني مجرد انفصال زوجين، بل هو بداية اختلال تربوي واجتماعي واسع. فالأبناء الذين يعيشون تجربة الانفصال غالبا ما يتأثرون نفسيا وسلوكيا، ويواجهون صعوبة في التكيف أو في بناء أسر مستقرة مستقبلا. كما أنّ المرأة المطلقة تتحمّل أعباء مضاعفة، خاصة حين تكون مسؤولة عن إعالة الأبناء في ظروف اقتصادية صعبة.
وكلما ازداد التفكك الأسري، ضعفت الروابط الاجتماعية وتراجع الشعور الجماعي بالمسؤولية، وهو ما يهدد القيم التي بُني عليها المجتمع المغربي عبر تاريخه: قيم التضامن، والرحمة، وصلة الرحم.
من هنا كان واجب المصلحين والعلماء والمربين أن يُعيدوا الاعتبار للخطاب الأسري الرشيد، الذي يُربي على الصبر والحوار، ويُذكّر بأنّ الزواج عبادة قبل أن يكون عادة، وأنّ الطلاق -وإن شُرع- لا يكون إلا بعد استنفاد جميع سبل الإصلاح.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء:35].
فالإصلاح في المنظور الإسلامي ليس ترفا، بل هو واجب ديني وأخلاقي قبل الوصول إلى قرار الانفصال.
إن التحولات الاجتماعية في المغرب تفرض خطابا تربويا جديدا يُعيد التوازن بين الحرية في إطارها المشروع والمسؤولية، وبين التمكين والتكامل.
فالمرأة لا تُكرَّم بانفصالها عن الأسرة، بل بمشاركتها في بنائها، والرجل لا يُعظَّم بسلطته، بل بعدله ورحمته. ومتى التزم الطرفان بهذا الميزان، خفّت أسباب النزاع، وقلّت دواعي الطلاق.
كما ينبغي أن تُعزَّز برامج الإعداد للزواج، وتُنشَّط مبادرات الوساطة الأسرية، وأن يُشرك الإعلام والمدرسة والمسجد في ترسيخ ثقافة الإصلاح والحوار، بدل التسرع إلى الانفصال.
إنّ ظاهرة الطلاق في المغرب اليوم ليست مجرد رقم يتضاعف، بل هي إنذار مجتمعي يستدعي مراجعة المنظومة القيمية التي تضبط علاقة الزوجين.
وإذا كان من الطبيعي أن تقع بعض حالات الانفصال حين تستحيل العشرة، فإنّ غير الطبيعي أن يتحول الطلاق إلى ظاهرة اجتماعية عادية.
فالأسرة المسلمة لا تُبنى على المصلحة العارضة، بل على المودة والرحمة والمسؤولية.
ويبقى استقرار الأسرة المغربية هو استقرار المجتمع نفسه، وصيانته لا تكون بالشعارات ودعاوى الحرية الزائفة، بل بتجديد الوعي الديني والأخلاقي والتربوي لدى الأزواج والشباب معا، حتى تبقى بيوت المسلمين كما أرادها الله سكنا ومودة ورحمة.
والله الهادي إلى سواء السيبل.



