الأمازيغية وضرورة نقد نسق البناء الثقافي الوطني ونسق الكتابة التاريخية
هوية بريس – ذ. محمد بادرة
أكبر إساءة لتاريخنا وثقافاتنا وهويتنا واكبر حركة تخريبية لمؤسساتنا وانسيتنا المغربية انه لم تحصل قطيعة تامة مع نسق الافكار والمفاهيم التي يتداولها علم السياسة الوطني حول المغرب مجتمعا وثقافة منذ ان صاغ رواد الحركة الوطنية قبل وبعد الاستقلال مفهوما خاصا عن الوحدة والامة المغربية يختزل كل الفروقات والتنوعات اللغوية والثقافية والاثنية يختزلها في مجتمع واحد، في لغة واحدة، في ثقافة واحدة، في نظام تعليمي واحد، في اعلام واحد.. كما ان الحركة الوطنية جعلت من وحدة الامة اداة للقولبة والمجانسة والتدجين العنيف فانزاح المفهوم من اطاره الانساني والتاريخي والحضاري وتحول الى شعار سياسي يتم باسمه توحيد الاختلافات بالإقصاء والالغاء.
غير انه من باب الانصاف والاعتراف بدور الحركة الوطنية فان هذه الاخيرة يرجع اليها الفضل في تأسيس واقامة اسس دولة وطنية مركزية اسست على بنيان وحدة اللغة والدين والمصير المشترك. الا ان الحركة الوطنية تعاملت تعاملا انتهازيا مع الواقع الامازيغي وان اعترفت بالوجود الاثني للامازيغ الا انها انكرت واقعهم الثقافي والتاريخي بل اكثر من ذلك خلقت منهم في خطابها بعد الاستقلال ذلك (الغول) الوهمي المهدد للوحدة الوطنية(قضية عدي اوبيهي كمثال) ناسية ان هذه الوحدة الوطنية اسست وتقوت بفضل دماء المقاومين والمجاهدين الامازيغ في شمال المغرب وفي جنوبه.
كان الصراع حول السلطة والاختيارات السياسية والايديولوجية التي تبنتها التنظيمات الحزبية الاولى ابان الاستقلال وتحت ضغط الرغبة في اقامة الدولة الوطنية المركزية الى تجاهل اللغة والثقافة الأمازيغيتين بدافع اقصاء وطمس الخصوصيات والاختلافات لصالح منطق الاحادية الذي كان المحرك الرئيسي للحركة الوطنية والتيارات الحزبية التي خرجت من رحمها او تسير في فلكها.
كما ان السياسة اللغوية والثقافية السائدة حينئذ ترتكز فقط على البعدين العربي والاسلامي للهوية الوطنية بل اختزالهما في غالب الاحيان في البعد القومي – العربي متجاهلة بذلك الحقوق اللغوية والثقافية للمغاربة الناطقين بالأمازيغية.
فكيف الوصول الى بناء مشروع مجتمعي يحترم حق المغايرة وحق الاختلاف؟ وكيف الوصول الى الاعتراف بوجود الاخر رايا وفكرا وانسانا لان التفاوت والتباين البنيوي والتاريخي والاثني قائم داخل مجتمعنا الواحد في المعمار، في الموسيقى، في اللباس، في الطقوس، في اللغة والثقافة..؟ فكيف الوصول الى تحرير المعرفة الوطنية من الاختزال والقولبة؟ وكيف يمكن الوصول الى بناء مشروع حضاري قائم على التعدد الثقافي واللغوي؟
اي مشروع سياسي وثقافي وطني لابد ان يواكبه مشروع اجتماعي ديموقراطي والذي يعني اشراك كل الافراد وكل المواطنين وكل الفئات والاقليات في صنع الاختيارات والقرارات سواء في مجال السياسة العامة او مجال القوانين والحقوق المدنية. والديموقراطية امر حيوي بالنسبة للمجتمعات المتعددة اثنيا ولسانيا كالمجتمع المغربي اذ ان وراء مظاهر الوحدة والتجانس توجد اختلافات وفروقات ويجب ان لا تعمينا مظاهر الوحدة وحدة اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا والمصير عن الاختلافات والفروقات القائمة وراءها.
اذا كانت اللغة العربية مثلا هي الرابطة الأمتن والاقوى الا انه يجب ان لا ننسى انه بجانب اللغة العربية توجد لغة وطنية اخرى وهي الامازيغية التي يتجاوز عدد الناطقين بها نصف سكان المغرب، كما ان المجتمع المغربي غني بثروات مادية ورمزية امازيغية وغير امازيغية وهي ثروات نشأت عبر قرون طويلة وعبر احقاب ممتدة لا يمكن تجاهلها او اقصاؤها او القضاء عليها بجرة قلم او بمجرد قرار سياسي، هذه التمايزات او الخصوصيات لا يمكن التفريط فيها بل انها تخلق دينامية اجتماعية وثقافية وحضارية وحق الاختلاف هذا ليس حقا فرديا بل هو حق اجتماعي يجد اساسه في الواقع الاجتماعي نفسه لان (كل مجتمع في جوهره مجتمع متعدد).
فكيف يمكن ان تساهم هذه التمايزات والاختلافات والخصوصيات الثقافية واللغوية في تقوية عوامل ومظاهر المجانسة والتعدد ووحدة المصير دون اتباع اساليب القولبة والاختزال وتوحيد المظاهر والسلوكيات؟ وكيف يمكن الانفتاح والتعدد واحترام حق المغايرة بعيدا عن القولبة والنمذجة والاستنساخ ؟
1- لابد من نقد نسق الافكار والمفاهيم التي يتداولها علم السياسة الوطني حول المغرب مجتمعا وثقافة ولغة وذلك بالرجوع الى الدور السلبي للحركة الوطنية تجاه مسالة التعدد الثقافي واللغوي حين كانت الحركة الوطنية منشغلة في تعبئة الشعب ضد الاستعمار فربطت عناصر الهوية بالدين وبالعروبة اساسا والغت الامازيغية او ربما اجلت البحث فيه بسبب اولوية النضال ضد المستعمر بل انها استخدمت الظهير البربري 1930 وسيلة لخطابها الايديولوجي ان لم نقل تبريرا للهيمنة و الاستقواء فتحولت الهوية الى اداة كبت واحباط. فماذا تبقى اذن من هذه الافكار والمفاهيم التي تأكلتها الفروقات والخصوصيات الثقافية واللغوية؟ ان الوحدة التي سوقتها او صاغتها الحركة الوطنية لم تكن وحدة ذات محتوى اجتماعي ديموقراطي يرفع من قيمة الانسان – المواطن ويحترم كافة حقوقه السياسية والثقافية واللغوية وانما كان مجرد شعار عاطفي سرعان ما فقد بريقه.
2- لابد من نقد الميتافيزيقا السائدة ومؤسساتها الثقافية المغروسة في الحقل الثقافي الوطني لأنها تهدد التعدد الثقافي وتخنق فضاء الوعي وتمنع الافصاح عن الذات الوجدانية وتفتت المعرفة الاجتماعية، كما يجب نقد تاريخ الدولة وبنائها الثقافي الفوقي او اشكالها المعرفية التقليدية.
وفي بحث رصين للأستاذ الجامعي والسفير على اومليل عن شرعية الاختلاف في الثقافة العربية الاسلامية يرى هذا الاخير ان هناك مفارقة وهي ان الاختلاف رفض دائما على مستوى الايديولوجيا بحيث ان هناك ما يكتبه المؤرخون وهناك من جهة اخرى ما يتمسك به العقائديون من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ولهذا لم يحصل في تاريخنا الثقافي هذا اللقاء الجدلي بين التصور العقائدي والتصور التاريخي.
يقول العلامة والمؤرخ السوسي الكبير محمد المختار السوسي( في المغرب حواضر وبوادي وتاريخه العلمي العام لا يمكن ان يتكون تكونا تاما الا من التواريخ الخاصة لكل حاضرة من تلك الحواضر ولكل بادية من هذه البوادي فاذا كانت بعض الحواضر فازت بما يلقي على تاريخها العلمي بعض الضوء ..فان تلك البوادي المترامية لا تزال داجية الافاق في انظار الباحثين …) ثم يزيد ويقول (ان تاريخنا لم يكتب بعد كما ينبغي …فليسمع صوت هذا السوسي كل جوانب المغرب من اعظم حاضرة الى اصغر بادية فلعل من يصيحون يندفعون الى الميدان فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها ويعرف برجالها ويستقصي عاداتها …تم اقول لإخواننا السوسيين من الشباب لا تضنوا انني في كل ما سودته مما كتبته في مختلف تلك الاجزاء الخمسين مما خصص بالرجال او بالحوادث او بالرحلات أديت فيه عشر المعشار من الواجب عن سوسهم فإنني ما عدوت ان جمعت ما تيسر جمعا بسيطا …)
ليست البادية المغربية السوسية من تعرضت للتهميش والاقصاء بل حتى تاريخ المعرفة والثقافة الامازيغية وتاريخ الثقافة الشعبية الامازيغية وتاريخ الثقافة الدينية وتاريخ المقامة في سوس والريف والاطلس وتاريخ المؤسسات التربوية العتيقة.. ولأداعي لعرض مختلف الاصناف الفكرية والمعرفية التي الف فيها الفقهاء ورجال الدين والتاريخ من اهل سوس في مناحي علمية وفكرية وثقافية ودينية سواء باللسان العربي او باللسان الامازيغي وفي جميع العلوم والمعارف والفنون كعلوم القران والحديث والعقيدة والفقه والتصوف والسير والتاريخ والاخبار والرحلات والقصص وعلم اللغة والآداب والمعاجم وعلوم التوقيت والفلك والفلاحة والتربة والماء كما انهم ترجموا الكثير من المؤلفات الى اللغة الامازيغية او العكس (ترجموا كتبا في الحديث مثل الاربعين النووية- وترجموا في الفقه مختصر الشيخ الخليل باسم “الحوض”- منظومة ازناك في التصوف- بحر الدموع لاوزال- ترجمة قصائد الهمزية والبردة – …) اغلب المؤلفات والكتب والمخطوطات تؤلف او تترجم او تدرس باللغة الامازيغية التي تعتبر وسيلة للفهم والاستيعاب ووسيلة للشرح والتدريس دون الاحساس باي نقص او ضعف او استهجان في استعمال اللغة الامازيغية .. انها صورة جميلة عن التعددية اللغوية والثقافية التي نحلم بها في اطار الوحدة والمغايرة !!!
ان الصورة الصارخة عن حالتنا في المغرب الان هو وجود هذا الانفصال الذي يشير اليه الدكتور علي اومليل وقبله مؤرخنا الجليل محمد المختار السوسي اذ ان تاريخ المغرب بقي الى درجة كبيرة تاريخ العقيدة المغربية وليس تاريخ المعرفة الوطنية المتعددة والمختلفة وهكذا ظل كتابة تاريخ متعدد للذاكرة الجماعية غائبا بل محرما حيث لم نكتب تاريخ الدولة المغربية وكرونولوجيتها مع تاريخ المعرفة والمجتمع للأنسية المغربية.
وما يزيد من مرارة هذه المفارقات ما نقراه عند بعض مثقفينا من امثال الراحل الدكتور محمد عابد الجابري الذي قال (ان الحديث عن الوحدة الوطنية في المغرب بمعزل عن العروبة والاسلام هو حديث عن اطار جغرافي يسكنه افراد لا هوية لهم الا تلك التي تحدد بالانتماء الى هذه القبيلة او تلك …)بمعنى ان ما يوحدنا هو الدين او الدولة او المؤسسات المرتبطة بالدولة العصرية كالأحزاب والنقابات اي بمعنى اخر ان الجابري الغى القيم الثقافية الامازيغية والخصوصيات المحلية كما غيب الثقافة الشعبية.
هذه الانتقادات الموجهة للميتافيزيقا السائدة وللتاريخ السائد والافكار والمفاهيم السائدة في علم السياسة الوطني بإمكانها تحرير المعرفة الوطنية والوصول الى توسيع هامش التعدد الثقافي واللغوي بالمغرب. هذا التعدد الثقافي واللغوي الواسع هو الصيغة الممكنة التي يمكنها ان تحقق لنا المعادلة الصعبة في اطار بناء مجتمع مغربي واحد متضامن ومتماسك وديموقراطي ومجيبين عن السؤال – الماهية (.. مختلفون لكن موحدون ومتساوون) ان الاعتراف بالفروقات والاختلافات اللغوية والثقافية هو مطلب اساسي في الديموقراطية الاجتماعية والسياسية فهو يسمح بإقرار الخصوصيات ويسعى في نفس الان الى احترام القيم الوطنية العليا ويوائم بينهما في اطار الوحدة والاختلاف.
ان المشروع المجتمعي القائم على الوحدة والمغايرة يعتبران كل المجالات الثقافية المحلية تعبر عن روح وطنية لا غبار عليها (وليس التجزئة) بل ان الوطن في شكله المؤسساتي الديموقراطي العصري لن يستمد قوته ومناعته الحضارية الا بإنجاز هذه الحقوق اللغوية والثقافية التي لا تضمنها فقط المواثيق الدولية بل وتعتبر شرطا ابستمولوجيا من شروط مفهوم الديموقراطية نفسه.
ان المشروع المجتمعي القائم على الوحدة والمغايرة يرى ان الهوية ذاتها ( ليست وحدة مغلقة) بل علاقة جدلية فالهوية تتكون من قوى مختلفة تنطلق من الجذور الطبيعية والتاريخية التي تشكل الوجود الانساني كما ان الديموقراطية ذاتها مفهوم قائم على المغايرة لأنها هي حق الاخر في الوجود لذلك فهي مرتبطة بالتعدد والمغايرة لا بالمجانسة والاختزال.
هكذا يمكننا ان نستعير عبارة مشهورة لهربرت ماركوز وهو ان ننجز في الحقل الثقافي المغربي (طفرة الاختلاف الكيفي ) بمعنى ان نجعل من جميع اشكال الممارسات الثقافية المختلفة كيفيا تسجل حضورها كبنيات معرفية تنتمي الى هذا الوطن وبعبارة اخرى (يوتوبيات اجتماعية كانت قد اقصيت من التاريخ المغربي).
ولعله ان الاوان لوضع مسالة اعادة كتابة تاريخ الثقافة والمعرفة المغربية في قلب المشروع المجتمعي الوطني اليوم حتى نستعيد دورنا المشرق والمبدع ضمن التاريخ الثقافي الانساني شرط ان نقوم بنقد نسقي للكتابة التاريخية والبناء الثقافي المغربي .