الأمومة صعبة.. لماذا أختارها وأعيدها؟
هوية بريس – تسنيم راجح
الأمومة صعبة.. لماذا أختارها وأعيدها؟
من ناحية واقعية، فالأمومة فعلاً صعبة، فيها آلامٌ وعمل وجهد وتعلّم وصبرٌ وتغيّرات كثيرة..
طيب، لماذا؟!
لماذا نصير أمهات؟
هل لأنها المرحلة الطبيعية المباشرة بعد الزواج؟
هل لأن الناس جميعاً تفعل ذلك؟
والحقيقة أن هذا سؤال مهم جداً ويحتاج وقفات طويلة منا ونحن نبحث عن إجاباته، ونتأمل فيه..
والبداية هي من أين نحن وماذا نفعل هنا، لماذا نعيش؟ وإلى أين نمضي..
ما طبيعية الحياة التي نحن فيها؟ وما الذي ينبغي أن نتوقعه منها؟
نحن في دنيا قصيرة فانية عندنا فيها رأس مالٍ محدد ينقص مع كل ثانية، إما يذهب هباءً أو يكون في استثمار نأخذ ثماره لاحقاً، رأس المال هو عمرنا هذا الذي بين أيدينا إلى أن يدركنا الموت وينتهي الامتحان ويبدأ النتاج..
هذا الذي نحن فيه الآن هو وقت الاختبار، وقت العمل..
فإذا ثبتت هذه الأرضية أتينا لننظر في الأمومة والإنجاب والتربية..
أرى (كأنثى) أن الله فطرني على حب الإنجاب.. وضع فيّ غريزة تطلب (إذا امتنعت عن المشتتات والمخادعات) ذلك، ثم أتأمل في هذا الذي يفتح أمامي بخوض هذه الرحلة..
مجال كبير لأعمل وأحسن إلى من أحبّ وأنا في بيتي، فرصة عظيمة لأن أكون في حال مستمر من العمل الصالح وجمع الحسنات الجاريات التي قد تستمر لي حتى بعد عقود أو أكثر من موتي..
مجال كبير لأعلّم إنساناً خلقاً حسناً فيكون لي أجره كلما طبّقه وعلّمه غيره واستمرت السلسلة إلى قيام الساعة..
فرصةٌ عظيمة نادرة لأن أعلّم مسلماً حرفاً فيكون لي أجره كلما قرأ القرآن به أو علّمه غيره أو كسب به علماً أو كتب به كلمة..
حتى وإن لم يحصل من ذلك شيء فنيتي التي تطلبه توصل إليّ أجره بفضل الكريم سبحانه..
الأمومة مجالٌ لأقيم أسرة مسلمة تكون بذرة خير في عالم يسير نحو الهاوية، وفرصة لأنفذ وصية رسول الله بالتكاثر ليفاخر بنا الأمم، ومجال لأتصف بما مدح الله به النساء أنها الودود الولود..
الأمومة فرصةٌ لئلا ينقطع عملي بعد موتي مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ” إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” (رواه مسلم)، وما أجمل أن يبقى للإنسان في الدنيا بعده أولادٌ صالحون يدعون له!
ومع ذلك كله فأنا لا أختار طريق الشقاء الدنيوي كما قد يظن البعض، لا أعيش تعاسةً لأنني أم، لا أعمل مع من أكره، ولا أعاني بشكل مستمر..
إنما أعمل مع من وضع الله فيّ الحنان ناحيته وابتلاني بموازنة مشاعري نحوه.. هناك صعوباتٌ وتحدّياتٌ بكلّ تأكيد، لكن هناك متعةٌ حاضرةٌ ولذّة حقيقية معها، وهذا حال كل ما نمرّ به في دنيانا التي هي دنيا وستبقى كذلك، ليست لذة أبداً ولا ألماً أبداً..
والذي يحتاج الوعي هو أن عقلية كثيرٍ من المسلمين اليوم تغيرت -بفعل كثيرٍ من الإفساد الممنهج- بحيث صاروا فاقدين للجّدية باحثين عن المتعة، وصار معيارهم في موازنة الأمور هو سؤال: “هل تحقق لي المتعة الدوبامينية السريعة؟”، فصاروا يرفضون الجدّيّة التي لا بدّ أن يرافقها تعبٌ وألم، ولهذا فإنّ كثيرين لم يعودوا يقدّرون اللّذات التي يسبقها جهدٌ أو التي تحتاج صبراً، أو ليست بمتتابعة، بينما ديننا يخبرنا أن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار جزاء، وأن الجنة التي هي أعظم اللذات حُفَّت بالمكاره (أي بالآلام والصعوبات)، والنّار التي هي أعظم الآلام حُفَّت بالشهوات (أي اللذّات والمتع)!
فالناجح في هذه الدنيا ليس من يجمع فيها أكبر قدر ممكن من الراحة والمتعة والاسترخاء والرفاهية والتسلية، إنما من يعي حقيقتها وطبيعتها وطريقه فيها، ويتمكن من استثمارها بأفضل شكلٍ ممكن بما يناسب ظروفه وابتلاءاته ليأتي يوم القيامة ويجد ذاك كله في صحيفة يباهي بها ويسعد بالنظر فيها وتكون الجنّة التي هي دار النعيم المقيم واللذة الأبديّة ثوابه عليها بفضل مولاه..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب “رسائل في الأمومة والأنوثة والحياة”.