الأنترنيت.. رُؤْيَةٌ مِنَ الدّاخِل
هوية بريس – أميمة شكور
لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ الأنترنيت أصبح واقعاً مفروضاً ليس من الصَّواب تجاهله أو التغافل عنه، وإلاّ كنّا خارجين عنْ سياق العصر، عاجزين عن متابعة حركيَّة التاريخ، وهذا ما يَجْعل انتشاره المُهْول، على نطاقات واسعة، يسْتحقُّ الاهتمامَ والدِّراسةَ للكشْفِ عن تأثيراته الخطيرة على الحياة الاجتماعيَّة والنفسيَّة لمُخَتلف شرائحِ المجتمع.
إنَّ الأنترنيت بصورته التِّكنولوجية يُمثِّل الوجهَ الحضاريَّ للإنسان في جوْهره ومظْهره التِّكنو اجْتماعي، فهو أحد وسائلِ الِاتِّصالِ الحديثةِ التي قدَّمتْ ومازالتْ تُقدِّم للإنسانيَّة كمًّا لا محْدوداً من الخدمات. إلاَّ أنَّ الولوجَ إليه غير المقيَّد بشروط جعل منه بلاءً خطيراً وشرّاً يُهدِّد المجتمع بجميع جوانبه، بلْ أكثر من ذلك، جَعل منه وسيلةً لتدمير الثَّوابتِ الدينيَّة والثَّقافيَّة، والأسُس الأخلاقيَّة والقيميَّة، ممّا أحْدث تغْييراً جذريّاً في الحياة السِّياسيّة والفكْريّة والاجْتماعيّة للأفراد. ويَظْهر ذلك جَلِيّاً في منظومة العلاقاتِ الاجتماعيّة وما افْتَقَدَتْه مِن أُسُسِ التَّفاعل البَنّاء والتَّواصل الفعّال.
إذْ نَجِدُ على سَبيل المثال أُسَراً تفكَّكتْ وانْهارتْ جرَّاء تعاطي أفرادها للأنترنيت بإفراط، وهذا ما يَحولُ أمام القيامِ بعمليّات التّواصل والحوار بينهم، ممّا يُسبِّب مشاكل تتراكم من غير حلول بتزايد حدّة مزاجيتهم اللاَّطبيعيَّة.
لكن، قبْل الحديث عن مدى تأثير الأنترنيت على نَمطيَّة الأسر، تَجْدُرُ الإشارةُ إلى ضَرورةِ تسْليط الضّوء على الفِئة الأكثر عرضةً وتأثُّراً من الأنترنيت، والتي تتمثَّل في المراهقين.
تتميّزُ مرحلة المُراهقة بالانْدماج الفاعِل والنَّشيط في المنْظومة الاجْتماعيَّة عَبْر الاِبْتكار والإبْداع واكْتشاف المُيولات وبداية البحْث عن الهُويَّة الشَّخصيَّة ومحاولة تشْكيل ملامحِها الخاصَّة.
لكن ما أنْ يقَعَ المُراهِق في حُفْرة الإدْمان على الأنترنيت، حتى تُنزَع من ذاته كلّ تلك الصّفات والعادات الطبيعيَّة، وتَجِفَّ روحُه من كلِّ ذَرّةِ إبداعٍ وإنتاج، فيغدو عبْداً للتِّقنية، مسْلوبَ العقْل والشُّعور، مُنْعزلاً عن الحياة الاجْتماعيَّة ومُنْغمِساً في عالمٍ افْتراضيٍّ يتخلَّله الخيال والأوْهام والأَكاذيب، الشَّيْء الذي يجعله أكثَر هروباً من المشاكل التي تعْترضه في حياته الواقعيَّة، وذلك لعدم قُدْرتِه على مُواجهَتها والتَّصدي لها، وهذا ما يؤثِّر سلْباً على حياته الجسديَّة والنّفسيَّة التي تصبِح أكثرَ برودةً وتعْقيدا، وبذلك يَفْقِد الرَّغْبة في إحْداثِ تغْييرٍايجابِيٍّ في حياته الواقعيَّة.
كما من أبْرز مخاطِر إدْمان المُراهقين على الأنترنيت، التَّعرُّضُ للاسْتغلال والِابْتزاز من طرف شخْصيّات مجْهولة واهِمة أغْلبُها تتخفَّى في أقْنعة وأسْماء مُسْتعارة.
بالإضافةِ إلى تمْرير مفاهيمَ عنصريَّة و معلومات مُزيَّفة لا عقْلانيّة كالْتقاطِ معلوماتٍ خاطِئة عن الجِنس، الأمر الذي من المُمكن أنْ يُؤدِّيَ به إلى فُقْدان الثِّقة بالنَّفس منْ ناحية البُلوغ الجِنسيّ.
وبما أنَّ الإنْتاج المعْلوماتي لمْ يَعُدْ حكْراً على طبقة معيَّنة، فإنَّ فئة الشّباب بدوْرها لمْ تَسْلمْ منْ عواقبه الوخيمة.
وذلك لأنَّ شبكة الأنترنيت مُغْريةً تَجْذب الشّبابَ بشكْل خطير، فتؤثِّر على توجُّهاتِهمْ وانْطباعاتهم بطريقة ايديولوجيّةٍ لا شعوريّة.
وما يُؤَكِّد ذلك هو ما وَرَد في دراسة شاركَ في إعْدادها أكْثرَ منْ مئةِ باحثٍ دوليٍّ والتي نشَرتْها هيْئةً أوروبيَّةً جديدةً باسْم:
”The European Problematic Use of the Internet Research Network ”
نتائجُ هذه الدِّراسةِ أشارتْ إلى أنَّ الإدْمانَ على الأنترنيت يزيدُ من خطرِ الإصابةِ باضْطراباتِ الصِّحَّة العقْليَّة والنَّفْسيَّة؛ كالهَوَس بالأنترنيت وحالات الإحْباط والضّيق النّفسيّ وما يعْقب ذلك من شعورٍ عميقٍ بعدم الرِّضا واللّاتقدير الذّاتي؛ وكلّ هذا راجع إلى المُقارناتِ الفارغَةِ التي تُقامُ بيْن الشّباب وأقْرانِهمْ في المَواقعِ الاِفْتراضيّة التي تدْعو ضمْنيّاً إلى الفوْضى والتّفكُّك.
وغيْر بعيدٍ عنْ هذا السّياق، فإنَّنا نُلاحِظ تفَشيّاً تدْريجيّاً لظاهرة الصِّراعِ الاِجْتماعيِّ والثَّقافيِّ بيْن مُخْتلَف شرائحِ المُجْتمَع.
إذْ أصْبحتِ الفئةُ التي تفْتقِدُ لميزةِ اسْتخْدام الأنترنيت عُرضَةً للِاتِّهامِ بالتَّخَلُّف والغَباء، ممّا يَخْلق فَجْوَةً وهُوَّةً واسِعتيْن بيْن الأَجْيال.
عِلاوةً على ذلك، فالمَغْرب يَعْرفُ ارْتفاعاً مَلْحوظاً في عَددِ الجَرائمِ المُسَجَّلَةِ خِلالَ السَّنواتِ الأَخيرَة.
ويُعْزى هَذا الِارْتفاع السَّريع والمُهْوِل للجَرائِم، حَسَب عادل بلعمري – باحث مغربي في عِلم اجْتماع الجَريمة- إلى التَّغْييراتِ التي طَرأتْ على المُجْتمع المَغْربيّ وأُسُسِه التي أضْحتْ مُفْتقِرةً إِلى الأَدواتِ الفَعّالة للتَّواصلِ الِاجْتِماعِيّ.
وَفي الأَخير، فَالحَدُّ مِنَ التَّأْثيراتِ السّلْبيَّة البَشِعة للأنْترنيت هُوَ ضَرورةً وُجوديَّةً للحِفاظِ عَلى الهُوِّيَّةِ الثَّقافيَّةِ والدّينيَّةِ والأخْلاقيَّة.
ولا يَتمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِتَضافُرِ الجُهودِ ابْتِداءً منْ تفْعيلِ مَهامِّ الأُطُرِ الحاكِمةِ والمُتَحَكِّمَةِ في بِنْياتِ المُجْتمعِ ومَجالاتِه، وذلِك بتوْفيرِ فُرص عمَلٍ للشَّبابِ وفَتْحِ أبْوابِ الإِبْداعِ أمامهم بالعمَلِ عَلى توْفيرِ المَراكزِ العِلْميَّةِ والأَنْدية الثَّقافيّة والرِّياضيَّة، وكَذا اسْتِغْلالِ وسائِلِ الإِعْلامِ والِاتِّصالِ في تَوْجيهِ الشَّبابِ سياسيّاً وثَقافِيّاً وعِلْمِيّاً.
ولتكْتمِلَ فَعّالِيّة هذِه المُبادَراتِ العُلْيا، الّتي سَبَقَ ذِكْرُها، لا بُدَّ وأنْ تَكونَ مُشْتَرَكة ومُتَبادَلَة بيْن الطَّرفَيْن؛ إذْ يَجِبُ عَلى الشَّبابِ بِدَوْرِهِمْ بَذْلَ مَجْهوداتٍ فَرْدِيَّةٍ لِتوْجيهِ ذَواتِهِمْ بِالحِفاظِ عَلى الرَّقابَةِ الذَّاتِية والنَّقْد الذّاتي والإيمانِ بالنَّفسِ والحِرْصِ عَلى السَّلامَةِ الجَسدِيَّة والعَقْليّة بِمُمارَسَةِ الرِّياضَة، وإِثْراء عُقولِهمْ وإغْنائِها بالِاهْتمامِ المُسْتمرِّ بِالمَعْرفَةِ والكِتاب، وإسْقاطِ ما يَتَلقَّوْنَهُ منْ مَعارِفَ عَلى واقِعِهم المُعاش واستثْمارها للخروجِ باسْتنْتاجاتٍ واقِعيَّةٍ منْطقيَّة تُلائِمُ سِياقاتِهِم الِاجْتِماعِيَّة.