الأندلس الأمريكية.. قراءة نقدية في التاريخ والجغرافيا والهوية

هوية بريس – إيمان وليب
احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك ندوة علمية تحت عنوان “الأندلس الأمريكية: مراجعة نقدية في التاريخ والجغرافيا والعلوم”، وذلك يوم 10 دجنبر 2025 بقاعة عبد الواحد خيري. وقد جاء هذا اللقاء ضمن اهتمام الكلية بإعادة النظر في التاريخ من زاوية علمية نقدية، تجمع بين المعطيات التاريخية والتحليل الجغرافي.
افتُتِحَت الندوة بكلمة الأستاذ السبتي، الذي قدّم الاستاذ الدكتور مصطفى بوهندي واعتبر أن أهم ما يميّز بوهندي هو ما أسماه “الشغب الإيجابي”؛ ذلك النوع من الاستفزاز الفكري الذي يحرك الأسئلة، ويفتح باب النقاش، ويدفع إلى مساءلة المسلمات وتحرير المعرفة من العادات الذهنية. وأكد أن الخطأ والصواب وجهان في مسار البحث، وأن قيمة الحوار تكمن في الإنصات وتبادل النظر.
استهلّ الدكتور بوهندي مداخلته بالتأكيد على أن الحديث عن “الأندلس الأمريكية” ليس غايته الصدام، وإنما تفكيك السرديات التاريخية الشائعة، وفحصها في ضوء الوثائق والخرائط والآثار. وأوضح أن ما يسمى بـ“النهضة الأوروبية” لم تقتصر على العلوم، بل اقترنت بالقوة العسكرية وبمشروع توسعي ضخم أعاد تشكيل تاريخ العالم.
وأشار إلى أن سنة 1492 نُسب إليها حدثان كبيران:
1. سقوط غرناطة،
2. “اكتشاف” أمريكا.
غير أن هذين الحدثين -بتعبيره- يفتحان بابًا واسعًا للأسئلة حول حقيقة غرناطة، وواقع إسبانيا آنذاك، ومعنى “اكتشاف” أرض كانت آهلة بالسكان، وحول طبيعة الممالك الأندلسية وحدودها. فالأندلس، كما قدّمها الإدريسي، فضاء واسع له تضاريس محددة وجزر وتخوم، ولا يتطابق تمامًا مع الجغرافيا الإسبانية الحديثة.
قدّم بوهندي قراءة في النصوص والخرائط العربية، معتبرًا أن هناك التباسًا كبيرًا في فهم الحدود الأندلسية، وأن بعض المصطلحات مثل “البورتات” و“جزر الثغور” تبرز اختلافًا واضحًا بين الجغرافيا الإسلامية القديمة والجغرافيا الأوروبية اللاحقة. ومن خلال مقارنة هذه النصوص بالخرائط الحديثة، ذهب إلى أن مناطق في الكاريبي وأمريكا اللاتينية تحمل تسميات وتقاليد وممالك شبيهة بما ورد في المصادر العربية، مثل إسبانيولا والدومينيكان، وما شُبِّه بممالك أوروبية في تلك المناطق.
وانطلق من هذا المعطى ليطرح سؤالاً أوسع: هل الأندلس التي تصفها المصادر الإسلامية هي نفسها جنوب إسبانيا الحالي؟ أم أنّ جزءًا من هذه الرواية حُمل إلى العالم الجديد ضمن إعادة تشكيل التاريخ الأوروبي؟

أشار بوهندي إلى وجود مدن في أمريكا الجنوبية تحمل أسماء أندلسية، مثل قرطبة في الأرجنتين، وتقاليد مالية واجتماعية مشابهة لما ورد في وثائق قرطبة الأندلسية. واستشهد بوثائق من مدينة قرجطنة في كولومبيا، التي احتفظت – لقرون – بأسماء عربية أندلسية، ومعاملات قائمة على الدينار المرابطي والدرهم، وهي عملات لم تُستعمل في إسبانيا المسيحية، حسب قوله.
وخلص إلى أن الثقافة الأندلسية -كما تظهر في النقود والمخطوطات والعادات- امتدت إلى مناطق في أمريكا اللاتينية بطريقة لم تفسّرها السرديات الكلاسيكية حول “الاكتشاف”.
تطرّق الباحث إلى دور الموريسكيين باعتبارهم الامتداد الشعبي للأندلس، وإلى التصنيفات الأوروبية القديمة التي وصفَت بعض شعوب الغرب بـ“الغرب الأسمر”. واعتبر أن تغييب الدور العربي الإسلامي في أمريكا الجنوبية كان جزءًا من مشروع أوسع لإعادة كتابة التاريخ ونقل مراكز الحضارة.
وربط ذلك بقصة حنّون القرطاجي ورحلاته نحو “الأرض الجنوبية”، التي يرى أنها تتقاطع جغرافيًا مع سواحل أمريكا الجنوبية، وأن كثيرًا من المصطلحات كـ“قرطاجة” و“فينيقية الصغيرة” تكشف عن طبقات تاريخية أسبق من السرد الأوروبي الحديث.
أكد بوهندي أن الخرائط العربية المحفوظة في تركيا وأوروبا، والمأخوذة من مصادر عربية متعددة، تظهر اختلافًا ملحوظًا مع الخرائط الأوروبية اللاحقة. ورأى أن كثيرًا من المواقع التي تُنسب اليوم لإسبانيا أو لشمال إفريقيا تحمل -في الأصل- توصيفات جغرافية تتوافق مع بيئات أمريكا الجنوبية، مثل مناطق المرجان واللؤلؤ التي لا توجد في سواحل تونس والمغرب، لكنّها غزيرة في سواحل فنزويلا.
خلصت الندوة إلى أن أطروحة “الأندلس الأمريكية” -رغم جرأتها- تدعو إلى إعادة قراءة المصادر الإسلامية والعربية، وتحقيق الخرائط القديمة، وفحص السرديات الأوروبية في ضوء الوثائق المخزّنة في المكتبات العالمية. فالتاريخ، كما يرى بوهندي، صناعة، ومن يغيب عن صناعة المعرفة يُستبدَل موقعه بروايات الآخرين.
وتبقى هذه القراءة دعوة إلى النظر من جديد في تاريخ الأندلس، وتقاطعه المفاجئ مع الذاكرة الأمريكية اللاتينية، بحثًا عن حقيقة لم تكتمل روايتها بعد.



