الإرث.. عبثية النقاش ووهم المساواة!
هوية بريس – عبد الله الشتوي
قد اقتضت حكمة الله البالغة أن يتولى قسمة فرائض الورثة في كتابه العزيز ، ولم يترك ذلك لاجتهادات الناس وآرائهم، درءا للتنازع والخصومة، وقد بقي المسلمون على اعتماد علم الفرائض في قسمة التركات قرونا إلى أن جاءت الدعوة للتغيير على ظهر دبابات الامبريالية.
فليس من الغريب أن ينبري أتباع الفكر الاستعماري إلى تفكيك ما بقي من رسوم الشريعة وآثارها في المجتمعات الإسلامية، ومنها قوانين الإرث.
وسنتناول هذا الموضوع من خلال عدة محاور يمكنها توسيع نظرة المسلم لما يحدث حولنا اليوم :
– بعيدا عن الشريعة .. كيف يمكن قسمة التركات؟
–الوصية ووهم المساواة.
–الشريعة من داخل القوانين العلمانية (النموذج البريطاني).
–مداخل مغلوطة للنقاش.
– سعة الفقه الاسلامي وضيق المساطر القضائية.
– محاولة التغيير من داخل المنظومة الفقهية.
1- بعيدا عن الشريعة .. كيف يمكن قسمة التركات؟
تعتبر قوانين الإرث من أكثر القوانين اختلافا وتناقضا في العالم، فلا نكاد نجد في العالم الغربي دولتين تتفقان على قانون واحد لقسمة التركات، ففي الاتحاد الأوروبي توجد قوانين مختلفة لكل دولة وباختلافات جوهرية، بل توجد قوانين مختلفة في البلد الواحد كما في اسبانيا مثلا (كاتالونيا، جزر البليار، أراغون …) ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تتعدد القوانين بتعدد الولايات أو تعدد المحاكم الدينية (القوانين اليهودية والمذاهب المسيحية …).
من هنا يتضح أنه لا يوجد في العالم الغربي قانون مثالي لتقسيم التركات، يمكن أن يتَّكل عليه دعاة القيم الكونية لتسويقه نموذجا مثاليا لنظام الإرث.
والمشكل أساسا هنا في مفهوم الإرث الذي تشعبت حوله آراء الناس واختلفت، فهو انتقال الملكية من الشخص المتوفى إلى غيره من غير جهد ولا اكتساب !! وهنا تبدأ مشاكل الفلسفات المعاصرة: ما هو سبب استحقاق الميراث ؟ هل الورثة يستحقون الإرث بشكل طبيعي بسبب القرابة ؟ أم أن سلطة القانون هي ما يمنحهم الحق في الإرث وبالتالي يحق للدولة التدخل فيها؟ هل يحق للدولة التدخل في تقسيم التركات ؟ هل للمتوفي حق التصرف المطلق في ما يتركه ؟ هل تستمر سلطة المتوفي على تركته حتى بعد موته ؟
نبدأ برأي الغلاة الذين يرون ممتلكات الهالك حقا محضا للدولة تدبره بقوانينها، وقد حملت هذه الحماسة البلاشفة السوفييت سنة 1918م على إلغاء نظام الإرث بدعوى أنه يعزز الطبقية وبدعوى سيطرة الدولة على وسائل الانتاج، لكن النتائج جاءت كارثية جدا فتراجعت الدولة عن هذا القانون بعد أربع سنوات فقط !
ومثل هذا في المجتمع الليبرالي آراء توماس جيفرسون Jefferson Tomas )1) الذي يرى أن الدستور الأمريكي لا يمنع الدولة من التصرف في التركات وأن التركة ليست حق طبيعيا للورثة بل تنتهي ملكية الثروة بوفاة صاحبها، ثم تسمح الدولة للورثة بأخذ نصيب من التركة وفق القانون حسب تعاقد مجتمعي متفق عليه، وبالتالي فلا مانع من تغيير هذا التعاقد وتغيير مقادير الحقوق في التركات أو حتى إلغائها (2)…
وقد تم استغلال هذا النفوذ الممنوح للدولة من طرف رعاة ”القيم الكونية” للسيطرة على كثير من الأراضي التي كانت تحت ملكية قبائل الهنود الحمر ومنع توريثها للأجيال اللاحقة.
وعلى النقيض من هذا يرى جون لوك (John Locke) أن ملكية الأطفال تكتسب بشكل طبيعي فهي عبارة عن هبة إلهية.
ورأى آدم سميث أن من حق الدولة أن تتدخل في التركات فقط من خلال الضرائب، فأيَّد فرض ضرائب كبيرة على الأموال التي تنتقل للورثة لتكون هذه الضرائب في خدمة سائر المواطنين، وهذا الرأي تؤيده اليوم كثير من الدول على اختلاف في مقدار الضرائب المفروضة، فمثلا في ألمانيا قد تصل الضريبة إلى 50 في المئة من التركة، وقد تصل في بلجيكا إلى 80 في المئة (3)!
وذهب توماس باين ((Thomas Paine أبعد من ذلك حين اقترح تعويضا جزئيا فقط للورثة بسبب إسقاط حقهم الطبيعي لتتصرف الدولة في معظم التركة. وهكذا يقترب هذا الرأي الليبرالي من الشيوعية وإن اختلفا في المرجعية الفكرية.
هذا التخبط الفلسفي انعكس على القوانين الوضعية كما رأينا من خلال تعددها وتناقضها أحيانا، لدرجة أنك قد تُستبعد من الإرث لأنك ولدت ولاية أمريكية معيَّنة ! ولو ولدت على بعد كيلومترات في ولاية أخرى لاختلف الأمر .
فتأمل كيف يريد دعاة العلمانية التخلي عن شريعة رب العالمين والتعلق بفلسفات بشرية مادية تنضح بالاختلاف والتناقض (4)!
2- الوصية ووهم المساواة:
للخروج من كل هذا الجدل الفلسفي والقانوني كان الاحتكام للوصية حلا مقبولا لدى معظم المجتمعات، فالمال من وجهة نظر مادية حق للإنسان يتصرف فيه كيف يشاء، فيعطي من يريد ويمنع من يشاء من خلال كتابة وصيته، ولا مانع من أن يوصي بثروته لكلب أو قرد بدلا من أقاربه .
لكن المشاكل لم تنته هنا فقد فتحت الوصايا أبوابا من النزاع لا حصر لها، ومع ارتفاع أسعار العقارات التهبت الخلافات في المحاكم بسبب تعمد الكثيرين التمييز بين الورثة لأسباب مختلفة، كالسن والمرض والفقر والدراسة… أو لمجرد الخصومات العائلية، مما جعل بعض الدول تتدخل بفرض بعض القيود على التوريث بالوصية أو من خلال الاجتهاد القضائي كما حدث في حالات كثيرة يتم فيها إلغاء الوصية أو تعويض أحد الورثة قبل إنفاذها.
ومما يتجاهله دعاة المساواة عندنا أن الوصية في الإرث بالشكل المتعامل بها في الغرب هي أول ما يهدم المساواة فلا شيء يفرض على الموصي المساواة بين الورثة، بل الأصل في الوصية أنها تسقط المساواة.
وحتى في غياب الوصية فإن المساواة تبقى مجرد وهم في عقول من لا يفهم معنى الإرث أصلا، فيكفي ما سبق من الاختلاف الشديد في قوانين الإرث لتعلم أنه لا يوجد قانون يحقق هذه المساواة المزعومة .
وهناك أشكال أخرى من التمييز بين الورثة مثل عدم المساوة بين الإخوة الأشقاء والاخوة غير الاشقاء ، فمثلا في ولاية فرجينيا يعطى الأخ غير الشقيق نصف حصة الأخ الشقيق(5)، وفي أوكلاهوما يتم استبعاد الاخ غير الشقيق في حالة وجود أخ شقيق …
وفي الأنظمة الأوروبية تشكل الوصية كذلك شكلا من أشكال عدم المساواة، وحتى في حالة غياب الوصية فإن القوانين لا تضمن المساواة المزعومة، ويمكن النظر مثلا إلى وضعية الوالدين التي تعتبر أدنى من مرتبة الزوجية، ويمكن للزوجة أن تحجب الإخوة والأخوات كما في القانون الفرنسي(6).
3- الشريعة من داخل القوانين العلمانية (النموذج البريطاني):
مما سبق يتبين أن للوصية السلطة العليا في تحديد الورثة فلا شيء يمنع الموصي أن يقسم وفق ما يراه مناسبا أو حتى موافقا لمعتقداته وأفكاره، ومن هذا المنطلق يقوم بعض المسلمين في الغرب بكتابة وصايا توافق الشريعة الإسلامية رغم صعوبة تحديد وضعية الورثة حال الوفاة .
لكن المثير في النظام البريطاني أنه عمَّم توجيها على المحامين يسمح لهم بكتابة الوصايا وفق الشريعة الإسلامية، بما في ذلك بعض الشروط التي تشيب لها رؤوس العلمانيين عندنا ، مثل عدم توريث الكافر والأبناء غير الشرعيين أو بالتبني، وعدم الاعتراف بالرابطة الزوجية عن طريق الكنائس أو العقود المدنية(7)..
ومع هذا فلا يمكن لدعاة المساواة اتهام القانون البريطاني بمعاداة حقوق الإنسان، فهم قد استعذبوا الاذعان لقوانين البشر والتمرد على شريعة رب العالمين.
4- مداخل مغلوطة للنقاش:
بعد هذه الإطلالة على منظومة الإرث في العالم الغربي، نعود للسجال القائم في المغرب والذي لا يستهدف في الأساس إلا القضاء على ما تبقى من ملامح الشريعة، ومع القصد الواضح لهذه الدعوات فإنها تتخذ مداخل مغلوطة للنقاش في محاولة لتوجيه أصابع الاتهام للشريعة.
ومن ذلك أن الترويج الاعلامي الهائل لا يتناسب مع مسألة قانونية جزئية في بلد يغوص في مشاكل كثيرة لا حصر لها.
بل الأعجب أن يكون الإرث هو سبب كل تلك المشاكل الاجتماعية، ففي كل نقاش حول الارث يتم استحضار قصص مآس ومشاكل اجتماعية لتعليقها في رقبة قوانين الإرث، فهذا يتحدث عن بنت لم يعد لها مسكن بعد وفاة والدها بسبب تقسيم التركة بين الورثة، وكأنها لو تساوت مع الذكور لأخذت المسكن كاملا …
وتجد آخرين يسلكون مسلك الاستجداء العاطفي ضد أنظمة الإرث فهذه البنت المسكينة التي سهرت على رعاية والدها دهرا ترث فقط نصف التركة ويشاركها عمّها البعيد الذي لم يزرهم ولو مرة واحدة في حياته!
وما علاقة هذه الأوهام بتقسيم التركات ؟ هذه الخيالات تصلح لكتابة الروايات والافلام وليس لكتابة القوانين!
ولماذا لا نفترض أن العم هو من سهر على رعاية أخيه ؟ بينما ترث البنت نصف التركة وهي رضيعة في المهد، ومنذ متى كانت المواريث توزع حسب الجهد والعمل؟
وما أريد الاشارة إليه أن هذه الخيالات والافتراضات عند كل عاقل لا تصلح لكتابة قانوني وضعي، ولا غرض منها سوى تجييش عواطف الناس للتطاول على الشريعة، فكيف إذا جاءت هذه الأساليب ممن يدعي العقلانية؟
وكل هذا تهرب من نقاش المشاكل الاجتماعية كالفقر والبطالة والسكن … وإلقاؤها على عاتق الشريعة.
5- سعة الفقه الاسلامي وضيق المساطر القضائية:
ومن الحجج التي يسوقها دعاة المساواة هو خروج المرأة للعمل والاكتساب مما يجعلها قادرة على المشاركة في تكوين ثروة الأسرة، وربما شاركت مثلا في بناء منزل أسرتها ثم لا ينالها من تركته سوى نصف ما يرثه الذكور.
وهذا في الحقيقة تهريب للنقاش فالمشكلة هنا مشكلة في المساطر القضائية وليست مشكلة في الفقه الاسلامي، فمن بديهيات علم الفرائض تصفية التركة من كل الحقوق المتعلقة بها قبل القسمة. ومن جملة ما يجب أخذه من التركة حقوق الورثة أنفسهم سواء كانت ديونا أو ممتلكات، فلو افترضنا أن شخصين اشتركا في عقار ثم توفي أحدها فورثته سيقتسمون نصيب المتوفي فقط وليس العقار كاملا !
فالبنت التي ترى أن لها حقا في بيت أسرتها يجب أن تأخذ حقها من باب الملكية أولا، ثم بعد قسمة الفرائض تضيف نصيبها. لكن الاشكال هنا أساسا في ضيق المساطر القضائية التي لا تمكن من إثبات الحق بغير الوثائق الرسمية التي قد يتعذر توفرها في كثير من الحالات بسبب الموت المفاجئ وغير ذلك ، لذا نجد كثيرا من الدول الغربية مثلا تنص قوانينها على اعتماد الوصية دون توثيق مسبق في بعض الحالات كالحروب ، أو الحوادث الجوية وغير ذلك، فما المانع شرعا من وجود مسطرة قضائية لإثبات الحق في مسكن مشترك ؟
فالفقه الاسلامي يشترط أخذ الحقوق المتعلقة بالتركة قبل قسمتها بما في ذلك حقوق الورثة ، وقد سئل ابن تيمية عن رجل توفي وخلف ثلاثة أولاد وملكا وكان فيهم ولد كبير وقد هدم بعض الملك وأنشأ وتزوج فيه ورزق فيه أولادا والورثة بطالون فلما طلبوا القسمة قصد هدم البناء ؟
فأجاب : (أما العرصة (الأرض دون البناء) فحقهم فيها باق ،وأما البناء فإن كان بناه كله من ماله دون الأول فله أخذه، ولكن عليه ضمان البناء الأول الذي كان لهم، وإن كان أعاده بالإرث الأول فهو لهم)(8).
فتأمل كيف ينقلون مشاكل المساطر القضائية ليجعلوها مشاكل فقهية!
ومن هذا الباب ما يكثر الكلام حوله من ”حق الكد والسعاية” باعتباره اجتهادا فقهيا يتجاوز الفرائض المنصوص عليها، مع أن إطلالة بسيطة على كتب النوازل والفتاوى التي تناولت الموضوع تُبين أن الفقهاء تعاملوا معه كحق للزوجة في التركة يؤخذ قبل قسمتها نظير عملها وسعيها في تكوين ثروة زوجها، فهو من حق الزوجة في حال الطلاق أصالة ثم في حال الوفاة.
6- محاولة التغيير من داخل المنظومة الفقهية:
على طريقة من قال الله عز وجل فيهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(9) جاء دعاة العلمانية مذعنين لهذه الاجتهادات المزعومة لما رأوا فيها موافقة لما يدعون إليه.
وقد جاءت هذه الاجتهادات مبنية على أسس واهية، ومن ذلك قولهم بوجود الاجتهاد في علم الفرائض وبالتالي فيمكننا الاجتهاد في كل باب منه، وكأنهم اكتشفوا شيئا جديدا، فالفرائض كغيرها من أبواب الفقه فيها الأحكام القطعية والاجتهادية، وكتب علم الفرائض ومذاهب الفقهاء شاهدة على ذلك ، فالأمر أشبه بأن ينكر أحد فرضية الصلوات الخمس، ثم يحتج عليك بأن صلاة الضحى ليست بواجبة !
وسلك آخرون مسلك تعليل الأحكام، ليجدوا علة لأنصبة الورثة فجاء اجتهادهم عبثا أصوليا بلا معنى، فما يسمونه علة لم يطرد عندهم ولا ذكروا له مسلكا من مسالك تحديد العلة عند الأصوليين.
ونزع آخرون إلى التعلق باجتهادات اخرى كاجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه وترويجها على أنها تغيير في الفرائض في محاولة لتمرير الطبخات العلمانية بتوابل إسلامية!
ثم انتهى الأمر بهؤلاء إلى الاحتجاج بإجماع المجتمع الدولي على اعتماد الوصية في الإرث ، فتأمل كيف يرفضون إجماع المسلمين ويتعلقون بإجماع غير المسلمين في أمر يخص المسلمين!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1:توماس جيفرسون: سياسي أمريكي من أصل بريطاني ، شغل عدة مناصب في الولايات المتحدة الامريكية كوزارة الخارجية، وكان أو نائب رئيس أمريكي، كان لآرائه دور كبير في صياغة كثير من القوانين الأمريكية.
2: https://www.theguardian.com/commentisfree/2014/mar/26/inherited-wealth-injustice-lets-end-it
3: https://www.cesifo-group.de/ifoHome/facts/DICE/Public-Sector/Public-Finance/Taxes/Succession-law-in-Europe-inheritance-!tax/fileBinary/Succession-law-in-Europe-inheritance-tax.pdf
4:https://www.flpr
6: ميراث المرأة في الشريعة الاسلامية والقوانين المقارنة / قيس عبدالوهاب الحيالي
7: http://www.letelegraph.co.uk/news/religion/10716844/Islamic-law-is-adopted-by-British-gal-chiefs.html
8: ابن تيمية/مجموع الفتاوى
9: سورة النور.
(المصدر: مركز يقين).
الهدف ليس هو تحقيق المساواة وانما القضاء على احكام الشريعة الاسلامية و تغريب المجتمع والعجب هو دعم مثل هذه الاراء في اعلامنا و تصويرها على انها تقدم وحداثة.وان احكام الشريعة تخلف و رجعية.على العلماء والدعاة ان يرفعوا اصواتهم بالدفاع عن الشريعة وايضاح قيمتها في تماسك المجتمع و خطر التغريب على هذا التماسك فهو سرطان خبيث في جسد المجتمع.