الإستشراق
هوية بريس – أمينة الأزهري
نتجت عملية الإستشراق عن صراع طويل بين الحضارتين المسيحية والإسلامية، جراء تباين بين عقيدتين وثقافتين تختلف إحداهما عن الأخرى، فكانت عملية الإستشراق في بداياتها ذات طبيعة ثقافية استكشافية، تهتم بالعلاقات الإنسانية والثقافية بين الشرق والغرب وتطور الفكر الإنساني، عن طريق دراسة اللغات الشرقية والفنون والعادات والمعتقدات لإيجاد روابط بين الثقافات الشرقية والغربية{1}.
وقد تراوحت مدارس الإستشراق في تقسيمها بين الموضوعي والجغرافي، واعتمد الجغرافي منها أكثر نظرا لسهولته، فظهرت المدرسة الفرنسية التي تعتبر من بين أبرز المدارس الإستشراقية وأغناها فكرا وأخصبها إنتاجا وأكثرها وضوحا، نظرا للعلاقة الوطيدة التي تربط فرنسا بالعالم العربي والإسلامي قديما وحديثا وفي حالتي السلم والحرب، فكانت من أوائل الدول الأوروبية التي عنيت بالدراسات العربية والإسلامية، وأوفدت طلابها لمدارس الأندلس للاستفادة من الفلسفة والحكمة والطب {2}، فظهر عدد من المستشرقين الفرنسيين أبرزهم “بوستل” الذي تعلم اللغات الشرقية وكون الطلائع الأولى لجيل المستشرقين، وبعده البارون “دي ساسي” الذي كان مكلفا بالمخطوطات الشرقية في مكتبة باريس الوطنية، ثم توالى ظهور تلامذتهم”كالبارون دي سلان” و”كترمير”….والعشرات من المستشرقين الفرنسيين الذين كونوا المدرسة الفرنسية، وتابعوا مسيرة الدراسات الإستشراقية.
أما فيما يخص المدرسة الإستشراقية الإنجليزية فقد تمتعت بالدقة والعمق والصلة الوثيقة بالشرق الأوسط والشرق الأقصى والهند، فتأثرت باهتمامات الجغرافيات التي تسيطر عليها، ووجهت اهتمامها لفهم إسلام كل منطقة وفكره وتراثه ومكوناته وقضاياه. فاستطاعت المدرسة الإنجليزية أن تحقق أهدافها الإستشراقية بذكاء نظرا لغموضها وعدم انفعالها وإخفاء مطامحها تحت ستار العقلانية والقبول بالأمر الواقع، وكان من أبرز المستشرقين الإنجليز:”هملتون جيب” الذي كتب عن التفكير الديني في الإسلام، وعن الديانة المحمدية، وعن الحضارة الإسلامية، فبرزت في كتاباته روح التعصب والانتقاص من أثر العرب في بناء حضارته {3}. ثم بعده “رينولد نيكلسون” باعتباره من أهم المستشرقين الإنجليز حيث اهتم بالتصوف الإسلامي. ونشر ديوان ” ترجمان الأشواق” لابن عربي{4}.
ثم المدرسة الألمانية التي كانت لها روابط قوية مع الدولة العثمانية، وتميزت بالجدية والعمق والدقة في مجال البحث والدراسة للقضايا الفكرية الهامة{5} فتوالى ظهور المستشرقين وأشهرهم “بروكلمان” بكتابه الشهير ” تاريخ الأدب العربي” الذي ترجم فيه للمؤلفين والعلماء العرب، وقام بدراسة عن المخطوطات العربية في المكتبات الأوربية، ثم “جوزيف شاخت” الذي اهتم بدراسة الفقه الإسلامي فوصفه الدكتور عبد الرحمن بدوي بقوله: ” كان شاخت حريصا على الدقة العلمية في عرض المذاهب الفقهية وفي دراسة أمور الفقه عامة، مبتعدا عن النظريات العامة والآراء الافتراضية التي أولع بها أمثال “جولد تسيهر” و”سنتلانا” ممن كتبوا في الفقه، ولهذا كانت دراسات ومؤلفات “شاخت” أبقى أثرا وأقرب إلى التحقيق العلمي وأوثق وأجدى”{6}. فتميزت المدرسة الألمانية بالجدية والصرامة والدقة في البحث، وساهم المستشرقون الألمان بجهد كبير في خدمة التراث العربي الإسلامي، ذلك بسبب التزامهم بمنهجية علمية.
علاوة على ذلك فهناك عدد من المستشرقين الذين نهجوا في دراستهم للإسلام منهجا منطقيا يتسم بالموضوعية ومنهجا علميا في معالجة المسائل التاريخية، كما لم تكن لهم أحكام مسبقة عن الدين الإسلامي والحضارة الشرقية؛ مكن ذلك من إنتاج محاولات جادة لفهم الإسلام والتعرف عليه، أولها على يد “هدريان ريلاند” الذي أصدر كتابا بعنوان “الديانة المحمدية” عرض في جزئه الأول عن العقيدة الإسلامية، وصحح في جزئه الثاني الآراء الغربية السائدة عن تعاليم الإسلام{7}، وقد كان هدفه بذلك البحث عن الحقيقة حيثما وجدت، حتى اهتدى البعض منهم إلى الإسلام وأمن برسالته.
بيد أن البعض الأخر عمل عكس ذلك وكانت له نوايا مضمرة خبيثة مليئة بالضلالات يسربها من خلال عملية الإستشراق وتحت لوائه؛ فاعتمدوا الدس والتحريف وكانت دوافعهم في ذلك تتراوح فيما هو ديني للطعن في الإسلام وتشويه محاسنه وتزييف حقائقه ليظهروا أن المسلمون قوم همج وسفاكو دماء، يرمون بذلك لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية في نفوس رواد الثقافة الإسلامية{8}؛ كما استغل الغرب عملية الإستشراق في الدافع الاستعماري حيث اتجهوا إلى دراسة البلاد العربية والإسلامية في كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات، ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها ثم يغتنموها، والتجئوا لإضعاف المقاومة الروحية والتشكيك في التراث والعقيدة والقيم الإنسانية، فيصبح الخضوع لهم خضوعا لا تقوم بعده قائمة{9}.
بالإضافة لما سبق، لم يغفل المستشرقون الحضارة الإسلامية في الأندلس، حتى أصبحت الدراسات الأندلسية موضوعا هاما للمباحث الإستشراقية، إذ كثر عدد المستشرقين بالأندلس وتراوحت اتجاهات مدارسهم الفكرية بين العصبية المطلقة الفارغة من وقار العلم، وبين القصد في الأحكام والإعتدال والموازين، ونذكر في الإتجاه الأول “رينهارت دوزي” الذي كانت كراهيته للإسلام نابعة من إلحاده وكرهه لرجال الكنيسة، إذ عرف بفساد الرأي والتعصب لملوك الطوائف، وسرى على نهجه “فرانسسكو جافير سيمونيت” وبالمقابل مثل الإتجاه الثاني المستشرق “كوديرا” الذي علا صوته بمدح المسلمين و إعلان فضلهم عن الحضارة الإنسانية وحفاظهم على التراث القديم، كما دعا إلى تعريب الحضارة الأوروبية ، ويعد أكبر منصف للحضارة والفكر الأندلسي في الأندلس{10} حيث أسست مدرسة “كوديرا” الإستشراقية وأطلق على جماعتهم اسم “بني كوديرا” نستحضر منهم: خليان ريبيرا فاَنخل جنثالث بالنثيا ثم جارسيا جومس.
ونستكشف أن التيار الإستشراقي ذو حدين: فتارة تكون إيجابيته في إعطاء صورة حقيقية عن الشرق، وتارة تتمثل سلبيته في النظرة العدائية المسبقة عن الإسلام والعرب من خلال أفكار اتسم معظمها بالتعصب، فيتوجب هنا اتخاذ الحيطة والحذر مع المستشرفين ودراساتهم للحضارة العربية الإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
{1} الإستشراق تعريفه مدارسه اَثاره للدكتور محمد فاروق النبهان، منشورات المنظمة العربية للتربية ولثقافة والفنون – 1432ه – 2011م. ص:11
{2} المصدر السابق، ص:22
{3} المصدر السابق ص: 28 ” 24”
{4} موسوعة المستشرقين، ص:416
{5} الإستشراق تعريفه مدارسه اَثاره للدكتور محمد فاروق النبهان، منشورات المنظمة العربية للتربية ولثقافة والفنون – 1432ه – 2011م .ص: 30
{6} موسوعة المستشرقين، ص: 255
{7} الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري لمحمود حمدي زقزوق، الناشر: دار المنار،ط:الثانية 1989 م ص: 41
{8} الإستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم للدكتور مصطفى السباعي، الناشر: دار الوراق – المكتب الإسلامي، ص: 20ـ 21
{8} نفسه، ص: 22
{10} من قضايا الإستشراق: بحوث ودراسات للدكتور يحيى مراد ، ص: 719