الإسلاميون “أكلوا” الربيع…!
هوية بريس – عادل بنحمزة
أحدثت نتائج الانتخابات العامة الجماعية والجهوية والتشريعية المغربية، زلزالاً حقيقيا في بيت حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، إذ تراجعت مقاعده في مجلس النواب من 125 مقعداً إلى 13 مقعداً فقط، حيث فقد الحزب المدن الكبرى التي كانت تشكل بالنسبة إليه خزاناً انتخابياً باعتباره يمثل ظاهرة حزبية حضرية. هذه الهزيمة، هذا الانحدار عبر صناديق الاقتراع، يمثل حالة استثنائية في بلدان شمال إفريقيا، حيث كانت تكلفة إخراج الإسلاميين من السلطة سواء في مصر أو تونس، وبذلك يقدم المغرب درساً هاماً، يتمثل في ضرورة تكريس الممارسة الديموقراطية التي تستطيع لوحدها أن تضع الإسلاميين في المكان الذي يستحقون بقرار من الناخبين. هنا يجب التذكير بأن هذا الاختيار يمثل ممارسة أصيلة في الحياة السياسية المغربية،. يحضرني هنا موقف الملك الراحل الحسن الثاني مما شهدته الجزائر بداية التسعينات من القرن الماضي عندما تم الانقلاب على “جبهة الانقاد “في الجزائر عقب فوزها بالانتخابات، حيث كانت وجهة نظره تقوم على ضرورة ترك الإسلاميين في مواجهة إكراهات السلطة لاختيار رؤيتهم المثالية المثقلة بالشعارات.
لازالت عمليات التحول السياسي التي عرفتها بعض بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط تثير اهتمام الباحثين ومراكز الدراسات العالمية، فإذا كانت الخطابات العاطفية والحماسية قد تراجعت إلى الخلف، فإن البحوث العلمية الرصينة لازالت الوقائع المستمرة على الأرض، لا تسعفها في تقديم قراءة نهائية لما حدث ويحدث منذ عقد كامل في هذه المنطقة، إذ يبدو أن المنطقة دخلت في دورة مفرغة تحتاج إلى سنوات طويلة كي تستقر على وضع نهائي.
لكن وفي انتظار أن تنضج شروط البحث العلمي الرصين، فإن الوقائع الجارية إلى اليوم تمنحنا القدرة على تقديم قراءة عامة لما يحدث، سواء على مستوى الدوافع والأسباب، أو على مستوى النتائج المرحلية والتعقيدات التي تتجدد باستمرار، ومصير ما سمي بالربيع.
في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2010 كنت في العاصمة التونسية للمشاركة في لقاء دولي، كانت تلك زيارتي الثالثة لتونس، تشكلت لدي خلالها قناعة غريبة مفادها أن شيئاً ما قادم لهذا البلد، لا يتعلق الأمر هنا بالهاجس الأمني، فنظام زين العابدين بن علي ومنذ سنوات كان نظاماً قائماً على مركزية شديدة للأجهزة الأمنية ومختلف أجهزة الاستخبارات، لكن الأمر كان يتعلق بأبعد من ذلك، كان يتعلق باختبار الصورة التي نجح نظام بن علي في تسويقها عن الاقتصاد التونسي، وكان الأمر بالضبط يتعلق بمحاولة لقياس تلك النجاحات على مستوى الواقع المعيشي للشعب التونسي، ما تشكل لدي من قناعة رفقة آخرين، هو أن النظام التونسي نجح في خداعنا لسنوات طويلة، وأن عملية رصد عميقة للناس وللبنية التحتية ولنمط الاستهلاك ومختلف مظاهر الحياة اليومية، تثبت أن الشعب التونسي كان يوجد على هامش تلك النجاحات، وإذا أضفنا إلى ذلك الدرجة الصفر للحريات، فإننا نكون أمام تركيبة مولوتوف شديدة الانفجار تنتظر فقط أن يشتعل الفتيل.
كانت قناعتي أن الفتيل قريب، وكان رأي السفير المغربي آنذاك في تونس غير ذلك، إذ قال لي رفقة عدد من الأصدقاء في دردشة على العشاء، بأنه لا يتوقع حدوث شيء في تونس، وأن البلد يبقى من آخر البلدان التي يمكن أن تعرف تحركات تهدد طبيعة النظام السياسي. شخصياً اعتبرت كلام السفير في العمق لا ينفي إمكانية انتفاضة شعبية كبيرة، لكنه كان واثقاً من التعاطي الأمني لنظام بن علي معها، بالشكل الذي لا يمنحها أية فرصة للنجاح، فسمعة الأمن التونسي سارت بذكرها الركبان، والجيش ومنذ الانقلاب الأبيض على الحبيب بورقيبة، تم تهميشه وإضعافه بشكل ممنهج، وهو ما جعل الجيش التونسي على هامش الحياة السياسية، وهي ميزة حمت تونس من السقوط في الحالتين الليبية والسورية، إذ أن الدور الذي لعبه الجيش التونسي في الأحداث، كان حاسماً في عدم انفلات الانتفاضة الشعبية إلى حالة أمنية مستعصية.
الانتفاضة التونسية التي سميت “ثورة الياسمين”، شكلت انطلاقة لعبة دومينو الثورات في المنطقة، فعلى غرار انتقال الأنفلونزا، تداعت عدة شعوب إلى الساحات العامة ترفع شعاراً سحرياً هو “ارحل”، وكان لكل ساحة سياقها وطبيعتها، وكانت لكل بلد من الخصوصية ما يمكننا من الحديث عن انتفاضات بأشكال وخلفيات مختلفة، لكنها جميعا كانت سريعة على شاكلة “الفاست فود ” ، وكانت بلا بوصلة ولا خارطة طريق، والأخطر من ذلك أنها كانت بلا مشروع واضح غير إسقاط الأنظمة القائمة، فإذا كان صحيحاً أن الثورات ليست حفلات عشاء ساهرة يتهيأ لها الناس بشكل كاف، فإن ذلك لا يمنع الإقرار بأن غياب القيادة والرؤية لما بعد سقوط الأنظمة، كلف ويكلف هذه البلدان ما سيؤثر على فرصها في الحاضر والمستقبل.
أهم ما خلفته الانتفاضات السريعة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، تشرذم المشهد السياسي و بروز تعددية حزبية مشوهة، وبروز فاعل رئيسي يتمثل في جماعات التدين السياسي التي برزت كتنظيمات أكثر تنظيماً قياساً إلى باقي القوى اليسارية والليبرالية، لذلك فإنها استعجلت الدخول في اللعبة الانتخابية قبل التوافق على طبيعة الأنظمة السياسية الجديدة، وفضلت في مرحلة انتقالية دقيقة، أن تزج ببلدانها وشعوبها في أتون “ديموقراطية” تنافسية في بنية سياسية واجتماعية لم تتعود على المنافسة الديموقراطية، علماً أن القضايا المرتبطة ببناء الأنظمة الجديدة كان من المفروض أن تتم بنوع من التوافق الوطني، لأن هذا التوافق كان هو طوق النجاة الوحيد لتأمين الاستقرار الكفيل وحده بإخراج تلك البلدان من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية التي تكرست اليوم، إذ يعلم الجميع أن الفقر والتهميش والبطالة والامتهان الممنهج للكرامة، كانت هي الدوافع القوية وراء الانتفاضات الشعبية، أكثر من الاستبداد السياسي الذي كان يشغل النخب بصفة خاصة، لهذا شكل التسرع في إجراء انتخابات المؤسسات التشريعية ومؤسسة الرئاسة، مثلا في مصر، ضربة قاضية للاستقرار، لأن من فازوا في الانتخابات رفضوا قبول واقع أن بلدانهم تجتاز صحراء التحول السياسي، وهو ما يستوجب اشراك الجميع، لا الإنفراد بالسلطة وكأنها غنيمة حرب، والنتائج يعرفها الجميع اليوم، فليس هناك بلد واحد من بلدان ما يسمى بالربيع، استطاع إلى اليوم أن يحقق طموحات الشعوب التي خرجت في لحظة من لحظات اليأس والأمل تحمل أرواحها فداء لغد أفضل، فسوريا تحولت إلى مذبحة كبيرة، وليبيا خرجت من ديكتاتورية القذافي إلى جحيم المليشيات، ومصر توجد بين فكي الجيش و”الإخوان”، وتونس استنجدت بأقران بورقيبة لتحقيق أهداف ثورة قادها الشباب، أما اليمن فإنها دخلت حرباً أهلية بلا حل في الأفق، وفي كل هذه المشاهد يوجد ” الإسلاميون” ، وبالصدفة فإن ممثلي هذا التيار السياسي أظهروا تمسكاً كبيراً بالسلطة، ولم يروا في كل هذه الانتفاضات سوى أنها تشكل فرصة لتبوء مواقع الحكم ولو على ركام الوطن، فالإسلاميون باختصار.. أكلوا “الربيع” …