بعضُ العقولِ تُفصِح عن عَجْزِها التّامّ عن استيعاب الخِلاف في جميع أمورها.. ولا تجدُ في الأمر غضاضةً أو انتقاصاً من أهليتها لإصدار الأحكام -كما هو الشأن المُتعارف عليه عند العُقلاء-.
الذين يَحملون ثِقل هذه العقول الجامدة.. يَرفضون -بشكل قاطع- الاحتكامَ للقواعدِ الأصولية عند تناول الأدلة الشرعية.. لكن قد يَقبلون منها -فقط- ما لو رفضوه لاتَّهَمَهُم العوامّ بالحمق والجنون.. ذلك أن هذه القواعد تَمْنَعُ عليهم إعمال الهوى في الوحي، والتصرف في الأدلة الشرعية باللّفّ واللّيّ وِفق أهوائهم النشاز والغارقة في الغلو.
هذا العجز المُفضِي إلى الجهل.. هو ما أورث قلوبهم ضيقا وقلة صبر عن استيعاب الخلاف..
حقيقةُ وجودِ المُتشابه جنبا إلى جنب مع الحق في افتراقه عن الباطل.. تُربِكُهم ويخشونها مخافة انفضاح ضعفهم.. لذلك تجدهم دائما يُعمِلون في مُقابل المُتشابه طاحونة الإقصاء والتقزيم.. حتى لو طال إقصاؤهم كل الأمّة باستثناء جماعتهم -طبعا-.. لا بل حتى لو أعلنوا الشَّماتة بطائفةٍ من المسلمين وداهنوا الظالم..
لا يستحون من التعميم.. بل قد تصل الوقاحة بأحدهم إلى أن يعتبر -بمنتهى الإسفاف- كل النساء عاجزات عن فقه دواليب الإمارة- دون استثناء- بِمُقتضى تحجير دليل {لا يفلح قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً}.. مُتجاهلين أن عقل الفاروق الفذّ ..صاحبُ المُوافقات مع ما سينزل من الكتاب.. الشديد على المُخالف.. كل خِصال الرجل -رضي الله عنه- لم تمنعه عن الإشادة بفقه امرأة في مُقابل فقهه..
هؤلاء السُّذَّج.. الكثير منهم أبناء مدارس الهندسة والكليات العلمية.. ممّن اعتادوا أن يكون لكل المعادلات حلولاً مسبوقٌ تصوّرها في الأذهان.. فحين عمّت البلوى على الأمة واستفحل داء الخلاف فيها ورَامَ كُلُّ قومٍ بِتَأْوِيلِهِم فَرِحُونَ.. تكاسلوا هم عن طلب العلم الشرعي -كما طلبوا العلم الدُّنيوي-.. وأحبوا أن يُبْقوا على إحساس الريادة على عوامِّ محيطهم.. فما كان منهم إلا أن تعلّقوا بأقرب فرقة شبيهة -في تعاملها مع الأدلّة- بذلك التقعيد الرياضياتي البسيط..
وأنّى ثم أنّى ثم أنّى للقواعد الرياضياتية والفيزيائية أن تبلغ مبلغ القواعد الأصولية..
ذلك أنّ الأُولَى مَعْمُولُهَا على ما شاء الله له عدم الاختلاف لضبط التوازن الطبيعي على الأرض.. والثَّانية معمولها على ما شاء اللهُ له الاختلاف رحمة بالخلق..
وليعلم أصحاب الاستفراد والإقصاء أنّ:
الأمّة الإسلامية فيها الصالح والمُسيء والمُذنب والعاصي والغافل… متساوون في حفظ كلياتهم الخمس.. كلُّهم منّا ونحن منهم بمثابة الجسد الواحد الذي يتداعى بالحُمى والسهر عند شكوى أحد أجزائه.. نصرهم علينا واجب.. وليس منا من يدَّعِي الصلاح لنفسه والخيانة لغيره ويحتكم إلى الأيام أن تكشف ما يدَّعي.. هذا مجرد دَعِيٍّ سبقه إلى فعله هذا أدعياءٌ احتقرهم التاريخ وكوّمهم في زُمرة الغالين المُتَنَطّعِين..
فاتقوا الله في أنفسكم.. ثم فينا.. فنحن الجماعة التي لا تجتمع على ضلالة ولا تتفق على معصية ودعاؤنا مُرحَّبٌ به في السماء..
والحمد لله على نعمة الاجتماع على ما جُبِلَتْ عليه مِنَّا الطِّباع..