الإنسان القبيلة

هوية بريس – زوهير النبيه / باحث في علم الاجتماع
تنبيه: نؤمن ونحن نحاول وصف الواقع الذي نراه على الأقل بمنظور ذاتي وبالتالي ندركه ، بأن وصف مشكلة ما أو ما يبدو لنا أنه مشكلة هو أول خطوة نحو حلها. كما نؤمن أن المدينة التي نعيش فيها ولو لم نكن أبناءها فإن من واجبنا التنبيه إلى ما يسيء إليها لأنها شأن عام res publica.
يسترعي انتباهك وأنت تجول في مدينة آسفي أشكال غريبة لتملك المجال. فتجد أمام الدكاكين أكواما من معيقات الركن كالكراكسي والأكوام من علب “الكرطون”، فلا يمكن لأي كان أن يوقف سيارته أو دراجته أو حتى أن يمر وهو راجل من بين الحواجز في كثير من المناطق. كما تجد أمام المنازل براميل مملوءة بالإسمنت ومربوطة ببعضها البعض بدسر متينة لإبعاد المارة عن محيط المنزل الذي يعتبر في الأصل مجالا عاما.
لا يزال “الفرد” ساكن المدينة إلى اليوم محتفظا في لاوعيه بفكرة الدائرة المكانية للقبيلة وهي كما يثبت علم الاجتماع شرط من شروط التكوين القبلي بالإضافة إلى شرط العاطفة. والدائرة المكانية هي أرض الدوار أو مجموعة دواوير في المغرب تحيل على مجال القبيلة المعروف، والذي تفصله “الحدادة” أي الحدود عن باقي الدواير والتي لا تدخل في نطاق القبيلة. كما أن وضع الحدود هذا متسرب إلى الأفراد من نفس القبيلة والذي يظهر في عملية “التزراب” حول الخيمة (الدار)، وهي عملية جلب “الزرب” -نوع من أشجار الشوك- ووضعه على جوانب المساكن (النوالة) كحاجز أمام المتسللين الليليين المحتملين من وحوش وغرباء.
ولا تزال الآثار الثقافية لعملية “التزراب” هاته والبقايا الأنثروبولوجية لوضع “الحدادة” في مضمونها متفشية في المجال الحضري، في الشوارع أمام المحلات التجارية، وفي الأزقة أمام البيوت بأشكال متعددة ومختلفة. فعندما يضع أحدهم الحواجز في محيط منزله أو أمام محله التجاري لمنع الغرباء من الركن أو الوقوف فهو في الغالب يتصرف بمنطق القبيلة، فيصبح بالتالي “فردا قبيلة” على مستويي التفكير والتصرف على حد سواء.
ولا يزال “الفرد” في المدينة عاجزا عن إدراك علاقات الاتصال والانفصال بين المجال العام والمجال الخاص، فهي مبهمة بالنسبة له وغير واضحة، ولم يتمكن بعد من استيعاب الحدود بينهما. فيعتقد أنه بوضعه عدة حواجز أمام باب منزله أو دكانه فهو بذلك يحمي مجاله الخاص من المارة والعربات، في حين أن العملية التي يقوم بها بدراية أو عن غير قصد لا تعدو أن تكون استحواذا بينا على المجال العام وخرقا للقانون وبعد كل هذا تشويها لمنظر المدينة.
يخترق التفكير والتصرف بمنطق القبيلة الممارسة الاجتماعية في المدينة حيث يظهر جليا في طرائق تملك المجال. والأمثلة عديدة لا حصر لها، فإن ما يشد الانتباه في الأمكنة العامة كالحدائق والمنتزهات طريقة تمدد بعض الناس على الكراسي المخصصة للجلوس. فتجد مثلا شخصا واحدا ممدا ذراعيه على طول الكرسي، ومفرقا رجليه لردع من يريد الجلوس بقربه ومزاحمته في “كرسيه”. ويصبح الفرد الواحد بالتالي قبيلة متنقلة يدود عن المجال العام الذي سيجه ليصبح مجاله الخاص به.
حينما يفكر الفرد ويتصرف بمنطق القبيلة فإنه حتما “إنسان قبيلة”.



