الاجتهاد والمصلحة في الإجهاض تقتضي التشدد من أجل حق الجنين في الحياة
هوية بريس – د.محمد بولوز
أجاب المجلس العلمي الأعلى عن بعض انتظارات المواطنين بخصوص ما يشغل الرأي العام في موضوع الإجهاض، قائلا: “الخيط الأبيض في قضية الإجهاض هو المقتضيات المنصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي (الباب الثامن–الفرع الأول من الفصول 449 إلى 458)، ومعلوم أن وضع هذا القانون كان ثمرة عمل ومشاورات شاركت فيها، في وقتها، عدة مؤسسات من بينها المجلس العلمي الأعلى. ومن رأي المجلس العلمي الأعلى أن هذه المقتضيات لن يقع عليها تغيير إلا بقدرماتستدعيه المصلحة ويسمح به الاجتهاد”.
ونستعرض الفصول التي يحيل عليها بلاغ المجلس العلمي الاعلى، لنقف على صواب رأيه في هذا المجال، ونتعرف على بعض من يعتبرون أنفسهم متضررين من تلك الفصول، فدخلوا بحماس شديد على خط النقاش القائم لتغيير تلك الفصول، ولنعرف أيضا أن التغييرات التي وقعت في المجتمع المغربي، لا تنهض حجة للتغيير المنشود، لأن الحق في الحياة حق قديم للكبار والصغار والأجنة، وحق مستمر ودائم، لا يلغى ولا ينتقص منه مهما وقع من تطورات في حياة الناس، وإن كان من تغيير أو اجتهاد فيجب أن يسير في مصلحة تقوية هذا الحق وليس في اتجاه إضعافه وخصوصا أننا أمام نفس بريئة لم ترتكب جرما أو خطيئة حتى نفكر مجرد تفكير في الانتقاص من ذلك الحق، وتلك الفصول جاءت كما يلي:
الباب الثامن: في الجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة (الفصول 119 -7.1) الفرع 9: في الاجهاض (الفصول 119 – 171)
(الفصل 449)
من أجهض أو حاول إجهاض امرأة حبلى أو يظن أنها كذلك، برضاها أو بدونه سواء كان ذلك بواسطة طعام أو شراب أو عقاقير أو تحايل أو عنف أو أية وسيلة أخرى، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم.
وإذا نتج عن ذلك موتها، فعقوبته السجن من عشر إلى عشرين سنة.
الفصل 450
إذا ثبت أن مرتكب الجريمة يمارس الأفعال المشار إليها في الفصل السابق بصفة معتادة، ترفع عقوبة الحبس إلى الضعف في الحالة المشار إليها في الفقرة الأولى، وتكون عقوبة السجن من عشرين إلى ثلاثين سنة في الحالة المشار إليها في الفقرة الثانية.
وفي الحالة التي تطبق فيها عقوبة جنحية فقط، حسب هذا الفصل أو الفصل 449، فإنه يجوز علاوة على ذلك أن يحكم على الفاعل بالحرمان من واحد أو أكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل40 وبالمنع من الإقامة، من خمس سنوات إلى عشر.
الفصل 451
الأطباء والجراحون وملاحظو الصحة وأطباء الأسنان والقابلات والمولدات والصيادلة وكذلك طلبة الطب أو طب الاسنان أو الصيدلة وعمال الصيدليات والعشابون والمضمدون وبائعو الأدوات الجراحية والممرضون والمدلكون والمعالجون بالتسبب والقابلات العرفية، الذين يرشدون إلى وسائل تحدث الاجهاض أو ينصحون باستعمالها أو يباشرونها، يعاقبون بالعقوبات المقررة في أحد الفصلين 449 و450 على حسب الأحوال.
ويحكم على مرتكب الجريمة، علاوة على ذلك، بالحرمان من مزاولة المهنة، المقرر في الفصل 87، إما بصفة نهائية، أو لمدة محدودة.
الفصل 452
من خرق المنع من مزاولة المهنة، المحكوم به عليه، طبقا للفقرة الاخيرة من الفصل السابق، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلىسنتين وغرامة من خمسمائة إلى خمسة آلاف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
الفصل 453
لا عقاب على الاجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج.
ويطالب بهذا إذن إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأم في خطر غير أنه يجب عليه أن يشعر بذلك الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم.
وعند عدم وجود الزوج أو إذا امتنع الزوج من إعطاء موافقته أو عاقه عن ذلك عائق، فإنه يسوغ للطبيب أو الجراح أن يقوم بالعملية الجراحية أو يستعمل علاجا يمكن أن يترتب عنه الاجهاض إلا بعد شهادة مكتوبة من الطبيب الرئيس للعمالة أو الإقليم يصرح فيها بأن صحة الأم لا تمكن المحافظة عليها إلا باستعمال مثل هذا العلاج.
الفصل 454
تعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم، كل امرأة أجهضت نفسها عمدا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها غيرها أو رضيت باستعمال ما رشدت إليه أو ما أعطي لها لهذا الغرض.
الفصل 455
يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى آلفي درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من حرض على الاجهاض ولو لم يؤد هذا التحريض إلى نتيجة ما.
وتجري نفس العقوبات على كل من باع أدوية أو مواد أو أجهزة أو أشياء، كيفما كان نوعها أو عرضها للبيع أو عمل على بيعها أو وزعها أو عمل على توزيعها بأية طريقة كانت مع علمه أنها معدة للإجهاض حتى ولو كانت هذه الأدوية أو المواد أو الأجهزة أو الأشياء المقترحة كوسائل فعالة للاجهاض غير قادرة عمليا على تحقيقه.
غير أنه إذا ما تحقق الاجهاض على إثر العمليات والأعمال المشار إليها في المقطع السابق فإن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 449 من القانون الجنائي تطبق على القائمين بالعمليات أو الاعمال المذكورة.
الفصل 456
كل حكم بالمؤاخذة عن جريمة، مما أشير إليه في هذا الفرع، ينتج عنه، بحكم القانون الحرمان من مزاولة أي وظيفة أو القيام بأي عمل، بأي صفة كانت، في مصحة أو دار للولادة أو في أي مؤسسة عامة أو خاصة، تستقبل عادة سواء بمقابل أو بغير مقابل، نساء في حالة حمل حقيقي أو ظاهر أو مفترض أيا كان عددهن.
وينتج الحرمان أيضا عن الحكم بالمؤاخذة من أجل المحاولة أو المشاركة في تلك الجرائم.
الفصل 457
إذا صدر حكم من قضاء أجنبي بمؤاخذة شخص عن جريمة تدخل، طبقا للقانون المغربي، تحت مقتضيات فصول هذا الفرع، وأصبح الحكم حائزا لقوة الشيء المحكوم به، فإن محكمة الجنح التأديبية، التي يقيم بدائرتها المحكوم عليه، بناء على طلب من النيابة العامة، وبعد استدعاء قانوني موجه لصاحب الشأن، تصرح، مجتمعة في غرفة المشورة بانطباق الحرمان المقرر في الفصل السابق.
الفصل 458
من خالف الحرمان من مزاولة المهنة المقررة في الفصلين السابقين، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط. (انتهت الفصول المتعلقة بالاجهاض).
فهي تجرم الإجهاض وتستثني فقط حالة الام إذا كانت مهددة، وتتابع كل من يساهم في الجرم من قريب أو بعيد، وتهدد مصالح الكثير من المنتفعين بالجريمة وحتى من يروج للاجهاض ويشجع عليه.. فحق لفرائصهم أن ترتعد، ومفهوم سعيهم المحموم للتخلص من هذا القانون في أقرب فرصة ممكنة.
ولهذا لم يعجب البعض موقف المجلس العلمي الاعلى، وتصدى بعض دهاقنة العلمانية للأمر بالرسالة التياقل ما توصف به أنها سم في الدسم، فرغم بعض عبارات المجاملة للعلماء، فان الرسالة ترمي إلى مقاصد خبيثة فحواها: ما دمتم تنازلتم عن أصول سابقة في الولاية والتعدد وغيرها، ما يمنعكم أن تتنازلوا هذه المرة فتزيلوا التجريم عن الاجهاض وتيسروا على الراغبات في الاجهاض جريمتهن، وصاحب الرسالة من خلال ما عرف عنه في مقالاته وتصريحاته ومواقفه، وان كان لا يعتقد في صلاح مرجعية الأمة لتستند اليها في شانها العام، يوظفها في بعض ما يراه صالحا لتحقيق مآربه ومآرب طائفته العلمانية، كما قالتعالى: “وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِمُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُالظَّالِمُونَ (50)“، فهو وإن كان يزعم الحداثة، يتخلى هنا عن حقائق علم الأجنة والخبرة الطبية التي تؤكد أن حياة الجنين تبدأ مبكرا في نهاية الأسبوع الثاني والأسبوع الثالث، ويتسلح بأقوال الفقهاء الذين ينطلقون من خبرة زمانهم في علم الأجنة ويستدلون بأحاديث نفخ الروح، ليمدد بذلك إباحة الإجهاض إلى مائة وعشرين يوما حيث يقطع الإنسان تقطيعا، ومن ينظر إلى صور الأجنة في هذه المرحلة يعرف مقدار الجريمة التي ترتكب، يترك ما هو قطعي إلى ظنيات تستند إلى أحاديث لم ترد أصلا في موضوع الاجهاض وتتحدث عن الروح التي علمها عند ربي، وحال هؤلاء في التمسح بالدين لنقض الدين نفسه وتحقيق الاغراض المريبة، كحال الثعلب قام خطيبا على الديك في ثياب الواعظين على ما وصف شوقي رحمه الله:
بَرَزَ الثَعلَبُ يَوماً في شِعارِ الواعِظينا
فَمَشى في الأَرضِ يَهذي وَيَسُبُّ الماكِرينا
وَيَقولُ الحَمدُ لِلـــــــه إِلَهِ العالَمينا
يا عِبادَ اللَهِ توبوا فَهوَ كَهفُ التائِبينا
وَاِزهَدوا في الطَيرِ إِنَّ الـ ـعَيشَ عَيشُ الزاهِدينا
وَاطلُبوا الديكَ يُؤَذِّن لِصَلاةِ الصُبحِ فينا
فَأَتى الديكَ رَسولٌ مِن إِمامِ الناسِكينا
عَرَضَ الأَمرَ عَلَيهِ وَهوَ يَرجو أَن يَلينا
فَأَجابَ الديكُ عُذراً يا أَضَلَّ المُهتَدينا
بَلِّغِ الثَعلَبَ عَنّي عَن جدودي الصالِحينا
عَن ذَوي التيجانِ مِمَّن دَخَلَ البَطنَ اللَعينا
أَنَّهُم قالوا وَخَيرُ ال قَولِ قَولُ العارِفينا
مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أَنَّ لِلثَعلَبِ دينا
وبعضهم الآخر نادى بالحجر على العلماء حتى لا يتكلموا ولا يبدوا موقفا إلا إذا طلب منهم، وبأنهم لاينبغي أن يتجاوزوا دور تثبيت ما يسمح لهم بتثبيته، ولمز العلماء بأنهم عامل جر للمغرب إلى الوراء، ومجلسه “الموقر” في حقوق الانسان هو عامل الجذب والقيادة إلى الامام، إلى هناك في “باريس“حيث التقدم والحداثة ومغرب آخر لا يعرف المغاربة معالمه على وجه التحديد.
والحال أن موقف العلماء في المجلس العلمي الأعلى هو عين الصواب والمصلحة الحقيقية للمغرب والمغاربة وحق الأجنة في الحياة وذلك للاعتبارات التالية:
أولا: الاجهاض حرمان من الحق في الحياة:
قال الله تعالى في سورة الملك: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)”، فواهب الحياة هو الله تعالى ولا يجوز الاعتداء عليها أو إنهاؤها إلا بحق وإذن من خالقها، وقد ثبتت حرمة الحياة لكل مخلوق نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا، او في طور تكون الانسان بمجرد وجود الحياة، فقد نهى الشرع عن قطع الشجر وتدمير النخل، فعن يحيى بن سعيد “أنَّ أبا بكرٍ لما بَعث جيوشًا إلى الشامِ فخرج يمشي مع يزيدَ بنِ أبي سفيانَ وكان يزيدُ أميرَ رَبعٍ منتلك الأرباعِ فقال: إني موصيكَ بعشرِ خِلالٍ: لا تقتلوا امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولاتقطعوا شجرًا مثمرًا، لا تخربن عامرًا، ولا تعقرنَّ شاةً، ولا بعيرًا إلا لمأكلةٍ، ولا تُغرِقن نخلًا، ولا تحرِقنَّهُ، ولا تغلُلْ، ولا تجبن” ابن كثير (774 هـ)، إرشاد الفقيه 3/320، وقد روي هذا عن أبي بكر الصديق من وجوه كثيرة.
ونهى الشرع عن قتل الحيوان ففي الحديث الصحيح فعن عبدالله بن عمر: “دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلَمْ تُطْعِمْها، ولَمْ تَدَعْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ“. صحيح البخاري 3318، وفي مشروع التعديلات المعروض على البرلمان المغربي تجريم لقتل الحيوان فكيف بجنين الانسان، جاء في «المخالفات المتعلقة بالحيوانات:1. «الفصل 613.- دون الإخلال بالمقتضيات الجنائية الأشد، يعاقب «بالغرامة من 500 إلى1.200 درهم: «1- من تسبب في موت أو جرح حيوان أو دابة مملوكة للغير؛ «2- من ارتكب علانية قسوة على حيوان مستأنس مملوك له «أو معهود إليه برعايته، وكذلك من أساء معاملته بالزيادة في «حمولته». فهذا في الحيوان كيف بالنفس البشرية في أي مرحلة من مراحل تكونها قبل نفخ الروح وبعدها، وعلماء هذا الشأن يتحدثون عن بداية حياة معتبرة من نهاية الأسبوع الثاني من الحمل ويستدلون بحالة انفصال التوأمين وتكون عادة في حدود اليوم 14 من تلقيح البويضة.
ويتحدث الأطباء أن قلب الجنين يبدأ في التشكّل في الأسبوع الثاني من الحمل، ويستمرّ في النموّ بشكل يومي خلال الأسبوعين التاليين حتى تشكيل حجرات القلب الأربعة، ويبدأ القلب بضخّ الدم في الأوعية الدموية، فالقلب يبدأ بالنبض بعد 22 أو 23 يوماً من الحمل، وإذا صحت حياة القلب صحت حياة الإنسان كما في ظاهر الحديث “ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ“، فهل تكون للنبات حرمة وللحيوان حرمة ولا تكون لمن ثبتت حياته ونبض قلبه حرمة؟
ثانيا: الجنين والإنسان في طور تكونه تشمله النفس التي لا يجوز قتلها إلا بحق
ففي الاجهاض قتل لنفس وقد قال الله تعالى: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” فهذا التعبير الدقيق بالنفس يجعل الحرمة قائمة لكل نفس بما فيها نفس الجنين، فالنفس “نفسان: نفس حية بشرية لا روح فيها وهي التي تبدأ بمجرد حياة الجنين التي تبدأ مع نهاية الاسبوع الثاني من التقاء الحيوان المنوي بالبويضة وكذا بوجود نبضات قلبه مع نهاية الاسبوع الثالث، ونفس نفخت فيها الروح وهي التي يشير إليها حديث الاثنين وأربعين يوما وغيره، ولهذا فمجرد الحياة الجنينية الأولى في الرحم قبل نفخ الروح موجبة للحرمة وتجريم إسقاطها فلا يجوز الاعتداء عليها بالإسقاط إلا بوجود خطر متحقق على حياة الأم، والأصول اللغوية لكلمة نفس تؤيد اطلاق لفظة “نفس” على الجنين قبل نفخ الروح، فكلمة نفس تحيل على ما يتنفس أي خروج الهواء ودخوله من الأنف والفم وغيرهما، وجمعه أنفاس، وهو كالغِذاء للنَّفْس؛ لأن بانقطاعه بطلانَها. وتحيل نفس على مجرد جريان الدم وذلك أنه إذا فُقِد الدم من الإنسان فَقَد نَفْسه؛ أو لأن النَّفْس تخرج بخروجه، يقال: سالت نفسه، ومنه قول الفقهاء: ((ما ليس له نفس سائلة لا يُنجِّس الماء إذا مات فيه)) أي لادم له، وفي التعريفات للجرجاني “النَّفْس هي الجوهر البخاريُّ اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية” فحيثما وجدت الحياة أمكننا الحديث عننفس، والجنين في مراحله الأولى1 يتنفس وله دورة دموية. والنفس بالفهم الذي يستريح إليه العقل “هو أنها شيء غير الروح وغير العقل، وأنها هي الذات الإنسانية”، ومتى تكونت النفس فقد أصبحت لها حرمة النفوس، والتي لم يجزئها الشرع إلى كبيرة أو صغيرة، جنين في بدايته أو كهل وشيخ كبير في أواخر عمره، وإنما قال: “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” والجنين لم يقتل أحدا ولم يحدث فسادا في الأرض، فبأي حق يقتل ويجهض ويحرم من الحق في الحياة.
ثالثا: تجريم قتل الأجنة في السنة النبوية
فحين يشاء الله خلق جنين، يحرم أن يعمد احد الى اسقاطه سواء في ذلك امه او غيرها، وفعل ذلك رد لقدر الله واعتراض عليه وإهدار لحق نفس في الحياة بغير وجه حق، وفي الحديث المتفق عليه ما يؤكد جرم قتل الأجنة حيث جعل فيها رسول الله صلىالله عليه وسلم قيمة ما كان يشترى به عبد يومئذ وهو مال معتبر لا يكون الا في جريمة معتبرة، وهو ما يقابل إطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين باعتبار هذا كان يقابل عتق رقبة لمن عجز عنها، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة، فقال ولي المرأة التي غرمت كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك بطل (أي: يكون هَدْرًا لا تكون فيه دِيَةٌ)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان“.
فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم معارضته لحكم الشرع وذم سجعه وتكلفه في الكلام والخطاب لابطال الحق، وبين له انحرمة النفس قبل ولادتها كحرمتها بعد ولادتها، وان اختلف الحكم الواجب، والجامع حرمة الاعتداء على نفس ادمية من غير انيدخل النبي صلى الله عليه وسلم في تفاصيل مائة وعشرين يوما او ثلاثة اشهر او تسعين يوما او اثنين واربعين ونحو ذلك. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الالباني «والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة»، وكل ذلك يدل على الحرمة وعظم القدر وما حل من مصيبة بالام وذويه، وفي حديث ابن ماجة وصححه الالباني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده، ان السقط ليجر امه بسرره الى الجنة اذا احتسبته“، فاذا كانت هذه قيمة الجنين الذي لم يكتمل فكيف بمن اكتمل، ويدل الحديث أن الجنين كائن بشري كامل له ذمته ومكانته ويدخل الجنة ويدخل امه بل ويشفع في ابويه يوم القيامة، وهذا يؤكد خطورة وجسامة الجناية عليه بالقتل والاجهاض وحرمة الاعتداء علىحقه في الحياة2.
رابعا: الأدلة القطعية مقدمة على الادلة الظنية في المدة المبيحة لاجهاض الجنين
فالأصل الثابت حرمة المس بحياة الجنين متى ثبتت له الحياة، ولا يسمح بالمس بهذه الحرمة الا اذا ثبت بالقطع او الظن الراجح ان استمرار الحمل يهدد حياة الام، وما عدا ذلك لا ترقى مختلف الاعتبارات للتضحية بحياة الجنين، وفي حالات خاصة يمكن اللجوء الى غسل الرحم وتأمين ذلك، عند الاغتصاب او زنا المحارم او الاختلال العقلي للحامل ولكن في غضون الاسبوعين الاولين قبل وجود حياة الجنين ويمكن ان تمدد في الحالات القصوى الى نهاية الاسبوع الثالث قبل بدء نبضات القلب، اي الاستناد في هذه الاستثناءات لما هو قريب من القطع الذي تفيده الخبرة الطبية والعلمية المختصة في هذا المجال، ولا يجوز شرعا في مثل هذا الاستناد الى أمور ظنية وان كانت في ظاهرها مستندة الى الشرع، ونقصد اعتماد كثير من الفقهاء في تحديدهم المدة المبيحة للاجهاض عند الحاجة، على أحاديث نفخ الروح.
روى الامام البخاري بسنده عن عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه) قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم –وهو الصادق المصدوق- قال: «إن أحدكم يجمع [خلقه] في بطن أمه أربعين يومـا، ثم يكون علقة مثل ذلـك، ثم يكون مضغةمثل ذلك، ثم يبعث الله ملكـا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقـال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثـم يُنْفخ فيه الروح…».
وروى الامام مسلم بسنده عن حذيفة بن أَسِيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها وخلق سمعها وبصرهـا وجلدها ولحمها وعظامهـا، ثم قـال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أجله، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يارب رزقه، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص».
فظاهر الحديث الاول ان نفخ الروح يكون عند متم المائة وعشرين يوما، ونص الحديث الثاني على ان نفخ الروح يكون بمضي اثنين واربعين يوما، فوجب إزالة التعارض الظاهر بينهما بالجمع أو الترجيح، ولا شك أن الجمع أولى، مع عدم الغفلة عن ما يقوي المعنى الذي تسنده التجربة والخبرة الطبية والعلمية، فالمقرر أصوليا أن دلالة الحس معتبرة عند التعارض، أي أن ما شهد الحس والواقع بحصوله وجب اعتباره وتقديمه. وما دام قد ثبت بالصور والأشعة أن تكون الأطوار الأساسية للجنين يتم خلال الأربعين الأولى وجب الأخذ بمقتضاه. فيؤول حديث عبد الله بن مسعود في البخاري بما يجعله منسجما مع حديث حذيفة بن أسيد الوارد في صحيح مسلم.
فيقال إن رواية مسلم تفسر وتبين ما أجمل في حديث ابن مسعود عند البخاري، وتزيل الإشكال، وترفع اللبس، وتؤكد ما أثبته العلم الحديث من أن الأطوار الأساسية لتخلق الجنين، والمتمثلة في أن النطفة والعلقة والمضغة، لا تستغرق مائة وعشرين يوما كما شاع وذاع بين كثير من أهل العلم قديما وحديثا، بل تتم باكتمال الأربعين الأولى أو بعدها بأيام قلائل. فـ(ثم) هنا لاتفيد ترتيب المخبر عنه. فكانه قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومـا، ثم يكون في ذلك (كما في روايات أخرى صحيحة أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين)، ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوما) مضغة (مجتمعة مكتملة الخلق المقدرلها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين يوما). فالمضغة في حصتها من الأربعين، محكمة الخلق وكذلك الشان في العلقة، فنصب (مثل ذلك) على المصدر لا على الظرف. ونظيره في الكلام قولك: إن الإنسـان يتغير في الدنيا مدة عمره. ثم تشرح تغيره فتقول: ثم إنه يكون رضيعا، ثم فطيما، ثم يافعـا، ثم شابـا، ثم كهلا، ثم شيخـا، ثم هرما، ثم يتوفاه الله بعد ذلك. وذلك من بـاب ترتيب الإخبار عن أطواره التي ينتقل فيها مدة بقائه في الدنيا.
وهكذا يكون حديث ابن مسعود عند مسلم دالا على أن المراحل والأطوار الأساسية لتخلق الجنين تكون في الأربعين الأولى. وعليه، فيتعين فهم مضمون رواية البخاري لحديث ابن مسعود بما يتفق وينسجم معمضمون رواية مسلم لحديثه 3.
فالأنسب في مثل ما نحن بصدده من موضوع تجريم الإجهاض والتشدد في المدة التي يتسامح في اللجوء اليه عن الضرورة والحاجة الملحة، هو الاستناد إلى القطعي من الادلة أو القريب من ذلك، ولا شك ان الخبرة الطبية وعلم الاجنة أقرب وارجح فيالاعتماد واكثر احتياطا لحفظ النفوس التي تدخل في مقدمة الضروريات الخمس للانسان ويرجح الحديث الذي يقوي هذه المعاني او يكون التاويل المناسب في حال جمع النصوص بما ينسجم مع المقاصد الشرعية.
خامسا: إجهاض الجنين جريمة تشملها عمومات النصوص المجرمة للقتل
قال الله تعالى في آية الأنعام: “وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْتَعْقِلُونَ” (الأنعام، الآية: 151)، قال الشوكاني: «”وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ” اللام في النفس: للجنس التي حرم الله صفة للنفس، أي: لا تقتلوا شيئًا من الأنفس التي حرم الله إلا بالحق، أي: إلا بما يوجبه الحق» (كما في تفسيره فتح القدير).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [سورة الفرقان، الآية:68] وقال سبحانه: “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَالنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” سورة المائدة، الاية:32.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِمَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَاماً) رواه البخاري (6469).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذفالمحصنات المؤمنات الغافلات» (رواه البخاري).
سادسا: للحياة الجنينية الأولى حرمة لا يجوز انتهاكها
فمجرد الحياة الجنينية الأولى في الرحم قبل نفخ الروح موجبة للحرمة فلا يجوز التعدي عليها، فحرمةالجنين تبدأ مع وجود الحياة فيه، جاء في حاشية ابن عابدين (3/176): “لو أرادت (الحامل) الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه، وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره؛ فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله إلى الحياة، فيكون له حكم الحياة كما في بيضة الحرم، ونحوه فيالظهيرية“. اهـ وربما قصد بالكراهة كراهة التحريم، فيرجع القول إلى القول بالتحريم، وهو غير بعيد. «ويقصد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ… الآية) (المائدة، من الآية:95). وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إجهاض الجنين متى بدأت حياته ونبض قلبه ولو قبل نفخ الروح لأن تلك المرحلة أصل الإنسان..
سابعا: إجهاض الجنين جريمة يعاقب عليها الشرع بحسب مذهب كثير من الفقهاء
ذهب جمهور من أهل العلم كالغزالي والمالكية الى تحريم ايقاف الحياة ولو قبل متم الأربعين يوما. فبظهور ملامح البشرية على الجنين يصبح نفسا بشرية كاملة الحرمة يحرم الاعتداء عليها أو حرمانها من حق الحياة، وفي هذا المستوى يكون كل اعتداء عليه بالخطأ جريمة يعاقب عليها في الشرع بما يسمى بـ“غرة” أي عشر دية أمه. أي حوالي 213 جراما من الذهب. (88256 درهم تقريبا) مع الكفارة للمتسبب سواء كان المرأة نفسها أوساعدها من طبيب وغيره.
قال الامام الغزالي رحمه الله تعالى: “وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا“4. وإليه ذهب المالكية في قول الدسوقي: “ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا“5. ورأى الإمام ابن العربي أن للولد ثلاثة أحوال“حال قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل، وحال بعد قبض الرحم على المني فلا يجوز حينئذ لأحد التعرض له بالقطع من التولد. والحالة الثالثة بعد انخلاقه قبل أن تنفخ فيه الروح وهو أشد من الأولين في المنع والتحريم. فأما إذا نفخ فيه الروح فهو نفس بلا خلاف“6. وقال الرملي في (نهاية المحتاج): ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ لأنه جريمة، ثم إن تشكلفي صورة آدمي وأدركته القوابل وجبت الغرة) (نهاية المحتاج (8/442).
وذهب الكاساني وهو من الأحناف إلى وجوب دية إسقاط الجنين عمدا سواء ظهرت الحياة بنفخ الروح أم لا، وعلّل ذلك بقوله: “إن الجنين إذا كان حيا فقد فوت الضارب حياته، وتفويت الحياة قتل؛ وإن لم يكن حيّا فقد منع من حدوث الحياة فيه فيضمن… وسواء استبان خلقه أو بعض خلقه… وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا شيء فيه لأنه ليس بجنين إنما هو مضغة“7.
ونص زين الدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي في (البحر الرائق) على أن “الجنين الذي ظهر بعض خلقه بأنه يعتبر ولدا”، وقال غيره من العلماء لا يجوز التعرض للجنين إذا استبان بعض خلقه، فإذا تميز عن العلقةوالدم أصبح نفسا، ولا شك بأن حرمة النفس محسومة بالإجماع، وبنص القران الكريم.
فتحريم الإسقاط في جميع الأطوار، هو قول أكثر المالكية وبعض الحنفية، والغزالي وابن العماد وابن حجر من الشافعية، وابن الجوزي من الحنابلة، وقول الظاهرية وهو واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب والعز بن عبد السلام رحمهم الله تعالى.
فببلوغ اكتمال إنسانيته بنفخ الروح تكون الجريمة أشنع، والعجب ممن يتمسح بالحداثة والإعلاء من شأن العلم والتقدم حتى إذا كان بصدد التساهل في قتل الأجنة قال بالتسعين يوما وبالمائة والعشرين متعللابقول الفقهاء المبني على مجرد ظنون لا يسنده تطور علم الأجنة المعاصر.
وقد نقل الإجماع على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح الفقيه المالكي ابن جزي في قوانينه الفقهية حيث قال: وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح فإنه قتل نفس إجماعا) (“القوانين الفقهية“، ص:141).
فالأصل حرمة الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الروح تنفخ في موعد محدد ليس فيه أي دليل على جواز إتلاف الجنين في أي مرحلة كان.
ثامنا: لا يجوز للانسان أن يقتل نفسه فكيف بقتل جنين الانسان أو غيره
حق الحياة مقدم في الدين على كل اعتبار آخر، فالله واهبها وهو خالقها وبارئها ولا يحق لأي مخلوق أن يصادرها ولو كانت حياته هو، أو روحه التي بين جنبيه، ألم يحرم الإسلام الانتحار وجعله من كبائرالذنوب؟ قال تعالى: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا” (30 سورة: النساء)، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).
تاسعا: حق حياة الجنين مكفولة بموجب الدستور
ففي (الفصـل 20) الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق. وفي (الفصـل 22) لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة. لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية.، ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي (الفصـل 32): تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية. وأول ما يستحق الحماية حياة الجنين فلا تخضع لاهواء وامزجة الاخرين.
وكل هذا ينطبق على جنين الانسان، فله حق الحياة ومن واجب الدولة ومؤسسات المجتمع المختصة حماية هذا الحق وعدم السماح لاي كان ولو كانت أمه الحاملة به المس بسلامته او قتله او اجهاضه لانه انسان اخر يتكون وكائن ادمي في طريقه للاستقلال عنها.
عاشرا: لا يمكن في المغرب رفع التجريم عن ما هو مجرم في الشريعة
فالأصل في الإجهاض أنه حرام لتعلقه بنفس محترمة، فهذا مقتضى الإسلام الذي نص الدستور على أنه دين الدولة وأنه من الأسس التي لا يلحقها التغيير والتبديل، فجاء في ديباجة الدستور «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة»، وجاء فيها: «أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها»، وفي الفصل 3 منه «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية».
وقال جلالة الملك محمد السادس حفظه الله في خطاب 10-10-2003 المتعلق بمدونة الأسرة «لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين، أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله».
إحدى عشر: حياة الجنين كما هي حياة الانسان، منحة ربانية مقدسة لا يملك أحد حق انتزاعها من الأفراد بغير حق
وجاء في الدرس الحسني الرمضاني الذي قدمه الدكتور محمد يسف أمام جلالة الملك يوم الخميس 14 يوليوز 2014: «أن الحياة في منظور الإسلام منحة ربانية مقدسة لا يملك أحد حق انتزاعها من الأفراد بغير حق، وقد أعطي هذا الحق للدولة وحدها بموجب قانون القصاص لحماية مصلحة الجماعة وحياة الأفراد. ومن ثم، فإن العدوان على حياة فرد بدون حق هو عدوان على المجتمع كله، والاقتصاص من الجاني هو إحياء للمجتمع كله.
كما أحاط الإسلام هذه الحياة –يضيف المحاضر- بمجموعة كبيرة من الضمانات والتدابير القانونية والتربوية، فحرم منالمأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات وغيرها ما يضر بصحة الإنسان الجسدية والعقلية والمالية والأخلاقية، كما أسقط عنه بعض التكاليف والواجبات عندما يتعارض القيام بها مع سلامة الجسد، وأباح له بعض المحرمات عند الضرورة، ولكن بالقدر الذي يدفع تلك الضرورة. ولم تقف عناية الإسلام بالحياة عند الإنسان وحده، بل اعتبر ذلك حقا للحيوان غير الضاروغير المأكول».
اثنى عشر: حق حياة الجنين مكفولة بموجب المواثيق الدولية
ففي المادة 3. من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.
وفي المادة 5. لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.
وجاء في ديباجة اتفاقية حقوق الطفل (نونبر 1989) «إن الطفل، بسبب عدم نضجه البدني والعقلي، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة، قبل الولادة وبعدها“، وأيضا مما جاء فيها «وإذ تأخذ في الاعتبار الواجب أهمية تقاليد كل شعب وقيمه الثقافية لحماية الطفل وترعرعه ترعرعا متناسقا، وجاء في المادة السادسة منه: 1. تعترف الدول الأطراف بأن لكل طفل حقا أصيلا في الحياة. 2. تكفل الدول الأطراف إلى أقصى حد ممكن بقاء الطفل ونموه.
ثلاثة عشر: الاستثناء الوحيد في الإجهاض هو التهديد الجدي لحياة الأم الحامل
ويستثنى ما يغلب على ظن الطبيب الثقة أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها مثل أن يتخلق الجنين في غير موضعه الطبيعي ثم ينتفخ ويفجر القناة وينفجر في بطن المرأة فيقتلها ويموت الجنين نفسه، فحينئذ يجوز الإسقاط ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين؛ لأنه لإنقاذ نفس محرمة وليس من باب إسقاط الأجنة؛ وإنما هو تلافٍ لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة،
أربعة عشر: يجوز غسل رحم المغتصبة وفي حالة زنا المحارم والمختلة عقلا في حدود أسبوعين إلى ثلاثة
فيما عدا تهديد بقاء الجنين في بطن أمه لحياتها، لا ترقى باقي المبررات التي تقدم لتقنين الإجهاض وتوسيع إباحته إلى أن نضحي بنفس محترمة شرعا في سبيلها، سواء كانت مبررات اجتماعية أو اقتصادية او صحية او نفسية، فكل ذلك لا يتعدى ان يكون حاجيا او تحسينيا فلا يضحى بسببه بضروري من الضروريات الخمس للانسان الا وهو حفظ النفس من الاتلاف ولو كانت نفس جنين او انسان في طور التكون، فالاغتصاب جريمة عظيمة تستوجب عقوبة صارمة ولكن لا تبرر إضافة جريمة أخرى عليها وهو قتلالجنين، وإنما يكون الاجتهاد في احتواء الآثار ورعاية الجنين الذي لا إثم له ولا ذنب فيما وقع، وعلى الدولة والمجتمع ومؤسساته الاجتهاد في حماية بقاء الجنين حتى يكمل نموه الطبيعي وترعاه أمه او يسلم لمن يقوم بشأنه من أفراد أو مؤسسات موضوعة لهذا الغرض، ولعل في حال الغامدية التي زنت زمن النبي صلى الله عليه وسلم خير مثال حيث اعتنى بالجنين فأجل اقامة الحد عليها حتى وضعت، ثم اجلها حتى ارضعت وسلمه لمن يرعاه، ومثل ذلك يقال في زنا المحارم أو حمل المختلات عقليا ونحو ذلك من الحالات.
ونظرا للحالات الصعبة والشديدة للمغتصبة ولزنا المحارم ولحال المختلة عقلا يجوز المسارعة إلى شفط رحم المعنية وغسله قبل متم الأسبوعين او إلى حدود ثلاثة اسابيع في اقصى الحالات من وقوع مصيبة الجريمة الجنسية، بمساعدة طبية مناسبة تفاديا لذنب قتل الجنين وإجهاضه.
خمسة عشر: التهويل في أرقام الاجهاض لا يبرر تجويزه واباحته
إن تلويح البعض بالأرقام الكبيرة (ما بين 600 و800 حالة يوميا ببلدنا) لا يعدو ان يكون وسيلة للضغط والترويج للتغيير القانوني المنشود، وإلا إذا كان الأمر سريا فكيف عرفت كل هذه الأرقام وإذا كانت حقيقية كيف تواطأ الجميع على عدم تطبيق القانون بشأنها، وعلى فرض صحة تلك الأرقام، فيمكن القول بأن التقنين لن يزيده إلا استفحالا وتزايدا والدليل ما يحدث في الدول التي قننته والأرقام تتحدث عن حوالي خمسين مليون إجهاض سنوي في العالم وأكثر من نصفها في الدول التي تقننه.
لكل ما سبق فالأسلم اعتماد ما جاء في القانون الجنائي أرضية صالحة لاستمرار التحاكم اليه، واعتبار فصوله في شأن موضوع الاجهاض كافية في بابها وليس هناك مسوغ لتعديلها. وابقاؤها كما هي هو مقتضى الاجتهاد الصحيح والمصلحة المعتبرة شرعا، واذا كان من اقتراح فلمزيد من تشديد عقوبات الإجهاض، صيانة لحق الجنين في الحياة. مثل:
التنصيص على غرامة مالية اشد من الواردة اعلاه والتي أرى ان تعادل عقوبة «الغرة» التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والغرة في اصطلاح الفقهاء هي: الأمَة أو العبد الصغير المميز السليم من العيوب لما كان نظام الرق معمولا به دوليا، وتساوي الغرة عشر دية الانسان فتقدر دية الجنين بمائتين وثلاثة عشر جراما من الذهب تقريبا، (88256 درهم مغربيةتقريبا) ، ويوزع هذا المبلغ على ورثة الجنين كلُ حسب إرثه المقدر له في كتاب الله باستثناء من تسبب في إسقاط الجنين.
اعتماد طبيبن في قرار الإجهاض بسبب ما يهدد حياة الام احتياطا لحق الجنين في الحياة والذي لا يلغيه سوى الخطر المحقق على حياة الأم.
ومعروف في الاجتهاد الفقهي أن بعض الامور تعالج بالتشدد فيها لا بالتساهل والترخص، وخصوص اذا تعلقت بالاصول والضروريات الخمس للانسان والتي منها حفظ النفس والحق في الحياة، ونتذكر هنا رأي عمر رضي الله عنه في التشديد في أمر الطلاق، وتشديد علي رضي الله عنه في حد الخمر لما توسعوا فيها فجعل الحد ثمانين عوض أربعين قياسا على حد القذف، فهذا هو الذي ينسجم مع مقاصد الاسلام في حفظ النفوس، وينسجم مع رأي كثير من الفقهاء ومنهم المالكية تاج المذهب المعتمد ببلدنا وينسجم مع دستور المملكة والتوجيهات الملكية في عدم تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل، وينسجم مع المواثيق الدولية التي تؤكد على الحق في الحياة.
—————
1- حقيقة النفس في القرآن الكريم ومعانيها صلاح بن سمير محمد مفتاحhttps://www.alukah.net/sharia/0/120342/
2- انظر: “دليل المقاصد التربوية للمرحلة الجنينية” د.عبد الرحمان العمراني.
3- انظر: د.عبد المنعم التمسماني «دراسة موضوعية لأحاديث تخلق الجنين في ضوء حقائق علم الأجنةالحديث» http://www.msf-online.com/%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%85%D9%88%D8%B6%D9%88%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%A3%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%AA%D8%AE%D9%84%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%B6/
4- إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، كتاب آداب النكاح، ج 2، ص:51.
5- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، الدسوقي، ج2/ص266.
6- القبس شرح موطأ مالك، أبو بكر بن العربي، ج2، ص:763.
7- الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج7،ص:326.