الاختراق العقدي.. المغرب أمام خطرين كبيرين

14 سبتمبر 2025 13:07

الاختراق العقدي.. المغرب أمام خطرين كبيرين

هوية بريس – نبيل غزال

في 24 من أبريل 1885م، وخلال جلسة عامة للجمعية الجغرافية الفرنسية بباريس، قدم هنري دوفيريي، (أحد أبرز الرحالة الفرنسيين والمستكشف للصحراء الكبرى)، تقريرا مفصلا عن رحلة الراهب شارل دو فوكو، المنظر والداعي لسياسة التنصير بالمغرب.

الرحلة التي وثقها دوفوكو في كتابه Reconnaissance au Maroc حصل بسببها على ميدالية ذهبية من الجمعية الجغرافية بباريس، مكافأة له على إنجازه العلمي، وتشجيعا له على مغامراته داخل أرض محفوفة بالمخاطر تكن عداء كبيرا للأجنبي.

وقد اعترف لويس ماسينيون، في رسالة وجهها إلى إحدى السلط الأسقفية سنة 1951م، أن القس شارل دوفوكو، ألح عليه خلال فترة (1909-1913م)، بأن يهب حياته لخدمة المسيحية والقضاء على اللغة العربية والإسلام في بلاد شمال إفريقيا الخاضعة لفرنسا، لتحل محلها اللغة الفرنسية والعقيدة النصرانية.

لقد ارتبطت الحركة التنصيرية بالمغرب بشكل وثيق بالحملات الاستعمارية، حيث توافد على المغرب خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عدد كبير من الرهبان والقساوسة من كنائس وجنسيات مختلفة، في إطار رحلات استكشافية منفردة، أو مؤطرة ضمن مشاريع استعمارية شمولية، ساهمت فيها الكنيسة بشكل كبير، وذلك من خلال تدعيم أسس النظام الاستعماري. (انظر كتاب: السياسة الدينية للحماية الفرنسية بالمغرب؛ د.سعيد لحسايني).

وقد كانت الغاية من وراء حملات التنصير هي اختراق الوحدة العقدية، وتفتيت البنية الثقافية، وتدمير المجتمعات الكافرة بالصليب.. ولتنزيل هذا المخططات عملت البعثات التنصيرية؛ الكاثوليكية والبروتستانتية والأنجليكانية والفرنسيسكانية على استغلال الأوضاع المزرية التي كان يمر بها المغرب سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني أيضا..

ونفسح المجال ها هنا للأستاذ الحسين بوعياد ليكشف لنا عن الآليات التي وظفتها السلطة الفرنسية التي خرجت لتوّها من ثورة رفعت فيها شعار “الحرية والمساواة والأخوة” وأرست بعدها مبدأ حرية المعتقد، وعملت من خلالها على التغلغل في البنية المجتمعية للمغرب.

قال ذ.بوعياد في كتابه (الحركة الوطنية والظهير البربري في الخارج 1930) وهو يعدد مجالات التنصير بالمغرب:

أولا: وجود جمعيات تبشيرية لنشر الدعاية ضد الإسلام، بواسطة المحاضرات.

ثانيا: تأسيس المدارس الدينية في جل البوادي والمدن المغربية، يعهد بإدارتها إلى الرهبان الفرنسيسكان، وهؤلاء يعملون على جلب أبناء المغاربة إلى مقراتهم بقصد تعليمهم الفرنسية في الظاهر، وإن فشلوا في ذلك تدخلت إدارة الإقامة العامة لإجبار المغاربة على سوق أبنائهم إلى أحضان الرهبان بدعوى التعليم.

ثالثا: فتح الملاجئ ودور الأيتام لحشد الأطفال أبناء الفئات الفقيرة.

رابعا: فتح مدارس صناعية للفتيات، وإسناد القيام بشؤونها إلى الرهبان والراهبات.

خامسا: بناء عدد كبير من الكنائس والأديرة في المدن والقرى، بمساعدة إدارات الاستعلامات العسكرية التي تقدم وتوفر قاعات الممارسة الشعائر المسيحية والصلوات، والدعم المالي واللوجستيكي السنوي، الذي تقرره الحكومة الفرنسية وتحوله إلى المبشرين الفرنسيسكان.

سادسا: إخراج القبائل الأمازيغية من حوزة الشرع الإسلامي، وذلك بدعوى احترام قوانينها العرفية وتنظيم العدلية فيها.

سابعا: منع الأمازيغ من التقاضي أمام القضاء الشرعي، خاصة ما تعلق بالأحوال الشخصية، كالزواج والطلاق والميراث، ومنع مدرسي القرآن الذهاب إلى المناطق الأمازيغية لتعليم أبنائها.

ثامنا: جعل السفر من الجبال وغيرها إلى المدن تابعا للحصول على جوازات السفر ورخص التنقل، تسلمها إدارات الاستعلامات العسكرية الفرنسية، وذلك بهدف منع اتصال واختلاط الأمازيغ بسكان المدن.

تاسعا: منع رؤساء الزوايا والطرق الدينية من زيارة القبائل الأمازيغية، لكي لا يحصلوا على الأتباع، ولا يعلموهم قواعد الديانة الإسلامية.

عاشرا: تأسيس مدارس بربرية – فرنسية، لا تلقن فيها اللغة العربية ولا تعاليم الدين الإسلامي.اهـ

اليوم وبعد هذا المسار الطويل العريض من محاولات اختراق البنية العقدية للمغاربة، ومع كل الجهود التي بذلت سواء من طرف المخزن أو العلماء أو الوطنيين لمواجهة الحملات التنصيرية التي كانت لها أهداف واضحة ومعلنة من دولة لائكية توظف الدين لأهداف إمبريالية وتوسعية، ومع التحولات الاقتصادية الكبرى وارتباطها بمواجهات الهجرة من الجنوب للشمال، وما ينقله كثير من المهاجرين من حمولات سلوكية وفكرية وعقدية، تجدد النقاش حول موضوع التنصير، وإنشاء مجموعة من الأفارقة لكنائس سرية بعدد من المدن المغربية..

وبمناسبة سؤال وجهه عبد الصمد حيكر، عضو المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، لكل من وزيري الأوقاف والشؤون الإسلامية والداخلية بشأن انتشار ظاهرة استغلال أفارقة لعدد من الفضاءات تحت الأرضية وغيرها لإقامة كنائس سرية، أزعجت مواطنين وأفقدتهم الأمن الروحي، خرجت بعض الأصوات النشاز المعروفة بتطرفها ومعاداتها لدين وهوية وقيم المغاربة، مطالبة بإنشاء كنائس للأفارقة، وليس هذا فحسب بل طالبت أيضا بالحد من عدد المساجد وكتم صوت المآذن لأنها بالنسبة لها “مزعجة”.

طبعا هذه الفئة كما سبق وأشرت، شاذة ومنبوذة وتعيش على الهامش، وذلك على الرغم من الدعم التي تحظى به من جهات داخلية وخارجية، رسمية وغير رسمية، لكن يهمنا هنا ربط التاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، والسياسات والأجندات الخارجية ومن يعمل من داخل مجتمعنا من أجل تنزيلها والتمكين لها وتبريرها تحت مسميات عديدة.

وفق شهادات وثقها زعماء الحركة الوطنية من مثل الراحل أبو بكر القادري -رحمه الله- في مذكراته، فقد كان من يقبل فقط أن يخطب الجمعة بموافقة من الاحتلال الفرنسي يوصف بالخائن، أما من يبرر مخططاته وينزل سياساته سواء في الإلزام بالدراسة في المدارس الأجنبية أو محاربة اللغة العربية أو التحاكم إلى المحاكم العرفية عوض الشرعية أو التفريق بين العرب والأمازيغ بناء على ظهير بربري مشؤوم فرضته السلطات الفرنسية… فهذا كان له شأن آخر لدى الوطنيين ورجالات المخزن المعارضين لسياسة الاحتلال.

اليوم، وبعد عقود من إفشال المغاربة لمخططات التنصير الوافد سواء من أمريكا أو بريطانيا أو إسبانيا أو فرنسا أو البرتغال.. نجد أنفسنا أمام عودة لنفس السيناريو بأشكال وأساليب جديدة، حيث يحاول البعض تبرير بناء كنائس سرية بدعوى حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحق في الممارسة الدينية..!! ويغلو ويتطرف حين يرفع بالمقابل مطالب الحد من بناء المساجد وكتم أصوات المآذن.

إنها محاولات متجددة لا تختلف في جوهرها عن تلك التي سعت بالأمس إلى تفتيت وحدة هذا الوطن وضرب هويته الدينية والثقافية؛ الفرق بين الأمس واليوم أن ما كان يُعتبر خيانة في زمن الجهاد للتخلص من ربقة الاحتلال صار اليوم يُقدَّم في ثوب التحرر والتنوير، بينما الحقيقة أن الأمر لا يعدو أن يكون ممارسة للخيانة في أبهى صورها واستمرارا في دعم مشروع خارجي بمبررات متعددة.

من أجل كل هذا يبقى المغرب أمام خطرين كبيرين، خطر الاختراق العقدي بكل تجلياته، وخطر من يبرر ذلك بواسطة شعارات صنعها وسوَّق لها من يطمح لهذا الاختراق..

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة