الانْتِهَاضُ لِمُجَرَّدِ الاعْتِرَاض مِنْ جُمْلَةِ الأَمْرَاض…!!
هوية بريس – إسماعيل المقدم
الحمد لله الذي جعل لكل داء دواء، ولكل مرض شفاء…
أما بعد:
فكما أن الأمراض العضوية هي مما يسعى المرضى لتطلب دوائها، فإن ما قد يصيب الإنسان من الأمراض غير العضوية يلزم عليه كذلك البحث عن سبيل للبُرء منها….
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها من جملة الأمراض ولو أنها غير عضوية وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى سبيل الشفاء، ووصف لها البَلْسَمَ والدواء بقوله: «ألَا سألوا إذ لم يَعْلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السؤالُ».
والحديث أخرجه أبو داود في قصة برقم: 336.
قال ابن رسلان في شرحه على سنن أبي داود 644/2:
“وفيه: أن الجهل داء عُضال، فينبغي أن يطلب دواؤه، وهو سؤال أهل العلم، وأي داء أدوى من الجهل؟!”.
وهذا النوع من الأمراض لا ينفع معها: لا عقاقير الأدوية، ولا المحاليل الطبية، وإنما هي الحجج العلمية، وما سطره العلماء بمدادهم من الوصفات العلاجية…
وقد يأبى بعض خلق الله إما بحسن نية أو بخُلْفِه، إلا التلبس بمثل هذه الحال (الانتهاض لمجرد الاعتراض) الذي ذُكر في عنوان هذه الأكتوبة، وهو نص قولٍ للإمام سراج الدين البُلْقيني استللته من كتابه “محاسن الاصطلاح” ص 240.
وأخشى أن يكون استفحال مرض الجهل الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءه، هو الذي جر هذا اللون من المرض المركب من الجهل وسوء الأدب، فترى الواحد من صَرعاه لا يثنيه جهله، ولا الحياء من بُدُوِّ سوءة خُلقه، أن يرعوي ويكف…
وانظر حال بني إسرائيل لما أبوا إلا الاعتراض على موسى عليه السلام، إذ أمرهم بذبح البقرة، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 66].
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:
“أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى، حين قتلتم قتيلا وادارأتم فيه، أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله، حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد – لولا تبيين الله لكم – يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره، وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض، فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}.
وتحاشي هذا المرض، والفرار منه هو دأب العلماء، وسبيل من رام الحق لا اللجج والخصام…. فهذا ابن الوزير يقول في كتابه “الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم”230/1:
“وقد رأيت أن أقتصر على ذكر أوهام وهمها في هذا الفصل من الأوهام التي لا يفيد ذكرها ولا يهم أمرها؛ فإنّ مجرّد التعرض للاعتراض من غير فائدة مما ليس تحته طائل، ولا يستكثر من ذكره فاضل”.هـ
ولما وقفت على تلك الكلمة البُلْقينية سارعت لتقييدها؛ لِما جمعته من المعاني وخبأته وراءها من ذيول الكلام، فهي كما يقال وصفت واقعا، وشخصت داء، ثم هي من مثل ذلك الإمام مما يعض عليه…. ولربما هذا النوع من الأمراض حال دون الكثير مما بقي مسطورا في الأوراق ومعقودا في آمال المصلحين من العلماء الربانيين مما رجوه لأمتهم من التقدم والنهوض…
وكان من دواعي زَبر هذه الأكتوبة، -وقد كنت في نفسي أُزوِّر لها منذ مدة، ولا أكاد أنساها، إلى- أن قرأت منشورا للدكتور عصام البشير المراكشي -حفظه الله-، نشره على حسابه التويتري ذكّرنيها، فعلقت على كلامه بنصها، فأُعجب بها…
ونص ما كتبه في المنشور -حفظه الله-:
“تعلمت من مواقع التواصل أن بعض الناس مصاب بمتلازمة المخالفة!
وأبرز أعراضها: التعليق بالمخالفة لأجل المخالفة، لا غير…
فلو أنني كتبت مثلا “السماء فوقنا” -وهو مما يضرب مثلا للبدهي الواضح الذي لا يختلف فيه ولا يستدل عليه-، لوجدت في التعليقات من يقول:
✓ ما الدليل من الكتاب والسنة على ما تزعمه؟ أم أنك من أصحاب الرأي، وأتباع الهوى؟!
✓ قد توجد عوالم أخرى تكون فيها السماء تحتنا.. فلم التعميم ؟!
✓ يوجد كثير من الناس (في مستشفيات الأمراض العقلية مثلا) لا يعتقدون أن السماء فوقنا.. فهل تكفرهم لأنهم لا يعتقدون مثل عقيدتك ؟! وهل أنت مسؤول عن عقائد البشر؟! دع الناس لخالقهم!!
✓ هذا يختلف باختلاف المرجع الذي تعتمده، فلو وقفنا على رؤوسنا لكانت السماء تحتنا.. فلم الحسم في قضية نسبية كهذه؟!
✓ كان عليك أن تقول “والأرض تحتنا”، أم أنك تتلقى دعما ماديا مشبوها من السماء فاحتقرت الأرض لأجل ذلك؟
✓ كفاكم كلاما يا مشايخ السوء.. الناس تموت جوعا، وأنتم تتحدثون عن السماء!
✓ هذا الكلام متجاوز علميا، الناس اليوم يتحدثون بلغة العلم عن النجوم والكواكب والمجرات والثقوب السوداء، وأنتم ما تزالون تعبرون بألفاظ القرون الوسطى، فتتحدثون عن شيء اسمه “السماء”!
✓ العقل الديني ينظر دائما نحو السماء، والعقل الحداثي الأوروبي تطور حین قلب منظاره نحو الأرض. ستبقون متخلفین ما دمتم منشغلين بأمر السماء “. هـ
وشأن من يريد مجرد المخالفة شأن المنتقدين المتقعرين على حد وصف الطاهر ابن عاشور في “التحرير والتنوير” 145/12.
وإنني أترك لك أيها القارئ اللبيب ضرب الأمثال، وكشف الأحوال، فإنني أظن أنه لا يخفى عليك من كان قصده مجرد الاعتراض، ومن كان قصده المذاكرة والمناقشة العلمية؛ فقد رأيت هذه الأكتوبة كثرت حروفها وطال ذيلها، ولم أرد الإطالة أكثر.
وقد كان دوما قصدي من هذه الأكتوبات، ولا زال هو الإشارة والإثارة العلمية، ليس غير!!…
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل.
اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما.
آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.