البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المركزي 1912-1933م (ج5)
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
التنظيم الدفاعي
من أول يوم في غزو المغرب لآخر يوم فيه كان الهدف المقرر لكل تقدم لنا هو إخضاع قبيلة أو أكثر باعتماد المحدد الإثني للقبيلة وليس المحدد الجغرافي، بيد أن قرار التقدم لم يكن يتخذ أحيانا بواسطة المعركة، إذ كانت الوسيلة الوحيدة الممكنة هي نوع التصرف والمعاملة أثناء الاحتلال الممنهج المنسق للبلاد منتظرين عودة السكان لأرضهم بعدما فروا منها عند علمهم باقترابنا منها.
وفي حالة خضوعهم مباشرة، يطرح علينا ذلك الاحتلال بشكل عام أن نكون أمامهم ونتركهم خلفنا يفعلون ما يريدون في البلاد المغزوة الخاضعة التي نريد امتلاكها، الأمر الذي يتطلب حمايتها هي وسكانها الخاضعين، القبائل المغزوة لا تنظر للخلف بل تتطلع للأمام كما يقول (بيكود).
هذا الاحتلال أيضا نفذ بأشكال مختلفة: قوات قوية متحركة كافية تخترق البلاد باستمرار، لتحقيق الحصول على إخضاع العصاة الخصوم، وحماية تامة للسكان الخاضعين، أو القيام باحتلال ثابت يدار من قبل مراكز موضوعة بذكاء وعناية تجعل النواحي الأكثر ضرورة لحياة القبائل تحت نيرانها حتى لا تبقى مهددة بنيران غارات وهجمات العصاة.
في الحقيقة تنظيم هذين الإجراءين المتكونين من الدفاع المتحرك والدفاع الثابت وضعا في كل مكان، القوات المتحركة لا يمكنها العمل دون نقط دعم، هذه الأخيرة لا تمثل بالنسبة لها سوى مراكز تموين، من جانب آخر المراكز الكثيرة المنتشرة تشكل حاجزا لا يخترق ليلا ولا نهارا من قبل العصاة سواء للرعي أو الفلاحة في الأراضي المجاورة لها، بيد أن المراكز لا تتواجد في كل مكان وإنما هي موجودة على غرار ما كانت تقوم به المحلات الشريفة التي كانت تتمركز في النقط الرئيسية للمسالك والمضايق ونقط التحريض حتى يسهل تحريكها عند الحاجة، وبذلك تكون خارج نطاق الحماية الصلبة للسكان الخاضعين ضد اعتداءات العصاة.
فإذا ما تم توزيع عناصر تلك المراكز على مفارز صغيرة فستجد كل مفرزة نفسها أقلية في أية مواجهة مسلحة مع الخصم.
زد على ذلك أن تماسك النظام كثر من عدد المراكز الثابتة لتحقيق دفاع دائم، وقدم ساترا خطيرا لتثبيت عدد من العناصر على حساب القوات المتحركة الوحيدة الجديرة بالتدخل في حالة انقطاع الجبهة أو إخضاع بواسطة هجوم على أراض جديدة.
المسألة التي ستطرح ستنتهي بتحديد حقيقي بين الوسائل الضرورية الخاصة بالدفاع الثابت من جهة، والقوات المتحركة من جهة أخرى.
الحل سيكون سهلا بسيطا إذا كان الأفراد مستعدون في كل تقدم يدعمون بصلابة الجبهة، سيسمح الكل بتكوين مجموعات متحركة عديدة مجهزة.
منذ بداية التهدئة لم تتجاوز أعداد القوات بالمغرب 80.000 رجل ما عدا أثناء حرب الريف، (ارتفع لـ140 ألفا) باعتبار عناصر الحاميات المحافظة في المؤخرة على ما تم احتلاله والدفاع عن مختلف العاملين بمختلف المصالح المنتشرة على طول الجبهات، يعتبر هذا الرقم المكون لعدد القوات العاملة بالمغرب للقيادة والسيطرة والقتال ضعيفا لدرجة الدهشة.
ومع ذلك الضرورة تطرح تخفيضا تلزمه ضرورة الأعداد المتصلة من قبل الدفاع الثابت بالجبهات.
هذه النتيجة يمكن بحثها هي بنفسها سواء من حيث تحديد عدد المراكز أو تخفيض أفرادها.
النظرية الأولى استخدمت في بداية التهدئة بالنواحي السهلة الطواف، باحتلالها أولا، ثم إقامة المراكز ذات الأعداد المحدودة من الجنود التي لا تقاتل إلا في نقط تجمعات أو تموين لفائدة المجموعات المتحركة، وهي لا تفتأ عن الحركة في البلاد تراقب وتلاحق بقايا فلول المجموعات المعادية التي أعلنت خضوعها بالقتال، هذه الطريقة طبقت في الجبل لكنها لم تكن فعالة وأحيانا كثيرة كانت شؤما على قواتنا الثابتة أو المتحركة.
في وجود ساكنة بربرية متمرسة على الحرب وشديدة العداوة، في بلاد صعبة المراكز المنعزلة، سهلة الحصار من قبل العصاة وتموينها بشكل دوري يطرح كل مرة القيام بعمليات شاقة ومكلفة.
عندما توازن انعزال الحاميات وبقائها بدون تعزيزات هامة بأعداد مقيدة دون دور، وعندما تترك هذه الحاميات في عطالة وتضطر للخروج فجأة للقتال، تتكبد خسائر باهضة ودامية، ونكبة لهري سنة 1914 أكبر دليل على ذلك.
لكن القول بأن دور المراكز سلبي وإدانتها، هو إقرار بأن حركتها تنتهي في حقل مدى رماية أسلحتها الأوتوماتيكية وحيث حملت مدفعيتها، في هذه الحالة أعداد عناصرها تتناقص على الأقل بالنسبة للأفراد غير القابلين للخدمة بمصلحة التسليح.
لكن بعض المراكز لا مبرر لوجودها بعدما تم حذف دورها وربطها بعمل مركز مجاور لها من أجل إدخالها في نسق دفاعي متماسك بمعنى جبهة منظمة لبلوغ هذا الهدف.
حماسة الأعمال يجب أن تُتَمَّم بعملية الوحدات المتحركة للقطاع، قوات مكملة مختارة تساعد السكان الخاضعين، قاطعة المسافات المعترضة لها نهارا وليلا، وأيضا حامية أشغال المراكز، ومسالك ارتباطها بالمؤخرة، من تحركات العصاة حولها.
انتقادات حقيقية صدرت ضد نظام دفاعي ما، الآن كل الحدود الدنيا لعمل المراكز محددة بمضاعفة تنفيذ الأوامر الصادرة عبر السلوك الجيد والحفاظ على معنويات الحاميات، ملتزمين طيلة الشهور على حراسة رتيبة في عزلة أكثر إيلاما.
الفعالية الضرورية لتأليف فصيلة أقل صعوبة منها فيما لو كانت في فوج، وهذا ما يقترب من نموذج المراكز الصغيرة المطبقة على وحدات المشاة المتحركة منذ مدة في المهام القتالية أو غيرها بمعنى قابليتها لتنشيط كل العمليات.
على أي جبهة نشيطة، الوسيلة المنطقية لاستلهام هاتين الضرورتين في كل تنظيم ثابت لا بد له من وحدة متحركة مراسلة للبعثة العاملة في المهمة المتوجب القيام بها للإخبار بانتهائها.
في الأطلس المركزي، الكوم وحدات مهمة نسبيا، تبقى وحداتها بصفة عامة مجمعة، في حين أن مفارز المخازنية قوة متغيرة لكنها نادرا ما تكون أقل من ثلاثين بندقية تضاهي في تحركها حركة العصاة عاملة تحت حماية نيران مهامنا، المرهونة بالتحركات والمسافات بين هذين الأخيرين.
منهجية أخرى، من الأحسن وضع امخازنية جيدين بعدد صغير لكن اختيروا من القبائل الأكثر مقاتلة في حين أن المفارز الهامة مكونة من عناصر سيئة القيمة الداخلية مقارنة مع الخصوم.
على جبهة الأطلس المركزي جند الكوم والمخازنية من القبائل البربرية الخاضعة مؤخرا أبانوا عن نشاط متواصل وثبات في الهجوم حازوا به عن نفوذ جيد في القبائل المعادية أكثر مما فعلته المراكز، فساهمت عملياتهم في صلابة الجبهة وأمن المؤخرات.
هذه الجبهة كيفما كان تنظيمها في السنوات الأخيرة من الغزو بمعنى بعد عشرين سنة من التجربة استوجب تلخيص مواجهتها للعصاة التفاصيل التالية:
1- في المقدمة، مراكز وضعت بذكاء في نقط مختارة تعطي القوات النظامية مع عناصر البادية عموما تصرفا في مرمى الحامية سواء مجموعة الرشاشات أو مجموعة المدفعية أو غيرها محاطة بجدار عال مضمون الدفاع عنه بنيران أسلحة آلية تمنع العصاة من الاقتراب منه.
2- في مؤخرة كل قطاع يعطى مركزا رئيسيا أو مركزين في الخط الأول ومصلحة تناوب مع الخلف.
3- الكوم والمخزن بأعداد كافية يتمركزون في الأودية والشعاب وطرق التسلل المعتادة للعصاة يُعَزَّزُون في تحركاتهم من قبل موالين (برطيزة) بالقطاع المتقدم أثناء خروجهم ليمتد كل ليلة لكمائن على المسارات الأكثر استعمالا من قبل الدوريات المتجولة للرد عبر انتقامات فورية على عدوان العصاة.
على جبهات أخرى تقام حواجز أمام العصاة لتكون كاملة تامة الفائدة بواسطة الصيانة على بضع مسافة من خطوط الاحتياط المتحركة للقوات النظامية المتأهبة في كل آن لمواجهة أي هجوم من قوات العصاة.
لكن في الأطلس المركزي تدخل هذا الاحتياط أصبح غير ممكن لمدة جزء كبير من السنة حيث يمنع الشتاء التنقل عن القوات النظامية بصفة تامة.
لهذا السبب، أمام الحاجة لأن تكون قادرة على القيام في النهاية بوسائلها الخاصة للتنظيم الدفاعي للجبهة بهذه الناحية، تم دراسة ذلك بعناية خاصة لتكون مجهزة بالوسائل الهامة لمسألة الدفاع المطروح من قبل احتلال البلد المغزو مقترن بكل مركب يمكن أن يطرح من قبل الهجوم فلا يفاجأ في هذه الظروف التي في الأطلس المركزي بتصورات دفاعية يمكن أن تحمل تحركا عميقا في عملية التجربة المكتسبة.
سهل تادلا سيصير بسرعة هادئا، في 1913 بفضل مسيرة البرق للكولون المتحرك للكولونيل منجان، تاركا به مراكز معزولة، لن يتأخر العصاة من محاصرتها إذا ما عادوا.
اخنيفرة وبيكريت في هذا الصدد أمثلة أكثر نموذجية لذلك، في 1920 و1921 كنا مقيدين من أجل ردع زيان ثم بني امكيلد واستبدال مركزين مطوقين بإحكام منذ ستة وأربع سنوات بالتتابع، جبهة متجانسة محددة بعدد من التحصينات ومدعومة بقوات تكميلية هامة.
بعد بضع سنوات في 1925-1926 سقطت عدة مراكز في يد الريفيين بعد دفعات بطولية بدا للبعض إدانة نظام المراكز الصغرى ذات الحامية الضعيفة.
مراكز الجبهة الريفية قامت بدورها في تأخير تقدم الأعداء، إذا كنا استسلمنا فلأن القوات المتحركة لهذه الجبهة كانت سيئة أو لم تدعم في الوقت المناسب.
تزايد نفوذ عبد الكريم جعله يشكل على الجبهة الشمالية منذ شهور تهديدا، من العبث القول باتقائه بواسطة استخدام وسائل على جبهة هادئة في فترة عادية.
في النهاية هذا ما يعني الهجوم أو الدفاع، العمليات المغربية إذا كانت في عمقها مختلفة عن العمليات في الجبهة الأوربية لا يمكن أن تشذ عن قواعد الحرب (المبادئ هي التي تقود النجاح -هذا ما كتبه الجنرال ليوطي في 1914- متشابه في كل مكان، وهو أيضا في مسرح العمليات الأكثر ثانوية).
أثناء الهجوم: نهايات هامة للمفاجآت، العامل البدائي للفوز، ميزة المناورة على جبهة عريضة فقط حاسمة، بالنسبة لحرب الجبال وأكثر منها عمليات الليل تتطلب تهييئا دقيقا واستخدام وحدات النخبة في كافة تخصصات التداريب، لمواجهة خصوم شرسين جيدو التسليح نحتاج لتنظيم جبهة متماسكة تتوفر على نظام ثابت للنيران وقوة محلية متحركة واحتياط.
الصعوبة المرتقبة بالمغرب هو جعل هذه المحددات غير القابلة للتغيير في إطار ليس فقط شديد الاختلاف لذلك الذي في فرنسا، لكن أيضا أساسا متغيرا من قطاع لآخر.
في الأطلس المركزي تختبر مقولة بيكود (الحرب في إفريقيا كغيرها وأكثر من غيرها أحيانا، إنها عملية تقدير وحس سليم).
استعراض هذا النموذج التحليلي لمسألة التهدئة للأطلس المركزي بمختلف المحددات، جغرافية إثنية؛ تاريخية؛ وعسكرية؛ سيزال مسبقا من قبل توقع خلاصات تسمح لنا في كل مرحلة من تقدمنا بتحديد فرص طرائقنا.
عند ملاحظة الأخطاء المرتكبة سنحاول وضع مراجعة صارمة، يجب التذكير بأنه في بداية الغزو تم ملامسة مقدمات الأطلس المركزي جاهلين بالمعطيات الأساسية للمشكلة التي نريد إصلاحها، كل ما كنا نعرف عن البلاد وسكانها كان قريبا من الجهل، كلفنا تضحيات على مدى عشرين سنة من التجارب اليومية والعمليات المكلفة في القطاعات الأساسية نستعرضه الآن” (كتاب “البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المركزي 1912-1933م”؛ ص113-119).