التاريخ يغيّر الجغرافيا

03 أكتوبر 2020 20:11
مشهدٌ لواجهة متحف الفنون الحديثة والمعاصرة بالرباط يلخّص كلَّ شيء

هوية بريس – عبد العلي الودغيري

يقولون إن التاريخ يتغيّر والجغرافيا ثابتة. ولكن الحقيقة غير ذلك. فالجغرافيا بدورها تتغيَّر مع الزمن بفعل عوامل طبيعية؛ من زلازل وبراكين وفيضانات جارفة، وتغيّرٍ مناخيّ كالذي يشهده العالَم في العقود الأخيرة، وغير ذلك من الأمور. فكثير من المناطق في العالم التي تبدو اليوم عبارة عن صحارى قاحلة ومهجورة، كانت في يوم من الأيام أرضًا فلاحية خصبة، وجنّات وغابات كثيفة، تمخرها الوديانُ ويقوم عليها عُمرانٌ وحضاراتٌ. وكم من مناطق كانت أرضًا متصلةً ثم غمَرتها المياه ولم يبق منها إلا رؤوسٌ من الجبال والمرتفعات اليابسة، أو شَقتّها البحارُ فحالت بين أطرافها ووزَّعت أهلَها وسكانها وجعلت منهم شعوبًا مختلفةَ العادات والثقافات واللغات.
والجغرافيا تغيّرها عواملُ أخرى كالعامل السياسي أو الاقتصادي أو الديني الذي يؤدي إلى قيام دول كبرى وإمبراطوريات تجتاح دولاً أخرى صغيرة وتضمُّها إليها، فيتغيَّر جراءَ ذلك رسمُ الخرائط وتوزيعُها. تظهر دول عُظمى لم يكن لها وجود من قبل، وتختفي دول ثانية وكأنْ لم تَغْنَ بالأمس. تتفكّك الدول والإمبراطوريات التي قهَرت العالَم، وتتفتَّت إلى خرائط صغيرة تكثر بكثرة المتسلِّطين والطامعين والمتهافتين على الحُكم ولو على شِبْر واحد من الأرض. وتاريخ العالَم قديمُه وحديثُه شاهد على كل هذه التحوُّلات التي يصنعها التاريخُ بالجغرافيا. وكم كان للاستعمار القديم والحديث في خريطتنا الإسلامية والعربية من أفاعيل التقسيم والتمزيق. وما زالت آثارُ فعله مستمرًة في حاضرنا ممتدة إلى مستقبلنا. وما نراه من الوقائع التي تلدُها الأيام تباعًا، لا يبشّر بخير. فكل الدول الواقعة بين الخليج والمحيط مهدّدة بتقسيمات وإعادة تشكيل خرائطها بعناوين جديدة، وولادة كيانات ودُويلات ومَشيَخات لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة،. وكلُّ شيء في واقعنا باتَ يوحي بذلك، ويُغري بالسؤال: أين نحن من خريطة الأمويّين والعباسيّين والمرابطين والموحّدين والعثمانيّين؟ وأين حُلم أمس القريب بالوحدة الإٍسلامية من جاطاكارطا إلى داكار، والوحدة العربية من عُمَان إلى تطوان؟ أين حلُم المغرب الكبير؟ وأين؟ وأين؟
بعضُ هذه الخرائط كان حقائق تاريخية درسناها ورسمناها منذ الصغَر في دفاترنا، وبعضُها كان مجرد أحلام لذيذة أذكتها في نفوسنا خطاباتُ زعمائنا وأناشيد شعرائنا، ملأت حياتَنا في طفولتنا وشبابنا، إلى أن عشنا فترة انكسارها على صخور الهزائم والانقسامات والصراعات. قُدَّت أطرافُ تلك الأحلام، وتبخّرت مياهُها شيئًا شيئًا. حتى صار أكبرُ أحلامنا في أيامنا السعيدة هاته، أن نرى جماعة قليلة منا تحافظ على ما تبقّى من حاراتها وشوارع مدُنها الصغيرة.
حُلمُ تحرير فلسطين كان من أجمل تلكم الأحلام. فأين خريطتُها في بداية القرن الماضي من خريطتها في بداية القرن الحالي؟ ما الذي فعله مكرُ التاريخ بها؟ وكيف كانت إسرائيلُ مجردَ حُلم عشَّش في عقول اليهود طيلة قرون قبل أن يتسلَّط التاريخُ على الجغرافيا، فإذا بها دولةٌ قائمةٌ بالقوة والقَهر في الشرق الأوسط، لها مكانة عظيمة في قلب أمريكا وأوروبا والدول الحامية لها. توسَّعت خريطتُها حتى ابتلعت فلسطينَ وجزءًا من سوريا ولبنان والأردن ومصر، وعينُها ما زالت مفتوحة على خريطة أرضِ الميعاد «من وادي العريش إلى النهر الأكبر، نهرِ الفرات». أسطورتُهم الدينية تقول هذا، وأحداث التطبيع الأخيرة وما سيتلوها، تقول إن مستقبل الشرق الأوسط على كفّ عفريت، وخريطة إسرائيل ماضية في التوسُّع يومًا بعد آخر بطريقة أو بأخرى، إن لم يكن ترابيًّا فاقتصاديا وثقافيا وسياسيا. وخرائط الدول المحيطة آيلةٌ إلى تقمُّص هذا الوضع والتكيُّف مع هذا التوسُّع.
للحروب والصراعات خرائطُها المستقبلية أيضا. هل يستطيع أحد أن يقنعني بفكرة (السلام مقابل السلام)، وأن الأمن والرخاء سوف يعمّان ويَفيضان على المنطقة؟ ذلك هو الحلُم المزيَّف لما يسمى (إسرائيل الكبرى). ولكن الشعب الذي أصبح محرومًا من أرض آبائه وأجداده، وعانى طويلاً من القهر والظلم والتقتيل والتهجير والذل والهوان والطغيان والاستبداد والهزائم، له بدوره أحلامُه الكبيرة في استرداد كافة حقوقه وكامل أرضه ووطنه. والتاريخُ وحده، هو القادر على رسم خريطة هذه الأحلام والآمال، وإصدار حكمه الفاصل بين حلم إسرائيل المعتدِية وحلم فلسطين المغتصَبة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M