التراث الإسلامي بين الاتهام بالتخلف وتجاهل الإنجاز: قراءة في الخطاب الحداثي المغربي

التراث الإسلامي بين الاتهام بالتخلف وتجاهل الإنجاز: قراءة في الخطاب الحداثي المغربي
هوية بريس – عبد العلي حمداوي الزمزامي
الحمد لله الذي جعل العلم نورا يهتدي به العقلاء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، النبي الأمي الذي علّم البشرية أن طلب العلم فريضة، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
رغم أنني أعيش في قرية تزكاغين، الواقعة في الجنوب الشرقي المنسي من مملكتنا الحبيبة، وهي قرية تعيش همومها الخاصة والمتنوعة من جميع النواحي، -لم يحن الوقت بعد للحديث عنها- إلا أنني لا أعيش في عزلة عن هموم الأمة بالعموم، ولا عن قضايا الوطن الذي نحمله في قلوبنا. فالمكان لا يلغي الانتماء، والقرية لا تعني الانفصال عن قضايا الفكر والهوية. ومن هذا المنطلق، أتناول هذا الموضوع الذي أراه من صميم ما يهمنا جميعا، مهما اختلفت مواقعنا الجغرافية أو ظروفنا الاجتماعية.
يتردد في الخطاب الحداثي المعاصر، خصوصا في السياق العربي والمغربي تحديدا، اتهام مباشر للتراث الإسلامي بأنه سبب رئيسي في تخلف المجتمعات، وتطرح هذه الفكرة في سياقات متعددة، سواء في بعض وسائل الإعلام أو في بعض النقاشات الفكرية، وكأن الإسلام، بموروثه الفقهي والفكري، هو العائق الوحيد أمام التقدم والنهضة. هذا الطرح، وإن كان يجد صداه لدى بعض الفئات المسلوبة فكريا، إلا أنه يعاني من اختزال مخل، وتعميم غير منصف، وتجاهل متعمد للإنجازات التي يحققها المسلمون المعاصرون، ممن يجمعون بين المرجعية الإسلامية والتميز العلمي والمهني، والدكتور يوسف العزوزي مثال حي على ذلك.
الدكتور يوسف العزوزي، ابن مدينة القصر الكبير، وطبيب مختص في أمراض القلب والشرايين، برز على الساحة العلمية بعد فوزه بلقب أفضل مخترع في العالم العربي سنة 2019 ضمن برنامج نجوم العلوم ، وذلك بفضل اختراعه دعامة ذكية لتنظيم تدفق الدم لدى مرضى القلب. وقد واصل مسيرته بابتكار جهاز جديد لتصفية الدم داخل الأوعية الدموية، يعد الأول من نوعه عالميا، ويساهم في تقوية المناعة وتقليل احتمالات رفض الأعضاء المزروعة. هذا الإنجاز تم تطويره عبر شركته الخاصة “أورتو ميديكال” ، وجرى اختباره بنجاح في مختبر أمريكي، ما يعكس قدرة العقل المسلم على الإبداع حين تتوفر له البيئة المناسبة والدافع القيمي.
إن اتهام التراث الإسلامي بالتخلف يتجاهل حقيقة أن هذا التراث كان في فترات طويلة من التاريخ مصدرا للنهضة والإبداع، وأن الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية كانت منارة للعلم والمعرفة، في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة وغيرها من العلوم. وقد شهد بذلك غير المسلمين قبل المسلمين، ومن ذلك ما قاله المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون: “إن العرب قد نقلوا إلى أوروبا العلوم والمعارف التي كانت أساس نهضتها الحديثة”. فهل يُعقل أن يكون هذا التراث نفسه هو سبب التخلف اليوم؟
القرآن الكريم يحث على العلم والتفكر، ويجعل من طلب المعرفة عبادة، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الزمر: 9]، ويقول أيضا: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [سورة فاطر: 28]. وقد اعتبر النبي –صلى الله عليه وسلم- طلب العلم فريضة على كل مسلم، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”. فكيف يُتهم دين جعل العلم عبادة بأنه سبب التخلف؟
الواقع أن التخلف لا يرتبط بالدين، وإنما يرتبط بأسباب متنوعة مختلفة، قد يكون منها سوء الفهم للدين، أو الجمود الفكري، أو الاستبداد الفكري والسياسي، أ ربما الانفصال عن روح الاجتهاد التي كانت سمة العلماء المسلمين الأوائل. الإمام الشاطبي –رحمه الله-، في كتابه الموافقات، يؤكد أن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح، وأنها مرنة وقابلة للتكيف مع تغير الأحوال، ما دام ذلك في إطار المقاصد الشرعية. وكذلك الإمام ابن القيم –رحمه الله-، في إعلام الموقعين، يرفض الجمود على ظاهر النصوص دون فهم مقاصدها، ويؤكد أن الفقه الحقيقي هو الذي يراعي تغير الزمان والمكان.
في المقابل، نجد أن الخطاب الحداثي يتجاهل النماذج المشرقة التي تنتمي إلى المرجعية الإسلامية، والتي تحقق إنجازات علمية ومهنية وإنسانية رفيعة. الدكتور يوسف العزوزي، كما رأينا، مثال على المسلم المعاصر الذي يجمع بين التدين والتميز، بين الإيمان والعقل، بين الانتماء للتراث والانفتاح على العصر. إن إنجازاته في مجال الطب، ومساهماته في الابتكار العلمي، كلها تعكس صورة المسلم المنتج، الذي لا يتعارض تدينه مع إنتاجه العلمي، بل يشكل مصدرًا لقيمه وأخلاقياته المهنية.
ومما يزيد من تعقيد الصورة أن الإعلام، بما فيه الرسمي، لا يمنح هذه النماذج حقها من التقدير والاحتفاء، بل إن حضورها في المشهد الإعلامي إن وقع غالبا ما يكون على استحياء، أو في مناسبات عابرة لا تعكس حجم الإنجاز ولا رمزيته. في المقابل، يُسلط الضوء بكثافة على نماذج سطحية أو مثيرة للجدل من الطاعنين في التراث ومنه في الدين، وأنتم تعلمون النماذج من أمثال هؤلاء، ممن أسميهم: (أصحاب الشعاكيك البيضاء بلا وقار) مما يكرّس صورة نمطية عن المسلم المعاصر، ويُضعف من تأثير القدوات الحقيقية في الوعي العام. وهذا التحيز الإعلامي لا يخدم أي مشروع للنهضة والتقدم، بل يساهم في تعميق الفجوة بين الواقع وما يقابله، وبين الإنجاز والتقدير.
تجاهل هذه النماذج لا يمكن اعتباره مجرد سهو، بل هو في كثير من الأحيان موقف إيديولوجي، يسعى إلى ترسيخ صورة نمطية عن الإسلاميين، باعتبارهم متخلفين، غير منتجين، منغلقين على الماضي. وهذا التعميم لا يصمد أمام الواقع، ولا أمام التاريخ، فكيف يصمد أمام النصوص الشرعية التي تحث على العمل والإبداع. يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه” [رواه الطبراني]. فالإتقان قيمة إسلامية أصيلة، والتميز المهني ليس نقيضًا للتدين، بل هو تجلٍّ من تجلياته.
إن المجتمعات لا تنهض بإقصاء مكوناتها، ولا بتشويه رموزها، بل تنهض بالتكامل، وبالاعتراف بالتنوع المقبول شرعا، وبالإنصاف في تقييم الأفراد والتيارات. والحداثة الحقيقية لا تعني القطيعة مع الماضي، بل تعني القدرة على إعادة قراءته وتوظيفه في بناء المستقبل كما ذكرت في مقال سابق. ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب الحداثي الذي يزعم ويدعي التحرر والانفتاح مدعو إلى مراجعة مواقفه من التراث الإسلامي، ومن المسلمين عموما والمعاصرين على وجه الخصوص الذين يحققون الإنجاز، لا من باب المجاملة، بل من باب الإنصاف العلمي والواقعي.
إننا بحاجة إلى خطاب فكري جديد، يتجاوز ثنائية التخلف والحداثة، ويبحث في جوهر القيم، وفي قدرة الإنسان المسلم على الإبداع ضمن مرجعيته، لا خارجها. فالتاريخ يشهد، والواقع يؤكد، والنصوص الشرعية تدعم، أن الإسلام لم يكن يوما عائقا أمام التقدم، بل كان دافعا إليه، حين يُفهم ويُمارس في سياقه الصحيح.
وفي ختام هذا المقال، أجدني أعود إلى قريتي تزكاغين، تلك القرية الوادعة في الجنوب الشرقي، التي وإن كانت بعيدة عن مراكز القرار وصخب الإعلام، إلا أنها ليست بمنأى عن تسرب بعض الأفكار التي قد تخدم المنهج (التخريبحداثي)، وإن كان ذلك بصور مختلفة وأكثر خفاء. فالمجتمعات الصغيرة ليست محصنة من الانفلات القيمي أو من بعض المخالفات التي تتسلل تحت غطاء العادات أو التغيرات الثقافية المفاجئة. ومن هنا، أجد من واجبي أن أفتح نافذة للكتابة عن هذه القضايا في قابل الأيام، بما يليق بخصوصية المكان، وبما يخدم المصلحة العامة، بعيدًا عن التهويل أو التبخيس.
فكما أن الفكر لا يُحتكر في المدن، فإن الوعي لا يُقاس بحجم الضجيج، وإنما بصدق الانتماء، وحرارة السؤال، وعمق الإحساس بالمسؤولية.
﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾



