“التزييف الإعلامي المتقن” أشد خطورة من “الأخبار الكاذبة”

هوية بريس – حليمة الشويكة
أعتقد أن الأمس كان هو عيد العمال المتزامن مع فاتح ماي، ويُفترض أن تكون الانتظارات الحقيقية في هذا اليوم هي ما ستقوله النقابات في تجمعاتها الخطابية. وعليه، يُفترض أن يركز الإعلام على الانتقادات اللاذعة للزعماء النقابيين الموجهة للحكومة وسياساتها التفقيرية. لكن شيئا من هذا لم يحدث، فقد اختلت بوصلة الإعلام أمس وتوجهت صوب كلمة أمين عام حزب سياسي يحتل افتراضا المرتبة الثامنة. فكيف نفسر هذا الانزياح الإعلامي، هل لأن عبد الإله بنكيران بقدرته التواصلية سرق الأضواء من زعماء النقابات، أم لأنهم فعلا زعماء من ورق عاجزون عن إحياء العيد العمالي بما يليق به من الزخم المطلبي والاحتجاجي؟
دعونا نبدأ من حيث انتهى إعلامنا المختل، لقد ركزت الآلة الإعلامية المتقِنة للتزييف على أقل من خمس دقائق من كلمة الاستاذ عبدالاله بنكيران التي تجاوزت الساعة، وأصبحت الخمس دقائق تلك حديث كل المواقع والصفحات، لأنه أريد لها أن تكون مادة دسمة للخصوم ومعهم بعض التائهين لتوجيه النقد والسب والشتم والمؤاخذة لأمين عام ينتقد جماعة التصهين عندنا بقاموس قد يكون صادما، لكنه لا يندرج فيما يمكن اعتباره اخلالا بالأخلاق(طالما ان الصور المجازية في القرآن تصف الضالين والمغفلين بما يماثل ذلك القاموس). لكن لنتساءل عن بقية الكلمة، أي عن الستين دقيقة التي تكلم فيها الاستاذ عبدالاله بنكيران، ماذا قال فيها؟ ولماذا لم تركز عليها الآلة الإعلامية التي تتقن التزييف؟
في معرض جوابنا عن هذا السؤال، سنجد بعض الجواب عن سؤالنا الأول، وهو لماذا لم يروج الإعلام كلمات الزعماء النقابيين في يومهم العالمي، باختصار لأنهم لم يقولوا شيئا، لأن ما قاله بنكيران عنهم في كلمته يكشف ضعفهم وبيعهم للطبقة العاملة. ولهذا تم اعتماد خطة إعلامية من أجل التغطية على هذا الأمر بالتركيز على لقطة مجتزأة من الكلمة التي ألقاها بنكيران. هكذا، وعوض أن يتساءل العمال والموظفون عن مواقف النقابات التي تمثلهم، أو لنقل على وجه الدقة، تمثل عليهم، عوض ذلك، تم إلهاؤهم بمقطع مجتزأ يتم ترويجه بكثاقة كافية لصناعة الدخان الحاجب للرؤية.
وإذا صدقنا هذا التزييف المتقن، وقلنا إنه انتقاد مشروع لما جاء في كلمة بنكيران، فلماذا لم تخرج النقابات ومعها الحكومة للرد على بنكيران. فلو كان المطلب فعلا هو انتقاد بنكيران ومؤاخذته، لخرج زعماء النقابات الذين انتقدهم بقسوة ووصفهم بالمرتزقة للدفاع عن انفسهم والرد عليه، لماذا صمتوا ولم ينتقدوه، لماذا لم تخرج الحكومة ورئيسها لتكذيب ما جاء في كلمة بنكيران من انتقادات حادة لسياساتها اللاجتماعية؟؟
الحقيقة، أن الكلمة التي تجاوزت ساعة من الزمن كانت تحمل رسائل قوية موجهة ضد الحكومة وأذرعها الإعلامية والنقابية، وأن عبارة “ميكروبات وحمار” لم تتجاوز 5 دقائق داخل الكلمة، ولم تكن أشد قوة من حيث النقد من غيرها من عبارات المرتزقة والبياعين … ولكن لأن القوم يعلمون أنهم في موقف ضعف، ولا يمتلكون جوابا على ما وُجه إليهم من رسائل قوية، فقد لجأوا إلى استراتيجية التزييف المتقن بالتركيز على واحدة من الرسائل، وتضخيم الأثر النفسي للفظة دارجة الاستعمال من أجل مزايدة أخلاقاوية يعلم الجميع خلفياتها. والغريب، أن هذه الخدعة انطلت على البعض من النزهاء، وربما وجد فيها البعض الآخر مآرب شتى.
نقول في الختام، إن ما يحصل اليوم في المشهد النقابي والسياسي والإعلامي، يكشف عن تحول خطير في قواعد التواصل السياسي، حيث تتراجع السجالات المباشرة بين الفاعلين السياسيين والنقابيين، وتحل محلها آلة التزييف الإعلامي المتقن. والظاهر أننا سنشهد طيلة هذه السنة، تزايدا متسارعا للتضليل الإعلامي، وتمددا أفقيا لشبكات التواصل الاجتماعي يرهق المتابعين ويصيبهم بعسر الفهم وانكماش الوعي، استعدادا لاستحقاقات انتخابية يتمنى المرتزقة وسادتهم من ذوي الريع و النفود أن تعيدهم للتحكم في مقدرات البلاد وأرزاق العباد.



