التعامل مع السنة النبوية بين المشرق والمغرب
هوية بريس-امحمد الهلالي
قبل ايام قليلة تداولت بعض وسائل الاعلام تصريحات منسوبة الى مبادرة رسمية حول التعامل مع السنة النبوية في المشرق العربي، ادلى بها احد المسؤولين الى
الى صحيفة “ذا أتلانتيك” تم فيها وسم كتب الاحاديث بانها اساس الانقسام بين المسلمين ومثلت انحرافا عن صريح القرآن، وتعلن تبعا لذلك عن مبادرة رسمية من اجل “مراجعة كتب الاحاديث واصدار “مدونة للاحاديث المثبتة” وحدف “الاحاديث المختلفة”
وذلك في غضون سنتين وهي مدونة لا مكان فيها لحديث الاحاد او الاحاديث التي تخالف صريح القرأن.
وغير بعيد عن هذا التصريحات تم يوم الاثنين 8 شوال 1443 الموافق 9 ماي 2022 بالمغرب الاقصى اطلاق مبادرة رسمية للعناية بالحديث الشريف، من خلال منصة رقمية للحديث الشريف.
تصريحات المسؤول المشرقي جاءت بنفس سجالي ومنهج سلكوي فوقي وخطاب مستفز ولغة متشنجة في سياق صراعي، يجسده لغة المبادرة التي ذهبت الى حد اتهام “كتب الأحاديث المختلفة” بانها “المصدر الأساسي للانقسام في العالم الإسلامي”، وانها قد حولت الإسلام من ديانة “لا إكراه في الدين” إلى ديانة “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو لا إله إلا الله”. وحولت مفهوم القرآن وصريح كلماته “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” إلى ديانة “من بدل دينه فأقتلوه”. وحولت صورة الرسول من “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” كما جاء في القرآن الكريم إلى “لقد جئتكم بالذبح”.
مما يستوجب مراجعة الصحاح والمسانيد والسنن واعادة تدوين السنة المثبتة، وتنقيتها من احاديث الاحاد او الاحاديث التي تعارض صريح القرآن.
اما المبادرة المغربية المعلن عنها اليوم في ندوة صحفية على غير المعتاد، فقد جاءت بنطق هادئ ولغة علمية وخطوات منهجية تشاركية مستندة الى ذوي الخبرة والاختصاص من العلماء واساتذة للجامعة المختصين.
وقد جاءت هذه المبادرة تعلن عن النتائج وليس النوايا وتضع الانجاز الفعلي في متناول العموم، من خلال ندوة صحفية مناىيحمل العديد من الدلالات والمعان وكانها تريد ان تقطع الطريق على اي تهور او تنطع ذي طابع رسمي يمكن ان يقحم المؤسسات الرسمية او يورط دول المنطقة في مشاريع مريبة تضيف الى الواقع العربي مزيدا من عناصر التأزيم وتزج بالمؤسسات الرسمية في عمليات مخططات مريبة وادخالها في مماحكات سياسية وسجالات اديلوجية وصراعات انقسامية جرت العادة ان تظل موضوعاتها شأن النخب في المتتديات والاروقة بين الفرقاء المتناكفين ثقافيا وفكريا.
وطالما ان المغرب اعتاد ان يختار توقيتا بدلالة رمزية لاطلاق مثل هذه المبادرات النوعية كرمضان او ذكرى المولد النبوي او غيره من المناسبات الدينية، فان اختيار
هذا التوقيت وبهذه المسارعة وعبر ندوة صحفية وليس امام الملك رغم ان رمضان شهر القرآن لم يمض عليه سوى اسبوع واحد فقط، ورغم ان اهمية المشروع قابلة للانتظار الى شهر ربيع الاول الذي يعد شهر السنة النبوية بامتياز حيث يحتفى فيه المغاربة بميلاد صاحب السنة، فان هذا التوقيت وبهذا الاستعجال لا يمكن ان يكون من غير مغزى أو بدون رسالة، يراد توجيهها الى من يهمه الامر وبشكل مستعجل .
ولعل محاولة الرد الصارم على اي محاولة متهورة يمكن ان تمس بالسنة النبوية او تنتقص من حرمتها ومكانتها بوصفها المصدر الثاني للاسلام هي واحدة من تلكم الرسائل العجلى التي يراد تبليغها من المغرب الاقصى الى المشرق الادنى .
ما يؤكد هذا المنحى هو ما ورد في الكلمة الافتتاحية التي ادلى بها الوزير المغربي السيد احمد التوفيق بمناسبة الاعلان عن منصة الحديث الشريف من مضامين تأطيرية تتصمن ما يشبه الرد المبطن على بعض ما ورد من مضانين في التصريحات الصحفية للمنسوبة الى المبادرة المشرقية.
وفي هذا الصدد اكدت كلمة وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية بالمملكة المغربية ان “حدث اطلاق منصة محمد السادس للحديث الشريف يتصل بالدين وبالعلم وبالتبليغ، ومن ثمة فهو يتعلق على الخصوص بالطلب الواسع من لدن الجمهور من أجل التعلم والتبيُّن وإدراك اليقين المطلوب في أمور التدين”. فالدين والعلم والتبليغ من جهة والطلب المتزايد من الجمهور لادراك اليقين في امور الدين اقتضى ان تتجاوب المؤسسة الرسمية المختصة مع ذلك بهذه المبادرة الرسمي التي تتم باسم الدولة دون انجراف مع المغالين ودون انحراف مع المتهورين.
وفيما يشبه الرد المفخم على ما ورد من تلميحات المبادرة المشرقية بخصوص محاولة التفريق بين صريح القرآن وصحيح السنة، اكد الوزير المغربي ان “المرجع في معرفة الإسلام أصلان أو مصدران، هما القرآن والحديث، فالقرآن هو الكتاب المنزل، والحديث هو أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله والأمور التي أقرها أو تركها في حياته أثناء أداء رسالته.
فالقرآن -يضيف الوزير- هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما الحديث فهو ما سمعه الصحابة، رضوان الله عليهم، من رسول الله من أقوال وما رأوه يفعله من أفعالا ويقره من أمور، وكان لهم الاهتمام الشديد بكل ما يقوله ويفعله، محبة فيه وإعجابا به وحرصا على تسديد دينهم وإكماله باتباعه واتخاذه أسوة لهم كما وجههم القرآن إلى ذلك، ولولا هذا الاعتبار لصعب أن تُحفظ أقوال شخص بعد وفاته ولو بجيل واحد”.
وللرد على ما يتداول من مغالطات حول التلاعب بالسنة زمن التدوين تبعا للاغراض والاهواء والمصالح، فقد أسهبت كلمة الوزير الافتتاحية بمناسبة اطلاق هذه المنصة في شرح تلكم الملابسات وتاطيرها علميا ومنهجيا وذلك بالتأكيد على ان “الذي وقع هو أن الصحابةَ ثم التابعين وتابعي التابعين بعدهم، قد حفظوا السنة أقوالا وأفعالا في ذاكرتهم، وتناقلها بعضهم عن بعض، وقد وقعت وقائع عظيمة في تاريخ المسلمين في مدة قرن ونصف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه السلام، وقائع تميزت على الخصوص بانتشار الإسلام في بيئات بشرية وجغرافية وثقافية متنوعة، كما وقعت في هذه المدة تطورات سياسية واجتماعية مفعمة بحمولات انفعالية واكبت وقوع خلافات وقيام فرق وأحزاب ونشوب صراعات عنيفة، وفي تصور مثل هذا السياق يمكن لكل منطق سليم أن يتصور ما يمكن أن يكون قد وقع من الضغط على ذاكرة الجمهور بخصوص الحديث النبوي، حفظا وتلقيا وتأويلا واحتياجا في أوساط المسلمين.
وتحت هذه الضغوط التاريخية -يضيف الوزير المغربي- تصدى فضلاء من علماء الأمة للقيام بمشروع تدوين ما بدأ يطرح نفسه على مستوى الوعي كأصل ثان للدين أحكامه وأخلاقه وهو الحديث الذي صار من المستعجل البحث عنه”. ولمزيد من التوضيح وابطال الاراجيف حول تدوين السنة اكد الوزير ان “جل من تصدوا لهذا المشروع من العجم مثل البخاري الذي كان من سمرقند في أوزبكستان الحالية، وكان عدد ممن كان يُطلب عندهم الحديث من العرب قد استقروا في البلاد الأخرى التي دخل إليها الإسلام.
مما يعني ان صناعة التدوين تمت من قبل اثحاب الاختصاص الفني ممن هو ليسو اطرافا في ما جرى من صراعات حول الحكم ومن قبل متفرغين للعلم
والمشتغلين به والرحلة له والبعيدين عن الحكم وضغوطاته. والاكثر من ذلك، يضيف
الوزير المغربي ان تحقيق كرامة تدوين السنة في كتب سميت بالصحاح والمساند والسنن، قد تمت في زمن قريب من النبوة وفي الجيل الثاني بعد عصر النبوة اي بين منتصف القرن الثاني ونهاية القرن الثالث للهجرة”.
والأهم هو ان جمع وتدوين الحديث قد تم في الجيل الثاني بعد النبوة لم يترك لعبث العابثين ولاهواء الطامعين وان ذلك تم “بمنهج لم يسبق له مثيل في تاريخ الفكر إلى ذلك الوقت، وذلك من حيث الحجم والمجهود المطلوب وغنى المضمون وخطورته وصرامة التعامل معه، منهج مبني على النقد بفحص الثقة والمصداقية لمواجهة آثار أهل الأهواء والمصالح، مشروع أسفر عن قيام علم كامل اختص به المسلمون هو “علم الحديث”.
وهو منهج ميز فيه “الأئمة المدونون بين ما يُروى بين الحديث الصحيح والحسن والضعيف والسقيم. ووضعوا مصطلحا بالنسبة للرواة وآخر بالنسبة لطبيعة المتن والثالث في ما يتعلق بخصوصيات تتعلق بالمتن أو بالإسناد، وآخر لمقبولية الحديث، ولم يكتفوا بالبحث في مصداقية الرواة بل حرصوا على بيان ظروف النقل وطرقه”.
ولئن نجح الرواد الاوائل في حفظ السنة وكشف كل المحاولات للتلاعب بتدوينها وتوثيقها من قبل اهل الاهواء والمصالح او من الغافلين او الواهمين، عبر ما سمي بحركة الوضع، فان جهود الخلف من العلماء الورعين يتعين ان تتصدى لمحاولات التلاعب بما سمي ب”وضع الاستعمال” و”للوضع في القراءات” المنحرفة والتأويلات المتنطعة او السائبة . وفي هذا السياق اكد الوزير احمد التوفيق على ضرورة “الرجوع في هذا العلم إلى أهله الذين يفتون به في ضوء القرآن ومقابلة الحديث بالحديث وغير هذين من المعايير” ذلك “أن الورع في استعمال الحديث لم يكن حاضرا في كل الأحوال، إذ استعمل الحديث غير العلماء بل واستعمله أهل الفرق والأهواء لأغراضهم”.
وعوض تبخيس جهود الرواد ومدوني السنة النبوية يتعين الاعتراف لهم والاحتفاء بجهودهم واستكمال مهمتهم بمضاعفة الجهود لترشيد هذا الاستعمال للسنة، وهو ما دأب عليه “المسلمون عبر العصور باحتفائهم بالكتب العشرة المعتمدة عند أهل السنة وعلى رأسها صحيحا الشيخين البخاري ومسلم”.
وان الحكمة في مواجهة التدليس الذي مرده إلى الأهواء تارة، وإلى قلة الفقه تارة أخرى، وضعف الاحتياط عند عدد منهم لأسباب الخوف أو الميول التي لا تقدر العواقب” انما يكون “بالاحتكام الصارم إلى علماء هذا الفن، من جهة وبذل المساعي في العناية الرسمية والشعبية بالسنة النبوية وعدم العفلة عنها او تركها للمتنطعين والمتسيبين من اصحاب الاهواء والاغراض والاطماع .
وضمن هذا الاطار ختمت الوزير كلمته الافتتاحية بنموذج
في التعامل مع السنة النبوية رسميا وشعبيا وهو نموذج الغرب الاسلامي حيث كان “المغاربة من أشد الناس حرصا على العناية بالحديث، وتجلى اهتمامهم في جوانب كثيرة منها الرحلة للتلقي ووضع المصنفات والشروح والاختصاص ببعض الأسانيد والاحتفال الرسمي والشعبي بختم البخاري ووضع كتب تجمع بين الصحيحين ووضع مختصرات وترتيب قراءات لتوعية الناس بمكانة الحديث كقراءة كتاب الشفاء للقاضي عياض” واقامة للدروس الحديثية واقامة المعاهد التي تعنى بدراسة الحديث وادماجها في المنظومة التعليمية والبرامج التفاعلية لتصحيح فهم والتعامل مع السنة واخيرا اطلاق منصة رقمية تستفيد من التكنولوجيا والثورة الرقمية وتنافس المبادرات غير الرشيدة في التعامل مع السنة النبوية.
وبمثل هذا النوع من الاهتمام وهذه العناية يمكن قطع الطريق عن الانحرافات المختلفة او اي استعمال مصدره الاهواء او المصالح او الشبهات .
اما الدعوات المتهورة والمبادرات المستفزة فلن تؤدي سوى لتوفير مبررات اضافية للدعوات المتطرفة والقراءات المغالية ولن تسهم سوى في اضفاء مشروعية على هذه الانحرافات وتوفر لها اسباب التجدر وسرعة الانتشار.
فهل من معتبر؟