التعايش.. المصطلح والمفهوم
طارق الحمودي – هوية بريس
يعرف الناس تميز علماء المغرب والأندلس في التأليف والتنظير لباب “المقاصد الشرعية” في السبق والعمق، فقد بدأ الأمر بالشاطبي الأندلسي في “الموافقات” ثم الطاهر ابن عاشور في “مقاصد الشريعة الإسلامية” ثم علال الفاسي في “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها“، ثم أحمد الريسوني في مؤلفات، واختلفت تعاريفهم للمقاصد عموما وخصوصا، واستوقفني تعريف علال الفاسي، وأعجبني توصيفه، ونصه: “المقصد العام للشريعة هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع“، ولست أستطيع أن أخفي أنني كلما قرأته أجد له في الحلق قبل القلب حلاوة معنى، وجمالا مبنى،وعمقا في القصد وثقلا في المدلول عليه.
“عمارة الأرض“، “حفظ نظام التعايش“، “العدل والاستقامة“، “صلاح العقل والعمل“، “إصلاح الأرض“، “استنباط الخيرات“، “تدبير منافع الجميع“، هذه هي المفاهيم التي صنع بها علال الفاسي تعريفه، وهي من المتين السمين، وتحتاج كل واحدة إلى وقفة بل وقفات، لكنني سأختار إحداها محورا أدير عليها بقيتها، فلات حين مناص، فكلها متلازمة متداخلة، وسيقع الاختيار على “نظام التعايش” وقصد “حفظه” في الشريعة الإسلامية لأسباب متعلقة بطبيعة البحث ومقصده.
وهو ما لاحظه أستاذنا الدكتور رشيد كهوس أيضا، وهي ملاحظة جديرة ببحث مفرد عميق، فإنه قال: “لقد وضع الإسلام أصول التعايش السلمي وأسسه انطلاقا من دعوته إلى حفظ الضروريات الشرعية من دين ونفس وعقل ونسل ومال”[1]، فيكون النظر إلى التعايش بفقه المقاصد نظرا يوفي حقه فيكشف عن خطورته ويخرج حقيقته المقاصدية من حيز الغفلة عنها إلى اعتبارها أساسا أولا للمفهوم وامتداداته.
فما حقيقة التعايش؟ وكيف السبيل إلى حفظ نظامه؟ وما محله من الصلاح والإصلاح، والاستغلال للخيرات؟ أي ما علاقته بـ”تدبير منافع الجميع“؟
تدور مصالح الناس الدنيوية في خدمة أخرويتها على “تأمين” الناس في أنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم، وهو أمر لا يمكن قيامه إلا بـ”التعاون“، ولا يكون التعاون إلا نتيجة لـ”تفاهم” بين المتعاونين قائم على “تعرف” و”اعتراف” و”معروف“، وهو مقصد جزئي من “مقاصد الخلق“، فقد قال جل وعلا: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا،إن أكرمكم عند الله أتقاكم“، فجعل التعارف مقصدا تجتمع عليها أطراف النوع الإنساني، ويبين مآل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”، فمآل “التعارف” “التآلف” وحصول “الألفة” بين المتعارفين، فـ”الألفة” أس “التعايش” والتعاشر، ومن طريف الدلالات، أن الأصل في “أ ل ف” انضمام الشيء إلى الشيء، ومنه “التأليف“، وأصل “العيش” ما يدل على الحياة والبقاء، ولا حياة وبقاء إلا بالاجتماع والتعاون وفق نظام جامع مؤيد ومسدد، فهذا معنى التعايش، أن يتعاون الناس وينضم بعضهم إلى بعض في نظام لحفظ النفس والمال وما به قيام الحياة وبقاء النوع الإنساني، ثم وقفت على كلمة أعجبتني في هذا لهاني مبارك وهي: “التعايش كلمة تعني العيش المشترك مع الآخرين،ولا يكون التعايش إلا بوجود الألفة والمودة، ولا يعيش الإنسان مع غيره إلا إن وجد بينهما تفاهم ورغبة بعيشة مشتركة لحمتها الألفة وسُداها المودة والثقة”[2].
يبدو أن هذا ما لاحظه أعضاء مجمع اللغة العربية حينما عرفوا التعايش بقولهم:”عاشوا على الألفة والمودة، ومنه التعايش السلمي”، فصار التعايش هو العيش المقيد بالألفة المتبادلة، ويكون قوله تعالى: “لتعارفوا” معناه “لتعايشوا“، وبهذا يمكن ملاحظة دقة علال الفاسي في جعله “حفظ نظام التعايش” جزء من المقصد العام للشريعة الإسلامية! وليس يقف الأمر عند هذا الحد، فوراء هذا أمور أخرى قد يكشف عنها أسئلة من قبيل، ما هي الجهات المخاطبة بهذا التعايش والتآلف والتعاون؟
جواب هذا مضمن في قول رشيد كهوس: “التعايش السلمي هو العيش المشترك بين الشعوب والحضارات في جو من التفاهم والتعاون والتضامن والتسامح وتبادل المنافع والمصالح بعيدا عن الصراعات والنزاعات والعنف والاضطهاد، حتى يسود الأمن والسلام“[3]، وهذا كلام جامع ماته لا حيلة لي معه في اختيار ترك التعليق عليه!
ثمَّ رافد آخر لمعنى التعايش جرى ذكره على لسان قلم عبد الكريم زيدان ،فقداستعمل كلمة “المخالطة” وهي حَرية بذلك،وفيها معنى زائد على الألفة والضم،فالمخالطة تقتضي اندماجا بشكل ما، وقد لفت الانتباه لهذا أحمد زكي بدوي في“معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية” ففيه: “قد ينتج عن هذا التعايش نحو الانصهار بين الطوائف، بحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر ويفقد كل منها خصائصه ويذوب[4] في البعض الآخر، أو هي تحافظ على التفرقة العنصرية بحيث تقيم من عاداتها وقوانينها ونظمها حواجز فاصلة بين بعضها البعض“[5]، وواضح أن الثانية غالبا ما تكون المبدأ، وتكون الأولى هي المنتهى، وغالبا ما تندمج الأقلية في الأكثرية، والضعيفة في القوية، لما في طبع الضعيف من الميل إلى التشبه بالأقوى منه، أو لأجل تحقيق نوع من المدارات الاجتماعية مراعاة لبقاء مصالح الطائفة.
تعد محاولة الإجابة عن سؤال طبيعة نظام التعايش وشكله ضرورية ليكون الحديث عن المفهوم ذا جدوى ومما تحته عمل، والواقعية تقتضي الجدية في البحث عن أساسات هذا النظام العملية التي توفر ظروف التعايش وقد تفرضه، فما الذي يمكنه تأمين المجتمع من انعدام التعايش، والذي يقابله مساويا له أَمْرٌ أهلكَ ويُهلك وسيهلك الأمم والمجتمعات ويعرج بهم بعيدا عن مصالحهم.
تعد نظرية الصراع في الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي واحدة من المسائل والقضايا ذات العمق النظري باعتبار أسبابه وأنواعه ، والعمق الواقعي بالنظر إلى نتائجه ومآلاته، ولئن كان بعض الناس يتحدث عن التعايش بين الإنسان والإنسان تحت مظلة المواطنة التعاونية والتكاملية، فإن ثم تعايشا آخر يشبه أن يكون شرطا في ضمان التعايش الأول، وهو التعايش بين الشعب وسلطته الحاكمة والتي أوجدتها ضرورة التعايش المجتمعي نفسها، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد نبه ابن خلدون إلى ذلك بقوله: “ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم، فلابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم.. فلابد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض.. فيكون الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الملك››[6]، ويخلص من هذا أن الملك، ووجود سلطة حاكمة منفذة شرط في التعايش العام، ولذلك كان التعايش الخاص بين المحكوم والحاكم وفق نظام خاص متفق عليه مانعا من الصراع وضامنا للتعايش العام.
ليس يقف مفهوم التعايش بين المسلمين وغيرهم، بل يرجع أولا إلى التعايش بين المسلمين والمسلمين، وبين دولة الإسلام وغيرها، وزاد حسين علي المصطفى[7] رابعة وهي: “التعايش بين القوى الاجتماعية المختلفة“[8]، يعد التعايش “أمنة” للمجتمع، وحماية له من الدسائس الداخلية التي يسعى فيها أهل الخيانة والنفاق، فالتعايش بيئة يصعب على غير أهله العيش فيها، فالتعايش ماء عذب زلال، لأنه يذيب كل شائبةِ شذوذ، ويطفئ كل نار فتنة، وقد كان في المدينة منافقون، أغروا اليهود بنقض العهود، وتواطؤوا مع مشركي قريش أعداء الأمة، فكانت بروابط التعايش وصمامات أمانه محصنة من أذاهم، فسريعا ما تطهرت المدينة من كل ذلك، واستمر أمرها على التعايش مع من يريده داخل المدينة وخارجها، وقد تحقق هذا التعايش ‹‹في مجتمع المدينة، وكان لابد له أن يتحقق ما دام قد استكمل الشروط وتهيأت له أسبابه في القيادة والقاعدة على السواء››[9]، فالسنن الإلهية في التمكين وإقامة الدولة الناجحة كانت مستوفاة فيها، والحديث عن هذا له شأن آخر وموضع آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رشيد كهوس في “التعايش السلمي بين الشعوب والأديان ،دراسة تأصيلية تطبيقية من خلال السيرة النبوية” المنشور في مجلة “أصول الدين” ص112.
[2] “الإسلام والتفاهم والتعايش بين الشعوب” ص12 بالاشتراك مع شوقي أبو خليل.
[3] رشيد كهوس في “التعايش السلمي بين الشعوب والأديان، دراسة تأصيلية تطبيقية من خلال السيرة النبوية” المنشور في مجلة “أصول الدين” ص112..
[4] وقد لاحظ هذا أستاذنا رشيد كهوس، فاستعمل عبارة “الانصهار الاجتماعي” في “السلم الاجتماعي في المنهاج النبوي، منطلقاته ومقوماته وتجلياته” ضمن “الحوار الديني وقضايا التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر” ص430. وهي عبارة دقيقة لها دلالة لطيفة.
[5] “معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية” ص68.
[6] “مقدمة ابن خلدون” ص67.
[7] شيعي.
[8] “فقه التعايش في السيرة النبوية” ص13.
[9] رشيد كهوس في “السلم الاجتماعي في المنهاج النبوي،منطلقاته ومقوماته وتجلياته” ضمن “الحوار الديني وقضايا التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر” ص432..