التعليم ببلادنا من المقاربة التربوية إلى المقاربة الأمنية
هوية بريس – عبدالرحيم شهبي
انتقلنا من زمن المقاربة التربوية التي تستثمر كل الموارد البيداغوجيا والديداكتيكية في إصلاح التعليم ببلادنا، رغم ما شاب ذلك من اختلالات بنيوية لازالت عالقة، إلى المقاربة الأمنية التي تستنفر كل القرارات والتوصيات السلطوية بشكل وقح والسافر وعدواني.. ومعلوم أن هذه المقاربة الاختزالية هي محدودة جدا، ولا يمكنها سوى أن تفرض الإذعان والطاعة السلبية، وتجعل من الكثير من نساء ورجال التعليم تتعامل معها بازدراء وازدواجية، بحيث إذا حضرت الرقابة أظهروا الانضباط إلى حدود الانسحاق، وإذا غابت تمردوا إلى حدود العصيان؛ ذلك أن هذه المقاربة لا يمكنها أن تمتلك فرض الرضا والاقتناع والحب، بوصفها رمزا للقهر والارغام، وليست رديفا للعقل والحرية، لذلك لا تحضى هذه المقاربة الأمنية عادة برضى الخاضعين لها، ولكنها تحضى برضوخهم المؤقت والمحدود، هذا هو الجواب الشافي لمن صفق لهذه المقاربة وكأنها المنقد من الضلال والتسيب المفترى على نساء ورجال التعليم.
هذه المقاربة تحاول أن تشيء المسألة التعليمية التعلمية، وتحولها إلى مادة استخدامية، وتواجه المشتغلين بهذا القطاع المهم والاستراتيجي بقرارات تجعلهم وكأنهم فائضين عن الحاجة أو أن الدولة لم تعد بحاجة إلى خدماتهم، أو كأنهم أصبحوا دواعش يهددون أمن واستقرار البلد، وهي بصدد البحث عن الذرائع للتخلص منهم بأيسر السبل وأهونها، وتحاول أن تجعلهم دفتر وسخ تمسح فيهم كل فشلها وإخفاقاتها، في وقت يعرف فيه الجميع، وهذا ليس سر يداع، الوضعية المتردية التي تعرفها مدارسنا من حيث البنيات التحتية أو الموارد البشرية أو البرامج البيداغوجيا والديداكتيكية، وأن هذا القطاع بقي مهملا وخاضعا لأجندات الرأسمال المتوحش والدول المانحة، وبقي يتلقى الوجبات الجاهزة منذ زمن برنامج التقويم الهيكلي، القاضية بتقليص النفقات على هذا القطاع الحيوي وتهميشه، بالإضافة إلى ذلك ما أضافه الفساد المؤسس داخليا من عجز بنيوي في موارد هذا القطاع المادية والبشرية، بموازاة مع اختيارات سياسوية رسمية تجعل من الوعي والتعليم وكأنه فزاعة تخيف كيانات سلطة هلامية ما زالت لم تتجاوز الوضع الهجين حسب التصنيفات الدولية، ولما تغادر عتبة الدولة التسلطية وتحقق عدالتها الانتقالية، مما يجعل لاشعورها السياسي يبطن تخوفا مبررا، مما يمكن أن يحدثه التعليم الجيد المفعم بالحياة من حراكات مجتمعية مدنية مطلبية، هي عاجزة عن تحقيقها أو تعتبرها ماسة بامتيازاتها وريعها.. وهذا غيض من فيض تتحمل فيه سلطة الوصاية كل المسؤولية، بل ويحول نساء ورجال التعليم وعموم المتعلمين وأسرهم إلى ضحايا ومرتهنين لخيارات لا وطنية ولا شعبية ولا ديمقراطية.
المقاربة الأمنية هي جواب سياسوي يريد أن يرسخ مفردات الدولة التسلطية ويحقق أمنها الشخصي، ويكرس العقلية النمطية والمعيارية والماهوية والديكتاتورية الاجرائية والايديولوجيا، وتحويل المدرسة إلى وسيلة إعلامية تدمن على الهتاف، في زمن أفول الايديولوجيات الصلبة والخطابات الهووية المنغلقة، في حين تتبنى النماذج الناجحة في الدول المتقدمة مقاربات شاملة مندمجة في سياق كوني مرتبطة بصك الحقوق والحريات، وجودة الحياة، وتكريس التعدد والتركيب والاختلاف واحترام الأخر وإعادة إنتاج التعاقدات بشكل تشاركي وجماعي في أفق خلق مجتمع التوزيع العادل للسلطة والثروة، وفي إطار بناء أجيال متعلمة وفاعلة ومتميزة.
المقاربة الأمنية تعتني بالهندام وصباغة الأقسام وإصلاح الطاولات…الخ في إطار صناعة الصورة والديكور، فهي تعنى بطهارة الجسد ظاهريا، برغم محدودية ذلك وانتقائيته وأحيانا فضائحيته، ولكنها غير معنية بحماية هذا الجسد، سواء في شكل بنيات تحتية أو موارد بشرية أو عدة بيداغوجيا وديداكتيكية، من كل أشكال الانتهاكات الحاطة من كرامته، أي الطهارة المعنوية، فليس في وارد سلطة الوصاية حماية وتدعيم المكتسبات المادية والمعنوية التي حققتها شغيلة هذا القطاع، عبر تاريخ طويل من النضالات المريرة، وصيانتها من كل انتهاك يمكن أن يعيد سكان هذا القطاع أو الكوكب إلى العصر الحجري، وليس في واردها الزيادة في نفقات هذا القطاع العمومية، أو التشجيع على ولوج المعاهد العليا وتشجيع البحث العلمي…الخ
هذه المقاربة الأمنية هي مقاربة غير مستوعبة حتى للمتعلم ومتجاوزة له، باعتباره هو قلب وأساس العملية التعليمية التعلمية، فهي تحشو ذهنه بكل أشكال الاذعان والامتثال، أو تدفعه نحو الفوضى والتشرمل، في حين أن خيار تجاوز الهويات المنغلقة، وتكريس قيم السلم والتسامح لن ينجح إلا في إطار إنتاج نمط من الحرية الموجبة، تلك التي تساعدنا على وعي قيم المواطنة واستيعاب مفهومي الحق والواجب، وتعنى بصناعة المصير المشترك، وليست تلك الحرية المتحللة التي تستهلك الهامش بشكل شاذ وإقصائي وسالب.. وتقدم النصوص القرائية أيضا له وجبة من مقول القول المفرغ من القيم والمتضمن لقاموس من الأفكار الجاهزة، التي تجعل مؤشرات الإقبال على القراءة ضعيفة وكارثية، كما أن الكتب المدرسية يتم إخضاعها لقانون السوق المتوحش، بعيدا عن أي دفتر للتحملات أو جو من المنافسة الشريفة، مما يجعلها خالية من كل أشكال الجودة المطلوبة.
في إطار هذه المقاربة سوف يثخمنا خطاب القطب الإعلامي المتجمد إلى حد القرف، بكثير من الأخبار عن توقيفات أو ترحيلات أو عمليات إعادة إنتشار وتوزيع، بهدف إحداث ضجة إعلامية عابرة، وتأكدوا أن هذه الإجراءات العقابية الانتقامية لن تمس جوهر الفساد ولوبياته المتمكنة، بل ستقتصر على بعض العناصر المنفذة وليست المتنفذة، تتخذ كمشجب تعلق عليها كل الأخطاء والخطايا، لكن دار لقمان ستبقى على حالها، بل ستزداد سوءا، مادامت تغيب عنها الرؤية الواضحة والارادة الصادقة، ولو أرادوا الاصلاح لأعدوا له عدته..
إن المقاربة الأمنية القاضية بتحويل هذا القطاع إلى ملحقة أمنية تابعة، لما عرف في وجدان شعبنا في سنوات الجمر والرصاص بأم الوزارات، لن يخرجنا من النفق المظلم بل سيغلقه علينا للأبد، وسيمسح عن سمائنا الأفق، وسيحرق خضرة الحقول وزرقة البحر، ويشيع ما تبقى من أمل إلى مثواه الأخير.