الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم شعائر الدين، والقيام به من أهم أسباب النجاة والسلامة من الشرور، بالقيام به كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، وبالتخلي عنه وعدم القيام به لعن من لُعن من بني إسرائيل، قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وقد أمر الله أن يكون في الأمة طائفة تقوم به فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، قال ابن كثير في تفسيره: «والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه»؛ ثم ذكر حديث درجات تغيير المنكر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم (177) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقد هيأ الله للغالبية العظمى من جزيرة العرب ــ وفي مقدمتها الحرمان الشريفان ــ ولاية الدولة السعودية لها ابتداء من منتصف القرن الثاني عشر الهجري على يد الإمام محمد بن سعود بتأييد وتسديد من الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله، وقد قامت هذه الدولة على تحكيم الكتاب والسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مضى عليها حتى الآن ثلاثة قرون تقريباً، وكان ذلك من أهم أسباب بقائها، وقد كتبت رسالة بعنوان: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أسباب قيام الدولة السعودية وبقائها» طبعت في عام 1430هـ، ومن أجهزة الدولة السعودية «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهي من خصائصها، لا أعلم لها مثيلا في الدول الأخرى.
ومن أحفاد الإمام محمد بن سعود رحمه الله صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء المتوفى سنة (1433هـ) رحمه الله، قال في مطلع لقائه مع مسئولي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في 27/8/1427هـ إبان كونه وزيرا للداخلية، قال كما في تسجيل اللقاء: «إنه لشرف لهذه البلاد أمة وقيادة أن فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن الدولة هي التي تقوم بهذا العمل، والتي تحقق هذا الأمر وتعمل من أجله، وهذا ليس بجديد، منذ أن قامت هذه الدولة على يد الإمام المصلح محمد بن سعود إلى الملك عبد العزيز رحمه الله وبعده أبناؤه وإلى الآن وهذا الأمر قائم وسيظل قائما، ويجب أن يعرف الجميع داخل البلاد وخارجها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ركن أساسي لدولة الإسلام».
ومن أحفاد الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس قضاتها المتوفى سنة (1389هـ) قال في بيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في «فتاواه ورسائله» (6/167): «فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له الأنبياء والمرسلين، فلو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد، قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} فنعوذ بالله من اندراس هذا المهم العظيم، واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عنوان الإيمان، ودليل السعادة والفلاح».
وقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحتشام النساء قبل عهد الملك عبدالله رحمه الله على حالة طيبة، وبعد ولايته حصل الخلل في هذه الأمور فأسفرت النساء عن وجوههن واختلطن بالرجال في مجلس الشورى وغيره، وتغيرت الحال في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كتبت في ذلك عدة كلمات منشورة، وسبب بدء هذا التحول في عهد الملك عبدالله رحمه الله تمكينه للتغريبيين الذين هم بطانة سيئة، فكان يصل إليه الشر ويحجب عنه الخير، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما استخلف خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله» رواه البخاري (6611).
والصراع قائم بين هاتين البطانتين للولاة في هذه البلاد:
فبطانة تدعو إلى النجاة، وبطانة تدعو إلى النار، كما قال الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.
بطانة تدعو إلى الصلاح والإصلاح، وبطانة تدعو إلى الفساد والإفساد، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}، وقال: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} في آيتين من سورة الأعراف، قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: «ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى عن ذلك»، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.
بطانة تدعو إلى ما فيه السلامة من الهلاك، وبطانة تعمل على ما فيه الهلاك، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
بطانة تدعو إلى الاستقامة على الصراط المستقيم، وبطانة تدعو إلى الانحراف والميل العظيم، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، وقال: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
بطانة تعمل على سلامة الراعي والرعية في هذه البلاد ، وبطانة تعمل على ما فيه هلاك الجميع، قال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونَجَوْا جميعاً» رواه البخاري (2493).
بطانة تدعو إلى الأخذ بأسباب النصر والتمكين في الأرض، وبطانة تدعو إلى ضد ذلك، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وقد أساء التغريبيون المتبعون للشبهات والشهوات إلى الملك عبدالله رحمه الله بالعمل على إحداث تلك المنكرات في عهده، وأرادوا الإساءة إلى الملك سلمان حفظه الله بترحيلها إلى عهده، ولاسيما سعيهم لإصدار تنظيم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي المنكر فيه إضعافها وذهاب هيبتها فرح به التغريبيون والفساق الذين يتمنون إلغاءها، وأحزن كل ناصح لهذه البلاد حكومة وشعبا، وذهاب هيبة الهيئة فيه ذهاب هيبة الدولة؛ لأنه من أهم أسباب بقائها، ولا يليق بأهل مجد ورَّثه الملك عبدالعزيز رحمه الله تمكين التغريبيين من السعي لإضاعة هذا المجد، والتساهل الذي اشتمل عليه التنظيم فيه تجريء الفساق على المعاصي التي هي سبب العقوبات العاجلة والآجلة، قال شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله كما في «مجموع فتاويه» (4/127): «فما يصيب الأمة أو الأفراد من فتن أو صد عن سبيل الله أو أوبئة أو حروب أو غير ذلك من أنواع البلاء فأسبابه ما كسبه العباد من أنواع المخالفات لشرع الله؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، وقد بيَّن الله جل وعلا ما حصل لبعض الأمم السابقة من العذاب والهلاك بسبب مخالفتهم لأمره ليتبيَّنه العاقل ويأخذ من ذلك عظة وعبرة»، ولا شك أن بقاء الهيئة على أعمالها وهيبتها التي كانت عليها من قبل فيه مصلحة الراعي والرعية، والمأمول من خادم الحرمين الملك سلمان حفظه الله لما اتصف به من حزم وعزم إعادة النظر في هذا التنظيم وإعادة الهيئة إلى ما كانت عليه من جد ونشاط وهيبة، لا أن تكون مجرد هيئة بلاغات رسمية للشرطة وإدارة مكافحة المخدرات.
ونسأل الله أن يوفق هذه البلاد حكومة وشعبا لكل ما فيه الفلاح والصلاح والإصلاح، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.