التفويض بين السلف والخلف “أمروها كما جاءت”

30 يوليو 2023 21:13

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

المقدمة الثالثة: بيان مُرَجِّحَاتِ فَهْمِ السلف على فهم الخلف:

تقدم معنا فيما سبق من مقالات ما يدل على أن الأئمة الأربعة وغيرَهم من السلف كانوا يرجعون في الأصول والفروع إلى فهم الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لأنهم رضي الله عنهم اختصوا بأمور جعلت فهمهم للدين حجة على من جاء بعدهم، أذكر منها :

1-ثَنَاءُ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ﷺ: فقد أثنى الله تعالى علي صحابة نبيه ﷺ في التوراة والإنجيل والقرآن، كما أثنى عليهم رسوله ﷺ، وفي ذلك تزكيةٌ ضِمْنِيَّةٌ لسداد فهمهم عن الله ورسوله ﷺ؛ وذلك لأن الثناء عليهم دليل على صلاحِ وصحةِ أعمالهم، وصحةُ أعمالهم دليل على صحة علومهم، وسداد فهومهم، ومن ثناء الله عليهم قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اُ۬للَّهِۖ وَالذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَي اَ۬لْكُفّ۪ارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْۖ تَر۪يٰهُمْ رُكَّعاٗ سُجَّداٗ يَبْتَغُونَ فَضْلاٗ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرِضْوَٰناٗۖ سِيم۪اهُمْ فِے وُجُوهِهِم مِّنَ اَثَرِ اِ۬لسُّجُودِۖ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِے اِ۬لتَّوْر۪يٰةِۖ وَمَثَلُهُمْ فِے اِ۬لِانجِيلِ كَزَرْعٍ اَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَو۪يٰ عَلَيٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ اُ۬لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اُ۬لْكُفَّارَۖ وَعَدَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةٗ وَأَجْراً عَظِيماٗۖ﴾ (الفتح29).

2-عِلْمُهُمْ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ: فهم أعلمُ ممن جاء بعدهم بلسان القرآن، بل القرآن نزل بلغاتهم وأعرافهم في الكلام، بل وبلهجاتهم المختلفة؛ ولهذا أنزل على سبعة أحرف، وذلك تيسيرا عليهم في فهمه، وقراءته، وحفظه؛ كما أن الله تعالى قد بعث إليهم رسولا من أنفسهم، يتكلم بلسانهم، ليُبَيِّن لهم أتم البيان، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ اِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم 5)، ومما يدل على أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أعلمُ بلغة القرآن ممن جاء بعدهم: ما رواه الزهري عن عُرْوَة قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اَ۬لصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَٰٓئِرِ اِ۬للَّهِۖ فَمَنْ حَجَّ اَ۬لْبَيْتَ أَوِ اِ۪عْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَّطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ (البقرة 157)، فَوَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ، كَانَتْ: لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّفَ بِهِمَا…” ([1]).

فانظر رحمك الله إلى فضل الصحابة على التابعين في التمكن من لغة القرآن، مع قرب العهد بينهما، فما بالك بمن كان بينه وبين الصحابة مفاوز تنقطع دونها أعناق الإبل؟!

3-مُشَاهَدَتُهُمْ لِلْوَحْيِ، وَحُضُورُهُم التَّنْزِيلَ، وَأَسْبَابَ الوُرُودِ: فالعلم بسياق الورود، وسبب نزول الوحي معين على فهمه؛ إذ العلم بالسبب يورث العلم بِالـمُسَبَّب، ويؤكد ذلك تتمة حديث الزهري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت له في تمام حديثها عن سبب نزول قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اَ۬لصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَٰٓئِرِ اِ۬للَّهِ﴾: “… وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا»، قال الزهري: ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ يَذْكُرُونَ: أَنَّ النَّاسَ، – إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ – مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ فِي القُرْآنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلاَمِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ» ([2]).

   فانظر – رحمك الله- إلى مدى تأثير العلم بأسباب الزول في فهم كتاب الله تعالى.

4-أَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمُرَادِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَلَامِه: حتى إنهم كانوا يعرفون الرضى والكراهية في وجهه قبل أن يتكلم؛ ولا عجب في ذلك، فإن الصاحب الملازم لصاحبه يكون أعلم بمراده وعادته فيما يتكلم به من غيره؛ وهم في ذلك درجات بحسب طول صحبتهم وملازمتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره، وهم كانوا يعلمون ذلك، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى، فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ([3]).

وقد ظهر فضل أبي بكر رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه في الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكلاهما فاضل- في قصة الحديبية، حين عقد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع المشركين، وقَبِلَ منهم شروطهم على ما فيها من إجحاف وعدم إنصاف للمسلمين، فقال عمر رضي الله عنه للنبي ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا»، قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا، قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ فَتْحٌ هُو؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ([4]).

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إلى أبي بكر رضي الله عنه فيما خفي عليهم من سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقتدون به في الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاقتدائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في الفهم عن الله، ولهذا حين هَمَّ عمر رضي الله عنه أن يقسم كنز الكعبة على المسلمين قال له شيبة بن عثمان (حاجب الكعبة):  مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، فقَالَ عمر رضي الله عنه: «لِمَ؟»، قال: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ (يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر الصديق رضي الله عنه)، فقَالَ عمر رضي الله عنه: «هُمَا المَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا»([5]).

وكما كان عمر رضي الله عنه يقتدي بأبي بكر رضي الله عنه كان بقية الصحابة يقتدون بهما امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم: «اِقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي»([6])،  وعملا بوصيته لأمته صلى الله عليه وسلم باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده، كما في حديث العرباض بن سارية:  «… فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»([7]).

وسيأتي ذكر بقية المرجحات لفهم الصحابة في المقال الآتي إن شاء الله …

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أخرجه البخاري1643، ومسلم 1277.

([2]) تقدم تخريجه.

([3]) البخاري 3904، ومسلم 2382.

([4]) أخرجه البخاري3182، ومسلم 1785.

([5]) أخرجه البخاري 7275.

([6]) صححه الألباني في تحقيقه لصفة الفتوى ص54.

([7]) صحيح الجامع 2549.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M