التوحيد والنبوة.. قبل وبعد الانفجار العظيم
هوية بريس – طارق الحمودي
الانفجار العظيم.. وتوسع الكون
لعل غالبنا قد سمع عن نظرية الانفجار العظيم التي تقترب من كونها حقيقة علمية مطلقة، والتي تعني أن الكون كانت بدايته من جزيئة صغيرة جدا، احتوت على طاقة كبيرة جدا، انفجرت بسبب عدم ثبات حالتها فيزيائيا، لتنتج غبارا كونيا مكونا من ملايين الجزئيات الأولية والذرات، وكان منها الهيدروجين الذي لا يتكون إلا في درجات حرارة عالية، لم توجد إلا زمن الانفجار وبعده بقليل، ثم تمدد الكون وتجمع الغبار لينتج عنه مجرات بالملايين، هذه هي الصورة التي يحكيها العلماء، ويستدلون عليها بأدلة مشاهدة وحسابات، أهمها تلك التي أظهرها “هابل” من مشاهداته، فقد لاحظ ابتعاد المجرات عبر منظار فلكي صنعه، ثم سيستطيع العلماء الحصول على صورة للكون حال تشكله في الآلاف الأولى بعد الانفجار، كما استطاعوا أن يحصلوا على صوت ما بعد الانفجار بعد تحويل تردده إلى تردد مسموع بعد أن ضعف بسبب طول المسافة التي عبرها.
وجه الله.. وفكره
عندما حصل العلماء على صورة الكون في أول ظهوره عن طريق قمر صناعي التقط الإشارات الضوئية القديمة من مختلف جهات الكون صرح أحدهم في حالة من النشوة والانبهار قائلا: كأنني أشاهد “وجه الله“، ومثل هذا يؤكد أن هؤلاء العلماء يرون ما لا نراه في العلم، ولكنهم يتكتمون في غالب الأحيان، ويضطرون أخيرا إلى البوح بشيء من ذلك مما له علاقة بالإيمان بالله بطريقة أو بأخرى، بل قد صرح أينشتاين حينما سأله صبي قائلا: «كل من يمارس البحث العلمي الجاد فإنه لابد أن يصل إلى حقيقة وجود كائن أعلى وأكبر من الإنسان»، وقد كان أينشتاين متجاوزا لهذا، فقد كان مشغولا بالوصول إلى ما هو أبعد من اعتقاد وجود كائن أعلى، فقد سألته فتاة في برلين مرة عن مقاصده من بحوثه العلمية فأجابها بأن اهتمامه يتجاوز الاهتمام بتفاصيل العلم ومعادلاته إلى القدرة على معرفة… “فكر الله“.
جدار بلانك.. السؤال العلمي المحرم!
وعودا إلى الانفجار العظيم، يتحدث العلماء عن غريبة من غرائب هذه النظرية، وهي أن الانفجار العظيم لم يكن ليحصل في زمن قيمته صفر، بل إنه تأخر عنه بنحو جزء من عشر عشر عشر عشر ثانية، بحيث انفجرت جزيئة لم تكن في الأصل عدما، بل كانت بوزن صغير جدا وأبعاد صغيرة جدا، وهو الحجم الأصغر الذي تسمح به قوانين الفيزياء، وكان مكمن العجب في هذا هو أنه يحيل على سؤال خطير جدا، حاول غالب العلماء ومؤسساتهم البحثية منعه والتحذير من الاقتراب منه، وهو سؤال: «ما الذي كان موجودا قبيل الانفجار؟»، أي ما بين اللحظة صفر …ولحظة الانفجار؟
قوانين ثابتة ونظام محكم
مما يلاحظ على الهيئات العلمية الملحدة في العالم أنها تحاول دائما إبعاد مفهوم “الخالق” من الفكر العلمي، ولكنها وقعت فيما كانت تتهرب منه، فتسمية بدء الكون بـ”الانفجار العظيم” تسمية إنجيلية وضعها فيزيائي معترف به، والمفارقة في هذا أنه كان أيضا راهبا كاثوليكيا، فاضطر الوسط العلمي إلى قبول التسمية والنظرية، وأكدتها نتائج المراقبات والمشاهدات والحسابات الرياضية، ومع ذلك، حماية لإلحادية نظريتهم للكون منعوا من طرح السؤال وسفهوا من يتحدث به، وعندما وجدوا أنفسهم محرجين أمام قوة السؤال وحضوره مرة بعد أخرى في المنتديات العلمية والمقالات والمؤلفات، حالوا أن يجدوا جوابا يبعدون به السائل عن فكرة الخلق، لكنهم هذه المرة لم يجدوا حلا إلا أن يقترحوا عقيدة، وصفوها بالعلمية وليست كذلك، وهي نظرية الأكوان الموازية، ليوهموا أن الدقة التي وجد بها الكون كانت عشوائية من بين ملايين الأكوان غير المستقرة والتي لم تنجح في الظهور.
ما قبل الطاقة!
ما الذي “وُجد” قبل الانفجار العظيم وأنتج هذه الحالة من الاستقرار والنظام المتقن القائم على قوانين تحكمها عشرات الثوابت الفيزيائية التي تدل على أن مسألة العشوائية في ظهور الكون مردودة عقلا وواقعا؟ حاول بعض الباحثين إيجاد جواب مقنع، وكانت المفاجأة تلك التي اقترحها الأخوان بوغدانوف الفرنسيان ذوا الأصل الروسي، إيغور وغريشكا، وهي أن الطاقة التي احتوتها جزئية بلانك كانت مسبوقة بـ”المعلومات“، والتي يذهب هاوكينز إلى أنها نفس تلك القوانين الفيزيائية، وأنها هي التي أوجدت الكون، ولم يكن هذا قصد الأخوين بوغدانوف، على الأقل في بادئ الأمر، بل كان قصدهما وجود جهة عالمة أوجدت القوانين ثم أوجدت الكون وفقها ووجهت ظهوره، وهو نفسه الخالق الذي آمن به أينشتاين، لكن… وفق تصور سبينوزا.
حيصة العلماء
حينما يجد الباحث العلمي نفسه مشدودا إلى الإيمان بوجود خالق، وهو أمر مرفوض في الوسط العلمي الغربي، وينتج عنه تضييق واستبعاد ومتابعات إعلامية، وتسفيه لكل من تسول له نفسه الحديث عن الخالق في الوسط العلمي، كما فعلوا مع أصاب نظرية “التصميم الذكي“، الذين وضعوا هذا الاسم وتحدثوا ما أمكنهم بمنطق علمي عن “مصمم“، ليس هو “الله” وفق الأنبياء، هربا من المتابعات القانونية والأدبية لهم من طرف الهيئات العلمية، وهو ما يمارسه هؤلاء الذين يسألون عن ما قبل الانفجار العظيم، فإنهم اختاروا أن يتحدثوا عن “الله” وفق عقيدة وحدة الوجود عند سبينوزا كما فعل إينشتاين، وهي محاولة فاشلة، لأن منطق هذه العقيدة أن يُجعل “الله” داخل هذا الكون، منتشرا فيه، بخلاف الأجوبة التي يقدمها القائلون بوجود “خالق” خارج عن الكون، وهي حيصة علمية سببها إرهاب المؤسسات البحثية العلمية.
النبوة والباطنية
تقوم عقائد الأنبياء على أن الله هو خالق الكون، وأنه ليس كمثله شيء، وتقوم عقائد الوحدويين الباطنية على أن الله تجلى في بحر العماء فأنار ظلمة “الثابتات“، فصارت “موجودات“، وهي عينها تمثلات لله وصور لذاته، ويذهب صوفية وحدة الوجود في التاريخ الإسلامي إلى أن أفضل تجل لله في بحر الثوابت هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو عندهم “الحقيقة المحمدية” و”الإنسان الكامل“، وأن الله تجلى عبر هذه الحقيقة المحمدية بنسب ومعان مختلفة في الثوابت لتصير موجودات باختلاف الاسم من أسمائه الحسنى الذي انطبق على هذا الثابت أو ذاك، وما يهم في كل هذا هو أن هؤلاء الباحثين يؤكدون على أن الكون أوجد بنظام دقيق وقوانين ثابتة، وهو ما يجر إلى سؤال النبوة، إذا كان الله تعالى خلق الكون بهذا الضبط، وخلق في الإنسان وجعله مستخلفا لعمارة الأرض، وعلَّم أول البشر الأسماء كلها ليكون العلم هاديا له في تطويع هذا الكون لعبادة الله وعمارة الأرض بها، فما قدر الشرائع التي بعث بها الأنبياء؟
والجواب هو مقتضى المماثلة، فلكي يستطيع الإنسان أن يستفيد من الكون وما فيه، ليعينه على إقامة العبادة كان لابد من البعثات النبوية التي أرسل الله معها الكتب السماوية المتضمنة للشرائع، الشرائع التي وضعها الله بنفس دقة النظام وثبات القوانين، حتى تحصل المطابقة والمماثلة.
خاتمة
العلم اليوم يقود للإيمان، وهو أمر يقلق ويزعج الوسط العلمي الملحد، ومهما حاول تجنب الاصطدام بحقائق الغيب والإيمان فإنه آيل لا محالة إلى الاصطدام العنيف معه، وهو أمر مشاهد، فلحماية إلحاده سيندفع الإلحاد العلمي كالحيوان المصاب هائجا يرهب ويضرب، وسيتجاوز القيم والأخلاق ليمارس العنف والإقصاء في حق كل من يحاول إسقاط إلحاده، بل إن الإلحاد العلمي اليوم في حرج كبير من “العلم” نفسه، لأنه اكتشف أنه كلما تقدم فيه انكشفت حقائق الإيمان أكثر، ويخشون من تمام الكشف العلمي وظهور الحق، ولذلك يمارسون الجحود، بل يجعلونه مؤسسات ونظريات، نعم صار جحود الكفر والإلحاد اليوم مؤسسات ومناهج ونظريات، وكذلك ينبغي أن يكون الإيمان وأهله غالبان بأمر الله، ولو كره الملحدون.