الثقافة والهوية

هوية بريس – ابراهيم الناية
إن الترحال الثقافي الذين نراه اليوم حاصلا في واقعنا الفكري نتيجة تحول القناعات مع تقدم العمر ما هو الا خطأ قد وقع في بداية الطريق حيث كان المرء يعتبر نفسه مالكا للحقيقة ،ويعزف عن التواصل مع مختلف الرؤى والتوجهات، ولما شعر بحاجته الى الاطلاع على تصورات اخرى مع مرور الايام انكشفت له الحقيقة، فأضحت مشكلتنا الثقافية اننا لا نقرأ الا لونا معرفيا واحدا ولا ينصت بعضنا لبعض ، وهنا كان الاقصاء، وعدم احترام مشاعر الاخرين ومعتقداتهم وما تم ترويجه من الموضوعات المطروحة من خلال التلاوين الثقافية تمثل في موضوعات كالثقافة والهوية ،والحداثة، وكيف نتعامل مع التراث ومسألة العدالة الاجتماعية وموضوعات الحضارة والنهضة والتنمية وعلاقتهم بالثقافة. وبعيدا عن كل المناكفات يقتضي الامر ان تكون لنا ثقافة مستقلة تعتمد على المنهج العلمي في التحليل والبناء، وعندما يحصل ذلك لا نكترث بما يقال. وساعمل جاهدا في هذا الموضوع الى تناول مسألة الثقافة والهوية وارتباطهما بواقعنا الثقافي الذي نعيشه. ولعل اول سؤال يواجه مسألة الثقافة والهوية هو : من نحن.؟ حتى يمكن ان نحدد المجال الذي نريد ان نتحرك فيه والمفاهيم والتصورات التي ننطلق منها. ففي سنة 1980 طرح احد الاساتذة الذائع الصيت موضوع :نحن والتراث وان كان لم يحدد ذلك النحن، ولكن يظهر واضحا في تحليلاته و قراءاته والمنطلقات الفكرية التي ينطلق منها، ولذلك ان اليات التحليل وتصور القضايا هي التي تضبط توجه المتناول للموضوع، كما يقول “بشلار” “قل لي كيف تفكر اقول لك من انت” وعلى هذا الاساس ان هذا الموضوع يطرح مفاهيم متشابكة سنعرض لها في حينها .وكيف يمكن تناول ذلك وما المنظومة المرجعية التي سننطلق منها؟.
فمسألة الثقافة والهوية من المسائل الهامة التي يتعين الوقوف عندها مليا بكل تبصر وروية، لأن المجتمع اليوم تتقاذفه الافكار المتناقضة والرؤى المختلفة فضلا انه يعيش مشاكل صعبة كمشكلة الخروج من التخلف ومسألة التربية والتعليم وانهيار منظومة القيم والتفكك الاسري وتفشي الجهل والامية وفقدان الذات والارادة، وامام هذه الامور الصعبة يقتضي الامر الوقوف عند مفهوم الثقافة والهوية، والتراث والعلاقة بينهم:
-لانه كيف يمكن صناعة التاريخ مع وجود التبعية والذوبان في الاخر ، وعدم استقلال العقل والارادة.؟ وكيف يمكن الوصول الى ثقافة بانية في غياب الوعي بالذات والاعتراف بها؟. ان الحديث عن الثقافة والهوية اصبح من الاولويات. لانه كيف يمكن السير الى الامام دون ان نعرف من نحن. ودون ان نحدد معالم الطريق؟. وكيف يمكن ان نبني ذواتنا ونفكر بعقولنا ولا يمنعنا ذلك من الاستفادة من تجارب الاخرين.؟ وكيف يمكن الحديث عن نهضة مجتمع وتقدمه وهو لا يتمتع بالاستقلال الثقافي ويؤمن بالتبعية والتفكير بعقل الاخر.؟ وعندما يكون المجتمع محتضنا للخرافة من جهة والميوعة من جهة اخرى. هل يمكن اعتباره ذا هوية ثقافية؟ وكيف يمكن للمثقف ان يساهم في بلورة مشروع ثقافي يدعو الى التنمية وخدمة المجتمع من خلال العلم والمعرفة وتربية الانسان. ؟ هذه اسئلة وغيرها نرى من الضروري الوقوف عندها ومقاربتها من خلال نقاش نتوخى منه ان نضع القارئ امام تصور علاقة الهوية بالثقافة. فالثقافة هي التي تعطي العنوان المتميز للشعوب من حيث كونها تسعى الى البناء او تدعو الى الانجرار وراء تيارات مذهبية لثقافة اجنبية، وهنا تتجلى خطورتها ولذلك وقف المفكرون والفلاسفة عند مناقشتها طويلا وخصوصا ارتباطها بالهوية لان العادة جرت انه عندما يتم الحديث عن الثقافة يتم ربطها بالهوية. فلقد طرح الفلاسفة قديما وحديثا مسألة الماهية والهوية. وهكذا نجد الفيلسوف ابا نصر الفارابي اثناء حديثه عن تقسيم الموجودات بان الماهية هي وجود الشيء على مستوى الذهن، اما الهوية فيرى انها تحول الفكرة الى وحدة في الخارج لتصبح محددة وواضحة.ولذلك إن الهوية هي الفكرة التي تجسدت في الخارج أي في الممارسة السلوكية من أجل تحقيقها ومن هنا فقد دعا الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال رحمه الله إلى انفصال المسلمين عن الهندوس ليكونوا كيانا مستقلا يجسد معتقداتهم وذواتهم ورؤيتهم للحياة، وهكذا سيأتي محمد علي جناح ليجسد الفكرة كوحدة في الخارج ويدعو إلى قيام دولة ستتخذ من الإسلام هوية عقائدية تمثل كيان المسلمين في تلك البلاد .فالهوية هي الإطار الخارجي الذي يجسد الفكرة وتصبح محققة في الواقع وتنتقل من مجال النظر إلى حيز التطبيق والممارسة ولذلك إنما يسود المجتمع من سلوكات ومعاملات في مجال السياسة والاقتصاد ما هو إلا انعكاس للعقلية السائدة التي تحمل نوعا معينا من المعرفة والمفاهيم والتصورات . فإذا كان هذا هو مفهوم الهوية فماذا نعني بالثقافة؟ .
-إن الثقافة هي مجموعة التراكمات المعرفية التي حصل عليها الإنسان وكان لها أثر كبير في سلوكه ومعاملاته وحياته إجمالا، وقد تتجلى في سلوكات المجتمع وعاداته وتقاليده ونمط تفكيره وعقليته ،ولذلك درج فلاسفة اللغة إلى أن طريقتنا في السلوك والكلام هي طريقتنا في التفكير ،وهذا يعني أن الثقافة لا تخص الأفكار وإنما تتجاوز ذلك إلى أسلوب الحياة في مجتمع معين ،كما تعني السلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في ذلك المجتمع .إن الثقافة هي الإطار الذي تبنى عليه أنواع الأنشطة الإنسانية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها، وهنا تأتي الخطورة فإذا كانت الثقافة قائمة على استقلال الإرادة ونابعة من ذاتية الأمة وكينونتها ورافضة للتبعية فيمكن الإقرار في هذه الحالة أن الثقافة بانية تمثل القيم الأصيلة للأمة ، أما إذا كانت تجسد عقلية الذوبان في الآخر فهي منفصلة تماما عن تاريخ الأمة ومن ثم إن الأفكار التي تسود المجتمع قد تكون دافعة إلى التقدم والرخاء وإلى البناء وتأكيد الذات وقد تدعو إلى التأخر والتخريب وتجعل الإنسان ذيلا لا يحسن إلا التبعية والتقليد. ولذلك نتساءل :أي نوع من الأفكار والتصورات تسود المجتمع؟ هل الأفكار التي تدعو إلى العلم والمعرفة والتحرر من الجهل والتخلف لكي يستفيق هذا المجتمع من سباته؟ أم الأفكار التي تدعو إلى التبعية والعبودية والتراجع وتحمي منظومات الفساد المختلفة؟ ولذلك ان الثقافة ليست معرفة خاصة لنوع من الناس وإنما هي أمر تتطلبه حياة الإنسان العامة ،فهي الجسر الذي تسير عليه الأجيال من أجل النهوض والبناء ومن المفيد الإشارة إلى أن المثقف هو الذي تصبح الثقافة جزءا من كيانه : طريقته في التفكير وسلوكاته وممارساته في الواقع ،وليس المثقف من يردد أفكارا وتصورات لا رصيد لها في الواقع ،وعليه إن مشكلة الثقافة في حقيقتها هي مشكلة الأفكار إما أن تدعو إلى مغادرة منطقة الظلام والبؤس واليأس وتضع نهاية لعهد الفوضى. أو تمثل الأفكار التي تدعو إلى التراجع والبقاء داخل عالم اللامبالاة والارتجال. ولذلك لا يمكن أن يتقدم المجتمع إلا بتقدم الأفكار التي تسوده ولا يمكن أن يخطو إلى الأمام في ظل التبعية والتفكير بعقل الآخر. ومن هنا نتساءل ما هي العوامل المختلفة المحددة لمفهوم الثقافة في أي مجتمع؟ لقد قلنا سابقا إن الثقافة هي كل ما يحيط بالإنسان من العادات والتقاليد والأفكار التي تحاول أن تؤثر على حياته وتطبعها بطابعها وقد تكون إيجابية أو سلبية فالمجتمعات التي تبلد إحساسها وأصبحت حاضنة لسلوكات الانحراف بمختلف تشكلاته, هذه المجتمعات تحمل أفكارا وتصورات لا تدعو إلى البناء ولا يمكن لها الوصول إلى أي تقدم في مجال من المجالات. فالمبشرون بالأديولوجيات الاستيلابية الوافدة من دول الاستعمار الغربي هل بإمكانهم المساهمة في مشروع ثقافي هادف يسعى إلى تحقيق النهضة وتحرير الإنسان من الظلم والعبودية وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية وتشييد صرح ثقافي يبنى على العلم وتربية الإنسان؟ وعليه:
-هناك من يفكر داخل منظومة التفكير الغربي. -وهناك من يقوم بعمليات انفعالية يطلق عليها تجاوزا ممارسة فكرية انطلاقا من بعد عنصري. -وهناك من يتحرك داخل عالم الأشياء ولم يدخل بعد إلى عالم الأفكار والقيم
-وهناك العقائد والتقاليد والعادات والأفكار واللغة والتعليم والتاريخ كلها عوامل مؤثرة في تحديد مفهوم الثقافة وكلها عوامل تظهر في سلوك الأفراد.
ولذلك ما هي وضعية ثقافتنا؟ هل هي قائمة على الإبداع والابتكار والاكتشاف واستقلال الإرادة وبناء الذات؟ أم أنها ثقافة استهلاكية تقوم على عقلية التبعية والانهيار والذوبان في الآخر والقابلية للاستعمار؟ وهنا يواجهنا السؤال: أي مستقبل ينتظر ثقافتنا؟ وإذا كانت الهوية هي التجسيد التطبيقي للفكرة المتمثلة في المعتقد أو الحمولة الثقافية فإن حقيقة الفكرة تظهر قيمتها في اثار تطبيقها في الواقع وما ترتب عن ذلك من سلبيات أو إيجابيات في ممارسات المنتمين إليها ،ولذلك نرى أن هناك من يتيه في النظريات الغربية بحثا عن ضالته التي يريد أن يجعل منها منطلقا منقذا للمجتمع الذي يعيش فيه والمختلف في بنائه عن منشإ تلك النظريات جملة وتفصيلا ،والأجدر به أن يبحث عن ما هو إيجابي ليستفيد منه بدل التسكع بين النظريات الاستيلابية. ومرة أخرى إذا كانت الهوية هي الجانب التطبيقي للنظرية فكيف يمكن تحديد انتماء الإنسان؟. إن الإنسان ينتمي إلى عالم القيم والأفكار ولا ينتمي إلى العرق فالذي يحدد الهوية لأي مجتمع هو نوعية الأفكار والقيم الثقافية والعرق لا يعطي هوية واعتباره محددا للإنتماء يشكل فكرة أساسية لدعوى الجاهلية ودعوة إلى العنصرية والوثنية، فهؤلاء الذين يتبنون هذا الطرح يتحركون داخل عالم الأشياء ولم يدخوا إلى عالم الأفكار والقيم فالإسلام حارب العنصرية والقبلية “إن أكرمكم عند الله أتقاكم “.وفي الحديث “دعوها فإنها منتنة”. ويتجلى ذلك واضحا عندما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحد الصحابة “بأنك امرء فيك جاهلية” فالذين يدعون إلى الجاهلية يعتبرون أن الإسلام ما هو إلا غطاء لتعريب المجتمعات غير العربية, وهنا نتساءل:
1 – إن الإسلام انتشر في كثير من البلدان غير عربية فما هي نسبة المسلمين العرب بين المسلمين عامة ؟.
2-كيف نفسر إقبال الأوروبيين الأصليين على الإسلام وهم غير عرب؟. 3-لماذا لم يسد العرب قبل مجيء الإسلام ويتوسع نفوذهم ليعم أرجاء كثيرة من العالم؟. إن الإسلام أحدث انقلابا في المفاهيم والتصورات عند العرب ولذلك قال عمر بن الخطاب “لقد كنا قوما أذلاء فأعزنا الله بالإسلام وإذا طلبنا العزة بغير الإسلام أذلنا الله”. 4-بأية صفة فتح طارق بن زياد الأندلس هل بصفته الإسلامية أو بصفته العرقية؟ 5-ما هو الأساس الذي جاهد على ضوءه محمد بن عبد الكريم الخطاب رحمه الله وقاتل جيوش الاحتلال الأجنبي هل بصفته الإسلامية أم العرقية ؟ 6-وما الذي دفع المختار السوسي رحمه الله إلى كتابة ذلك المشروع الضخم الذي يناصر فيه الإسلام واللغة العربية هل دفعه إلى ذلك عقيدته أم انتماؤه العرقي؟. إن الذين يتبنون دعوى الجاهلية ويناصبون العداء للإسلام ويتهمونه بالخرافة والأساطير سيفشلون كما فشل كثير من التصورات القائمة على القومية كالقومية العربية وغيرها، وقد انكشفت حقيقة أمرهم ورؤيتهم بعلاقتهم الحميمية مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، والغريب أن هؤلاء لا يؤمنون بالحق في الاختلاف ولا بالتعددية الثقافية، ويعيش هؤلاء وغيرهم من الذين يتبنون مشروع العداء للإسلام أزمة اللون المعرفي الواحد أو المجال الذي يفكرون من داخله ولا يستطيعون الخروج منه لأن ليس لهم إلمام بغيره من الأنظمة المعرفية وبذلك يفقدون التواصل مع الآخر لأنهم لا يعرفون طريقة تفكيره ونسي هؤلاء أن الثقافة في نهاية المطاف قراءة واعية لنظام الكون والحياة والإنسان ولا يمكن تحقيق الهوية الثقافية في غياب العلم والمعرفة ولذلك ينبغي وضع ثقافتنا في قالب علمي ومنطقي يؤسس على العلم والتربية .ان مسألة الانتماء إلى العرق بدل الانتماء إلى الفكر والقيم والمبادئ ،ان هذا التصور يعود بنا إلى حالة الطبيعة ويبعدنا عن حالة الثقافة بقطع النظر أنه يدعو بدعوى الجاهلية واعتبار القبيلة والعرق هما الميزان الذي يقتضي الحال الاحتكام إليه. انه تصور يرجع بنا إلى عهود الظلام والجهل والتخلف. ان المسألة ينبغي أن تتجسد في تحسين أوضاع الناس الفكرية والثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية من أجل أن تسود عدالة التوزيع ،وأن يستفيد كل الناس من خيرات بلادهم وخدماتها دون استثناء ولا ينبغي أن تبقى هناك مناطق محرومة وأخرى واجدة ،لأن بقاء الأمر على هذه الحالة ينسف مبدأ العدل والمساواة بين الناس، أما الإفتراء على الإسلام فلا يضر إلا المفترين لأنه ناشئ عن الجهل به ومواقفهم اتخذت عن عدم دراسته وقراءته، بخلاف الذين اعتنقوا الإسلام في الغرب جاءوا إلى الإسلام عن طريق معرفته بعد دراسته. والأحكام التي أسست على الجهل لا تتجاوز اللحظة التي صدرت فيها فالذين يدافعون عن التوجهات العنصرية فهم لا يريدون إحياء تراث ثقافي لأنه كان موجودا أصلا وإنما يهدفون وراء طرح هذا المشروع إلى محاربة الإسلام كما أوعز لهم ذلك الذين كلفوهم بالمهمة . إن الإسلام كان هو الوقود الوحيد الذي استند عليه المجاهدون في حرب التحرير من الاستعمار الغربي وإديولوجيته التخريبية ،وهو الذي يمثل ذاتية الأمة وكينونتها، واستمرار الأمة باستمراره والذين يريدون اقتلاعه من الجذور إنما يريدون النهاية للأمة. ولم يقف الأمر عند هذا التيار فدعاة التغريب يوزعون الأدوار حسب الاستراتيجية التي يتحركون عليها والهدف هو تخريب المجتمع من الداخل ونشر ثقافة الانحراف والفشل في الحياة. كما قال إخوان الصفا “سيطروا على النفوس لتسهل لكم السيطرة على الأبدان” وفي كل مرة يطل علينا أحدهم برأسه، وهكذا طرحت مسألة العلاقات الرضائية كجواز مرور لإباحة الزنا وتعاطي الرذيلة وممارسة العهارة وهو الأمر الذي يجعل من المرأة شيئا من الأشياء الفاقدة للكرامة الإنسانية وبذلك تعود إلى حياة الرق والعبودية أو العيش داخل المشاعية البدائيةحسب تصنيف ماركس للمراحل التي مر منها المجتمع الأوروبي بقطع النظر أن هذا الأمر مناقض لمنطق الحياة القائمة على النظام والانضباط. وهنا نريد أن أطرح الأسئلة الاتية: كيف يفسر أصحاب هذا التوجه أن أكثر من 75% من معتنقي الإسلام من الأوروبيين الأصليين إناث؟ 1-ولماذا لا يتم الحديث عن أصحاب هذا الاتجاه عن الحق في التشغيل والعلاج والتعليم والاستفادة من الثروة والتمتع بالعدل والمساواة والحق في المعاملة الحسنة ؟ ولماذا لا يتم الحديث عن الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي مجال البحث العلمي؟ لماذا يقتصر الحديث عن الحداثة فقط في مجال القيم والعقائد من أجل تخريبها ؟ ولم يقف دعاة التغريب عند هذا الحد بل تجاوز مكرهم إلى القرآن باعتباره تراثا يستغرقه الزمان والمكان ،وهذا خلط في المفاهيم إما عن جهل وسذاجة وإما عن عمد وسبق إصرار وهو ما حصل عندهم بالفعل فالتراث ما أنتجته عقلية بشرية في ظرفية تاريخية معينة وهو بذلك يرتبط بالزمان والمكان ككل منتوج بشري .أما القرآن فهو ليس بتراث لأنه وحي سماوي لا يستغرقه الزمان والمكان، وما ينطبق على القرآن ينطبق على السنة ودعاة التغريب يريدون أن يجعلوا من القرآن تراثا لكي يتجاوزه الزمان وأحيانا يطلقون عليه اسم القول الديني . وبخلاف الموقف السابق نستطيع أن نؤكد: آن العقيدة الإسلامية صنعت إنسانا إيجابيا وفاعلا ومنتجا ومحبا للخير لكل الناس، فقد دعت اتباعها إلى الاعتماد على الله ثم على ذواتهم في الإنتاج والابتكار والإبداع وصناعة التاريخ ولذلك إن الثقافة الإسلامية لا تناقض الحداثة باعتبارها إبداعا وابتكارا وليست تقليدا واتباعا ،ولا يمكن فصل الثقافة الإسلامية عن السياق العام للإسلام الذي أحدث انقلابا هائلا في المفاهيم والتصورات التي كانت عليها الحياة في الجاهلية. والغريب أن الكثير من الناس تطال ألسنتهم بالنقد الثقافة الإسلامية وتشرئب أعناقهم ولكن أمام الثقافة الغربية ينبطحون وتراهم يرددون تصوراتها ومفاهيمها وينظرون إليها نظرة الكمال والإنبهار والتقديس، وكأنها النموذج المثال الذي ينبغي أن يحتذى به فهم يعتبرونها سلفهم الصالح. فدعاة التغريب لا يؤمنون بالحق في الاختلاف ولا بالحوار العلمي وإنما وسيلتهم الوحيدة هي إقصاؤهم من يخالفهم الرأي والتصور وكأنهم البديل الأوحد للعصر، ولكن عليهم الدخول إلى عالم المعرفة والاطلاع على ثقافة الآخرين ليدركوا ماهم عليه من الجهل. وعلى دعاة التغريب أن يعلموا أن الغرب لا يقيم وزنا إلا للأقوياء ولا يحترم إلا من يقف أمامه موقف الند للند، أما الذين يفكرون بعقليته وليست لهم الارادة الحرة والمستقلة وإنما يمثلون عقلية التبعية والإنبطاح فهؤلاء ليس لهم تقدير واحترام عند الغرب فعلاقته بهم هي علاقة العبد بالسيد. وهكذا كان أذناب الاستعمار وعملائه وعندما حان وقت الرحيل لفظهم، ويحكى أن هتلر سئل يوما عن أحقر الناس صادفهم في حياته فقال: الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم . وانطلاقا مما تقدم يمكن طرح التساؤلات الآتية: -ما هي نوعية الثقافة التي يبشر بها دعاة التغريب؟ وأية حقوق وأي إنسان يتحدثون عنه ؟وهل يتحدثون عن العدالة الاجتماعية وأحقية توزيع الثروة ومحاربة الفقر والظلم والفساد والاستبداد والعبودية والحيف والتفاوت الطبقي؟. -و أيّة ثقافة هذه التي تدعو إلى الإباحية بكل أنواعها وأشكالها وتدعو إلى التبعية والإنهزام؟. -وهل دعاة التغريب يدعون إلى ثقافة تساعد على البناء والمحبة أم ثقافة تدعو إلى الكراهية والتخريب؟. إن الغرب هو منشأ الحركات الاستعمارية التي حيونت الشعوب الضعيفة ولا ينبغي غض الطرف عن هذه القضية أثناء مناقشة الثقافة الغربية وحمولتها الفكرية: ثقافة الاستعلاء والاستكبار والامتياز الاستثنائي كما يذهب إلى ذلك (فوكوياما) .ولذلك فالثقافة الغربية هي اديولوجية الاستعمار .ومن ثم إن الحرية وحقوق الإنسان التي ينادي بها الغرب تتعلق بمجتمعه فقط ولا يريد أن تستفيد منها بقية الشعوب إلا إذا كانت مجسدة لوجهة نظره: يدعون إلى حقوق الإنسان في أوطانهم ويساعدون الطغاة في البلاد التي يحكمونها ليستفيدوا من خيرات تلك البلاد . إن معتنقي الثقافة الغربية الذين يفكرون من خلال منظومتها الفكرية لديهم القابلية والاستعداد للاستعمار نظرا لما غرس في ذواتهم من عقلية التبعية .ولكن المشكلة اليوم لدى الغرب بخلاف أتباعه المقلدة هو مسألة الهوية فقد أصبحت شغله الشاغل نظرا لمشكلة الهجرة من جهة وتزايد أعداد الأوروبيين الأصليين المعتنيقين للإسلام من جهة أخرى .وأصبحت أمريكا تعتبر الإسلام هو الذي يمثل الخطر عليها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ،والغرب إجمالا أضحى يخشى أنهيار هويته أمام الإسلام فالغرب دائما يفترض عدوا خارجيا لكي يحافظ على هويته ولذلك فهو يرفض مسألة التعددية الثقافية حفاظا على هويته ولذلك إن الذين يبشرون بثقافة الغرب وأسلوبه في الحياة يرفضون بدورهم التعددية الفكرية والثقافية ،وهذا ما يفسر إقصاؤهم للآخر ،والغريب أن الغرب يتخذ مثل هذه المواقف وهو مهد الفلسفة القائمة على احقية الاختلاف باعتبارها أنساقا متقابلة .ومما يعقد أزمة الثقافة هو استفحال المرض الجهل فالجهل هو العدوى التي تنقل الأمراض والعاهات الاجتماعية من جيل إلى جيل وهو الممهد للقابلية للاستعمار ،وللعلم فإن الجاهل ليس هو الشخص العدمي الذي لا يعرف شيئًا وإنما الجاهل من كانت أفكاره وتصوراته مغلوطة ،وهذه مشكلة أصحاب اللون المعرفي الواحد الذين يعتبرون أنفسهم يمثلون الحقيقة في حين أن الواقع الذي يعيشون فيه يعج بتناقضات فكرية متعددة مما يستوجب عليهم الإلمام بها وتلك هي مأساة الثقافة عندنا. وهنا يطرح السؤال: أي تربية وأية معرفة يمكن أن تقدمها الثقافة القائمة على الإقصاء والوصاية؟ إن تنظيم المجتمع وتقدمه وتنميته لا يمكن أن يتحقق إلا ببناء منظومة القيم القائمة على الاستقامة والاستقلال الثقافي. إن الالتزام بالأخلاق والقيم كضامن لاستمرارية البعد الإنساني مسألة أساسية لأن دور الأخلاق في بناء المجتمع دور محوري فالذين يدعون إلى التحلل من الأخلاق الإسلامية إنما يهدفون إلى تهديم البناء الاجتماعي. وهنا تظهر الحاجة إلى إصلاح التعليم وبنائه من أجل تنظيم المجتمع وتقدمه وفي هذا المجال تبدو مسئولية المثقف واضحة وجلية. فهل أصبح للمثقف اليوم رسالة يؤديها في خدمة المجتمع والعلم والمعرفة، وتربية الإنسان وتحقيق الكرامة الإنسانية؟ وهل يمكن للنهضة أن تتحقق في ظل ثقافة الميوعة والإنحلال وغياب الهوية الثقافية ؟ لا يمكن للنهضة أن تتحقق إلا بوضوح الرؤية القائمة على بناء الذات والاعتراف بها ورفض التبعية والإقرار باستقلال الإرادة ولا يمكن للنهضة أن تتحقق باجترار مفاهيم الفكر الغربي فهناك من يعيش الوهم والسراب في مخيلته ويتصور أنه يعيش في عالم الواقع ويتحدث عن التطور والحداثة وهو غارق في الوحل في كل تفاصيل حياته، وبدل أن يبحث عن الثقافة البانية من أجل الخروج من التخلف يروح ويغدو مردداً مقولات لا علاقة لها بالواقع الذي يعيش فيه.


