عجيب أمر هذه الدنيا.. الفرصة الكاملة والأكبر كانت في تونس، لكنها ضاعت بصورة محيرة، وفي المقابل واجه المغرب خطرا محدقا تحول إلى ربع فرصة سجل منها هدفا، كان كافيا ليبقي المغرب -للأسف وحيدا عربيا- على طريق الإصلاح، بينما تاهت تونس في سكة تنازع الغنائم وتقاسمها وتطبيع الأوضاع والتكيف مع الواقع.
نجح المغرب بأقل التكاليف وبحكومة محدودة الصلاحيات، وفشلت تونس رغم الثمن الباهظ وبنظام أتت به ثورة ليحقق أهدافها.
النجاح هنا يعني حيوية التجربة وصحة المسار وتقدم البلاد بخطى ثابتة ومتلاحقة باتجاه الإصلاح والنهوض، مدفوعة بمشروع وطني واضح يحمله تيار جاد وصادق في وطنيته وحرصه على الناس، تحت قيادة حازمة لطالما تسبب غيابها في فشل التجارب العربية.
سنن صارمة تحكم نجاح التجارب وفشلها وصعود الأمم وسقوطها، والدارس للتجربة الإسلامية المغربية يجد فوارق جوهرية مع نظيراتها، ويجد أن تلك الفوارق هي نفسها أسرار النجاح، وتجنب المطبات التي أطاحت بالتجارب الإسلامية الأخرى أو أعاقتها.
التميز بدأ مبكرا وطال المقاصد والمنهجية. فهذا تيار إصلاحي مغربي أصيل، فصل مبكرا بين الحركة والحزب. الخيار الإصلاحي فك الارتباط بين المشروع وبين الحكم، فالغاية هي الإصلاح وليس الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
أصّل قادة التيار لهذا الخيار وتشبثوا به، فتخلصوا من هاجس إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية الذي طبع فكر وخطط وعمل الحركات الإسلامية لعقود، وقادها في اتجاه آخر كارثي، واقتصر التنوع والتجديد بينها على الوسائل والتكتيكات والخطاب.
تبنى تيار العدالة والتنمية منهجية الإصلاح في إطار الاستقرار مع إعلاء المصلحة الوطنية، واعتماد العمل العلني القانوني، والوضوح في الطرح والمبدئية والحسم في المواقف، وهي منهجية تفرد بها في كل عناصرها تقريبا، بينما راوح نظراؤه بين التغيير بأي وسيلة والاستقرار بأي ثمن، وطغت على أدائهم السرية والغموض والتذبذب، وهو ما أعجزهم عن القيادة والريادة.
وركز التيار مبكرا على المغرب فتجذر في التربة المغربية وتناغم المشروع والخطاب وحتى المظاهر مع الثقافة المغربية، وغلب البعد الوطني على البعد العالمي، فتجنب مطبات ومتاهات التناقضات الإقليمية والدولية، وإكراهاتها وشبهاتها.
أسقط الإسلاميون المغاربة الحكم كغاية فسقطت المنظومة التي يشكل الحكم فيها حجر الزاوية، وبنوا لأنفسهم منظومة أخرى؛ إصلاح المجتمع وتقدم الوطن فيها الغاية ومعيار التقييم، والحكم بل والحزب نفسه مجرد وسائل.
بسقوط الحكم كغاية تقلصت أهمية التنظيم كوسيلة، وادخر التيار الجهود المضنية التي تستنزف التنظيم الحديدي تجنيدا وصهرا وصيانة وتحصينا، فتركز الاهتمام والخطاب على الوطن والشعب، وتركزت الجهود على إقناع الناس بالمشروع وبالمنهجية.
الإصلاح في حدود المستطاع خلص القيادة من الضغوط والتشنج والتسرع، وألغى الحاجة للسرية، فسلم التيار من آثارها المدمرة، وعلى رأسها التوسع في التدليس والتقية (سياسيا واجتماعيا)، الذي أضر كثيرا بالنفوس وبالمصداقية، وأوقع الجماعات في الازدواجية، وحولها إلى شبه طوائف.
كلمة السر في تميز التيار الإسلامي المغربي ومسيرته هي الصدق.. نعم الصدق في القول والوطنية والحرص على الناس، وفي التواضع وممارسة الديمقراطية فيما بينهم ومع الآخرين.. الصدق في كل الأحوال ومهما كان الثمن. الصدق يثمر الوضوح والشفافية واتساق المواقف، ومن ثم الثقة في النفس وثقة الناس وتجاوبهم، وتلك شروط لا غنى عنها في قيادة التغيير.
إعلاء مصلحة الوطن والشعب لم يكن مجرد غلاف لتسويق مواقف تحددها الإملاءات الخارجية أو المصالح الشخصية والحزبية، بل كان مبدأ لم يحد عنه قادة التيار في وجه الاستفزازات والإغراءات وهم في المعارضة وهم في السلطة.
المعادلة صعبة ولا يقدر عليها إلا من تسلح بالصدق والشجاعة وتحصن بالزهد في السلطة وكان مستعدا للتضحية بالشعبية وبالحزب وبنفسه إن اقتضى الأمر، ذلك أن القرارات التي تحقق للوطن التحرر والنهوض وتخدم مصلحة الشعب على المدى البعيد مؤلمة للناس، وتقف في وجهها بقوة لوبيات وأصحاب المصالح والنفوذ في الداخل والخارج، ولذلك تتهيبها الأحزاب وتستسهل طريق الخلاص الفردي والحزبي.
اختُبر حزب العدالة والتنمية بالسلطة فنجح، كان الفوز بالانتخابات لحظة إقلاع وليست لحظة وصول، لم نر حالة النشوة والاسترخاء، ولم نر أي تغير في المواقف أو السلوكيات، بدأ فورا وبكل حزم وبلا هوادة في حشد الشعب لإحداث ما تقتضيه مصلحة الوطن وما وعد به من إصلاحات، والتصدي للملفات الحارقة. البداية كانت النجاح في الامتحان الأكبر، امتحان التعيينات والتوظيف العمومي، الذي مهد لباقي النجاحات. ببساطة اعتمدت الكفاءة والتزمت الشفافية، النتيجة كانت رصيدا كبيرا من المصداقية والثقة الشعبية عزز موقف الحكومة ووظفته لخوض المعارك اللاحقة في مسيرة الإصلاح.
ويعتبر الخبراء وجود نظام شفاف يضمن تكافأ الفرص والمنافسة الشريفة، ومن ثم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب خطوة مفصلية في تقدم الأمم، وغيابه سببا رئيسيا في تخلفها.
ثم تصدت الحكومة الائتلافية بقيادة العدالة والتنمية لأزمة الإضرابات العشوائية فعالجتها بسياسة الاقتطاع من الأجور التي فرضت حل المشاكل بالتفاوض، فكان أن استكملت المناهج الدراسية لأول مرة بعد سنوات.
ثم فتحت الحكومة ملف الدعم أو صندوق المقاصة الذي يثقل ميزانية الدولة بالعجز وينذر بكارثة مؤجلة، رفضت الحكومة سياسة الترقيع والترحيل والاقتراض، واختارت مصارحة الناس بالحقيقة المرة وإقناعهم بضرورة الدواء المر، ومرت الخطوة التي طالما سببت انتفاضات شعبية بسلاسة، ومثل ذلك تأكيدا لحقيقة أنه لا إصلاح بلا مصداقية وشفافية وثقة، وتأكيدا لسلامة المراهنة على المشروع وعلى الشعب رغم مخاطرها، في مقابل المراهنة على الحكم التي ثبت فشلها رغم إغرائها.
وبنفس المنهجية والإقدام والدوافع الوطنية فتحت الحكومة ملف التقاعد، وأحدثت الإصلاحات المطلوبة، وكان يسعها ألا تفتحه لأن إفلاس صندوق التقاعد مؤجل. ومن اللافت أن مسألة التقاعد طرحت قبل الانتهاء من مسألة الدعم مما يعكس وعيا بأهمية الحفاظ على المبادرة والزخم في القيادة والتغيير. ومن اللافت أن التبشير بالإصلاحات الصعبة بدأ خلال الحملة الانتخابية، مما أعاد السياسة إلى أصلها، أي أن يعرض المرشح الحقائق وبرنامجه بصدق ووضوح، فإذا انتخبه الناس (أي فوضوه) بادر إلى تنفيذ برنامجه، في وقت أصبحت السياسة فيه تعني الكذب والدعاية والتضليل.
وفي خطوة رمزية جسدت معاني التواضع والوفاء والزهد في السلطة قرر رئيس الحزب بعد توليه رئاسة الحكومة أن يظل مقيما في بيته المتواضع وأن يظل بيته مفتوحا للناس وأن يظل فترة طويلة بلا حراسة قبل أن يتخذ حراسة بسيطة. وقد عكست الحملة الانتخابية الأخيرة بساطة وتواضع الحزب وقادته والتصاقهم بالشعب، حيث ظلوا بعد السلطة على حرصهم الصادق على الناس خصوصا الطبقات الفقيرة، وقد كان تغير السياسيين بعد السلطة وتنكرهم لمبادئهم وللناس من العوامل التي أحبطت الشعوب وأفشلت التجارب.
لم يتلهف قادة العدالة والتنمية على السلطة ولم يتعلقوا بها، ولم يرتهن قرارهم لا للخارج الضامن ولا لمن يمول، فاستطاعوا أن يتمسكوا بمشروعهم وبمنهجيتهم، وأن ينفذوا ما يؤمنون به وما وعدوا به، لا ما يملى عليهم أو ما يبقيهم في السلطة.
ومن بين القرارات الجريئة والكاشفة قرار عدم استعمال خط الائتمان الذي فتحه صندوق النقد الدولي للمغرب بـ6.2 مليار دولار، حتى لا يتحول إلى قرض رغم أنهم كانوا مقدمين على انتخابات محلية ساخنة، في سابقة لا يقدم عليها إلا حزب صادق في حرصه على المال العام وعلى مستقبل الوطن والشعب.
وفي المقابل أول ما سمحت الميزانية بادرت الحكومة بإقرار زيادة معتبرة في منحة الطلاب وفي الحد الأدنى لمنحة التقاعد، وإقرار راتب شهري للعائلات التي فقدت المعيل، وتوفير التأمين الصحي لكثير من المحرومين، وكان ذلك مؤشرا على الاهتمام بالشرائح الضعيفة، والجدية في تحقيق العدالة الاجتماعية.
أما على المستوى الداخلي فقد تفرد الحزب عربيا بالممارسة المؤسسية الديمقراطية، هذا حزب لا يملكه أحد، وفيه تداول حقيقي على المسؤولية، وعلاقة العضو بالرئيس أو القيادة لا تنفعه ولا تضره بشيء، وكل القرارات والإجراءات خاضعة لمساطر صارمة لا يملك أحد أن يلتف عليها، فلا آليات موازية للقرار ولا معطيات تحجب عن المؤسسات والقيادات فيصبح دورها في صنع القرار شكليا، على عكس الديمقراطية الشكلية المشوهة التي تمارسها الأحزاب العربية، حيث يظل التمويل الثقيل والعلاقات الخارجية والمعطيات الحساسة حكرا على دائرة ضيقة جدا، ومن يملك المال والمعلومة يملك القرار ويمسك عاجلا أم آجلا بمفاصل الحزب.
هذه المنهجية بكل عناصرها جعلت الحزب يقف على أرضية صلبة لخوض معركة الإصلاح، فالرهان على المشروع وعلى الشعب وإعلاء المصلحة الوطنية والزهد في السلطة، والشفافية وديمقراطية القرار واستقلاله واتساق المواقف، كل ذلك جعل الحزب ليس لديه ما يخشاه أو ما يخفيه. والصدق والتواضع والحرص الصادق على الشعب مكن الحزب من الالتحام بالشعب الذي ظلت ثقته في الحزب تتعزز وتتعاظم، حتى أصبح الحزب الأول، في منافسة أحزاب عريقة ومتجذرة وزعامات من الوزن الثقيل.
بقي أن نشير إلى أن حزب العدالة والتنمية المغربي تعرض خلال مسيرته إلى اختبارات صعبة تجاوزها بامتياز، أولها كان الاكتفاء بالمشاركة الجزئية في السلطة لفترة طويلة لإعطاء الفرصة لأعضائه للتمرس واكتساب الخبرة، فلما وجدوا أنفسهم يقودون، تميز أداؤهم بالنضج والنجاعة، وقد كان القفز المفاجئ على السلطة أحد الأسباب في فشل العديد من الأحزاب.
ثاني الاختبارات كان على إثر تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو/أيار 2003 حيث تعرض الحزب لحملة شرسة من قبل أطراف نافذة من أجل شيطنته تمهيدا لحله، لم يستجب الحزب للاستفزاز، ولم يحد عن ثوابته ومنهجيته وإستراتيجيته، وقد كان الوقوع في فخ الاستدراج من العوامل التي أربكت مسيرة كثير من الأحزاب.
ثالث الاختبارات كان وصول الربيع العربي للمغرب بالدعوة إلى مظاهرات في 20 فبراير/شباط 2011. كان ذلك الاختبار الأخطر لمنهجية الإصلاح في إطار الاستقرار، وأي حزب مكانهم كان سيغلب المصلحة الحزبية ويتخذ أحد المواقف السهلة المعهودة، فإما ركوب الموجة أو اتخاذ موقف غامض حمال أوجه أو حياد وانتظار.
أعلن الحزب موقفه كالعادة بلا تأخير أو تردد أو مواربة. قدر أن المظاهرة تفتقد إلى الوضوح في القيادة والخطة وسقف المطالب، وأنها بالتالي تمثل قفزا نحو المجهول، فقرر عدم المشاركة. وفي المقابل قاد حملة قوية لتعبئة الشعب من أجل الإصلاح في مواجهة التحكم والفساد. كان موقفا وطنيا مبدئيا تاريخيا، قطعا كان الخيار الأصعب، فيه مغامرة بالحزب التزاما بالمبادئ وإعلاء لمصلحة الوطن، ولكنه مهد لإنقاذ المغرب من مغامرة تعصف بالاستقرار ولا تأتي بالإصلاح.
أما رابع وأصعب الاختبارات فكان اختبار السلطة التي طالما غيرت وأفسدت أحزابا وشخصيات دخلوها بلا مناعة وحصانة. ثبت الحزب على المشروع والمنهجية والخطاب، على عكس الأحزاب التي تاهت عندما اقتربت من السلطة، فوقعت في مطبات كثيرة من مطب التمويل إلى الارتهان للأجندات الإقليمية والدولية، واتسم أداؤها بالتذبذب وخطابها ومواقفها بالتقلب والتناقض، وظلت تتكيف مع الواقع حتى أوشكت على التحلل والتفسخ، مضحية في سبيل السلطة بهويتها ومشروعها ورصيدها ومستقبلها، وبالسيادة الوطنية وتطلعات الشعب.
لا شك أن المغرب لم يصبح دولة متقدمة، وأن طريق الإصلاح مازالت طويلة وشاقة ومليئة بالمطبات، ولكن قطعا نحن بصدد تجربة عربية فريدة وواعدة لحزب إسلامي.
لم تكن الإصلاحات التي قام بها الحزب ضخمة، ولكنها خطوات جريئة ومتلاحقة في مجالات مختلفة أشرت لما هو قادم وكشفت جديته في الإصلاح الجذري ولو بتدرج، وأكدت صدق الوطنية والحرص على الشعب وصوابية المنهجية والمسار، وعززت مصداقية الحزب وثقة الشعب فيه، وأرسلت رسائل وإشارات واضحة وقوية تلقفها الشعب ورد التحية بأحسن منها.