الجنون بالكتب

05 نوفمبر 2025 17:57

هوية بريس – دة.صفية الودغيري

إن عُشْاق الكُتُب قد يتعبون ويشقون كما يتعب ويشقى العُشّاق بعشقهم، وولههم وجنونهم بمعشوقتهم، فيروا فيها من سمات الجمال ما لا يراه غيرهم، وقد يضلّون السَّبيل بهيامهم وجنونهم، فتراهم هائمين شاردين في معبودتهم، فالحبُّ إذا انفرط عن عقد الاعتدال والاتِّزان، ولم يُلْجِمْه العقل بلجام الدّين والأخلاق، صار وبالاً وهلاكًا وجنونًا، ودفع أصحابه إلى ترك عظائم الأمور والانشغال بما دونها..

كذلك شأن عُشّاق الكُتُب قد يتعبون ويشقون بحملهم الكُتُب فوق رؤوسهم، وفوق ما يستطيعون ويتحمَّلون، وفوق روحهم وراحتهم وريحانهم، وفوق فروضهم ومسؤوليّاتهم وأشغالهم وواجباتهم..

وهذا حال كلّ من يُغالي في حبِّه وعشقه وارتباطه بأيِّ شيءٍ بهذه الدُّنيا الفانية، وإذا جاوز الشَّيء حدَّه انقلب إلى ضدِّه . وقد سجَّل لنا التّاريخ حال الكثيرين من عُشّاق الكُتُب، وما جوَّزوه وأباحوه لأنفسهم بسبب عشقهم وجنونهم بالكُتُب، من نظير سرقتهم للكُتُب أو حرقهم لمكتباتهم أو مكتبات غيرهم…

بَيْد أنًّ المحبَّة الحقيقيَّة للكُتُب أو غيرها لابدَّ أن تَحْتَكِم وتَعْتَضِد بمحبَّة الآداب والأخلاق والعلوم والمعارف، وأن لا تتمكَّن منها الأنانيَّة والغيرة، فيغتبط أصحابها بما يظفرونه، ويحقدون على من ظفر بما لم يظفرونه من الكُتُب، إذا لم تُسْعِفْهُم جيوبهم وأموالهم، أو لم يقسم لهم القدر أن يَحْظوا بنصيبٍ منها أو بمثلها..

بل المُحِبُّ الصّادق للكّتُب هو من يغتبط بما مَلكَه غيره من مَغانِم الكُتُب، ويَأْمَل ويسعى إلى الحصول عليها، وأن يكون مقصده الأسمى هو الانتفاع من ورائها، وانتفاع غيره بما يغنمونه، وأن ينفع غيره بما أدركه وحصَّله من مغانم الكُتُب..

ولقد قرأت في مجلة المقتبس فصلاً يتحدَّث عن عُشّاق الكُتُب وعن حالات من جنونهم، ويذكر قصص بعضهم، منهم ما يلي:

* أنًّ أحد عُشّاق الكُتُب أقرَّ يوماً في إنكلترا واسمه ديبدن (1776_1847) أنَّه هَمَّ يوماً أن يسرق، وحَمِد الله على أن خَلا بنفسه في خزانة كُتُب ستراسبورغ، ولم تحدِّثه نفسه بسرقة كتابٍ منها.

* وأنَّه خطر على بال رجلين في إنكلترا أن يطبعا لأنفسهما خاصَّةً كتاباً، يكون آيةً في طبعه ووضعه وصوره وورقه وتجليده، ولم يطبعا منه غير نسختين، فحدَّث أحدهما نفسه بأن يذهب إلى دار صاحبه ويستأثر دونه بالنُّسخة، فيسرق بعض صُوَرِها حتّى تكون نسخته هي الَّتي يرجع إليها، فراحَ في غياب صاحبه إلى زوجه، وطلب إليها أن تريه النُّسخة لغَرضٍ بَدا له، فدَفَعَتْها إليه وجعل يُقَلِّبُها مهتمّاً بأمرها، ثمَّ اسْتَغْفَلَها فمَزَّق بعض صُوَر الكِتاب، وجعلها في جيبه وانصرف فلمّا عاد صاحِبُه ارْتابَ في مَجيء صاحِبِه، وقَلَّب أوراق الكِتاب فرأى ما فعله، فرفع عليه قضِيَّةً حَكَمَت له فيها جمعِيَّة الكُتُب بأَلْفَيْ جنيه تعويضاً.

* وقد راودت أحد هؤلاء الغُلاة يوماً نفسه أن يحرق مكتبته، بعد أن زار مكتبة الدّوك دومال ابن لويز فيليب أحد ملوك فرنسا المُتَوفّى سنة ١٨٩٧م، إذ مَزَّق الحَسَد والطًّمَع والغَيْرَة أَحْشاء ذاك الرَّجُل.

* ومن غرائب هؤلاء العُشّاق غليوم بودي (1467-1540) قال: إنَّه اغتنم الفرصة يوم عرسه فمَرَّ بكُتُبِه قبل أن يَبْني بعُرْسِه، ومع هذا رُزِق بالبَنين والبَنات، وهو الَّذي يُرْوى عنه أنَّ خادمه جاءه يوماً وهو يلهث فقال: أنَّ لسان اللَّهيب أخذ يَنْدَلِع على البيت، وكان أمام كُتُبِه بالطَّبع، فأجابه: قُلْ لزوجي، وهل لا تعرف أنَّني لا أتدخَّل في أمور المنزل.

يتبع (….)

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
8°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة