الحاجة إلى طبقة وسطى
هوية بريس – ابراهيم أقنسوس
الوضع الطبيعي والعادي، الذي تحرص عليه الدول المتقدمة، والتي يهمها أن تكون متقدمة، هو وجود طبقة وسطى معتبرة، تتجه جهود المسؤولين بداهة، إلى توسيعها ودعمها باستمرار، بما يؤدي إلى تمكين شرائح واسعة من المجتمع، من شروط الحياة الكريمة؛ وكلما اتسعت دائرة هذه الطبقة، كلما حاز المجتمع ومعه الدولة بالتبع، فرصا أكبر للنجاح والتقدم، والحضور بين الأمم، لذلك يعتبر الحرص على وجود طبقة وسطى، داخل المجتمع، من المهام الرئيسة التي يضطلع بها، المشتغلون بالشأن العام، لأن الحديث عن الطبقة الوسطى، يعني في النهاية، جل القطاعات الحيوية التي تهم المجتمع، والتي يعول عليها في تحقيق نهضته، وترسيم صورته، الثقافية والمادية، بشكل ناجع ومشرف؛ فعناصر هذه الطبقة بداهة، هم المعنيون قبل غيرهم، بتنشيط الحياة الثقافية والإقتصادية والسياسية في مجتمعاتهم، وهم المعنيون الأول وبامتياز، بنشر قيم التمدن، وترسيم شروط التقدم، عبر حضورهم اليومي والمتميز؛ ويكفي أن نشير إلى بعض القطاعات، التي تستوعب الموظفين والنشطاء، من مختلف المهن والخدمات، ليظهر المعنى؛ نساء ورجال التعليم، رجال ونساء الصحة، الإداريون، رجال ونساء الأعمال، المقاولون والمقاولات، وكل من يمتلك مؤهلات فكرية ومهنية وحرفية، تمكنه من تقديم إفادات نوعية لبلده؛ ما يعني أن الطبقة الوسطى، أو ما يسمى كذلك، هي التي تحدد موضوعيا، وبشكل كبير، منسوب الوعي الثقافي والسياسي داخل المجتمع، وهي التي تتحمل بداهة، دور الوسيط الواعي والمؤثر، بين الجهات الوصية، ومالكي وسائل الإنتاج، وبين عامة المواطنات والمواطنين؛ فحضور الطبقة الوسطى، يعني حضور النقاش الثقافي والسياسي، وحضور المشاريع الفكرية والبدائل التدبيرية الجادة والمتنوعة، وحضور الأحزاب والنقابات، وجمعيات المجتمع المدني، وفي النهاية، حضور المثقفين والعلماء وأهل الرأي والنظر، وغياب هذه الطبقة، أو تغييبها قسرا، يعني غياب كل ما تقدم، أو حضوره بشكل باهت ومشوش ومشوه؛ وغني عن البيان، أن هذه الفئة الوسطى، أو التي كانت وسطى، بلا تدقيق في المصطلح، تعيش اليوم وضعا حرجا، حيث يمضي جل عناصرها، معظم أوقاتهم في الجري وراء توفير أبسط الضروريات، وحيث لم تعد أجرة الشهر تبلغ بهم منتصفه، ما يضطرهم إلى تدبر أمور معاشهم بالكاد، ومعظمهم غارقون وعالقون في مؤسسات القروض، ما حول حياة الكثيرين منهم إلى صعوبات ومآسي لا تنتهي، تقض مضاجعهم، وتستنزف كل طاقاتهم؛ وبالطبع، كان لهذا الوضع المؤسف، أكبر الأثر، على أدوارهم التوعوية والتدبيرية، التي ينتظر أن يضطلعوا بها إن غياب الطبقة الوسطى، والإمعان في الإجهاز عليها، وإغراقها في مطالب اليومي، وفي تدبير البداهات والتفاهات، يعني تقسيم المجتمع إلى فريقين ضدين، غير متكافئين ولا متجانسين، فريق الأغنياء والمترفين والمحظوظين، في جهة، وفريق الفقراء والمعدمين والمبعدين، في الجهة المقابلة؛ وفي النهاية، حرمان المجتمع من طلائعه الثقافية والفكرية والعلمية، التي تعني صورته الرمزية والمعنوية، والتي تعني مستقبله، وحضوره النوعي بين الأمم .