الحاجي الوزاني: هل الحائض يجب أن تفطر في رمضان؟!
هوية بريس – الحاجي الوزاني
منذ ثلاث سنوات على الأقل، وأنا أسمع – بمناسبة هذا الشهر الفضيل – فتاوى مسموعة ومكتوبة تُجيز للمرأة الحائض أن تصوم، وأن صيامها صحيح ولا قضاء عليها، وهي فتاوى مخالفة للمألوف عند جميع المسلمات، غير أن أصحابها يؤكدون أن هذا حكم فقهي شرعه الفقهاء من عند أنفسهم، أما الشرع الحكيم فهو بريء من هذه البدعة التي تحتقر المرأة وتوقعها في العسر والحرج، ومن خلال تتبعي لهذه الفتاوى، سواء داخل المغرب أو خارجه؛ تبين لي أن لها تأثيرا في نفوس بعض المسلمات، أو على الأقل، بدأ الشك يخامرهن في هذا الحكم الشرعي، ومن هنا، قررت مناقشة هذه المسألة لأبين فيها ما يجب بيانه بأسلوب مناسب يستطيع أغلب الناس فهمه، مع الميل إلى الاختصار ما أمكن تحفيزا للقراءة وتجنبا للملل.
والسؤال الذي سأناقشه بالتحديد هو: هل المرأة الحائض في رمضان يجب عليها أن تفطر ثم تقضي بعد ذلك، وإن صامت لا يصح منها؛ أم هي على الاختيار، إن شاءت أفطرت وإن شاءت صامت، وصيامها صحيح ولا قضاء عليها؟
قبل الدخول في مناقشة هذا السؤال؛ يجب الإشارة إلى أن وجوب إفطار الحائض هو رأي جميع الفقهاء والمذاهب كما سأبين، أما الرأي الثاني الذي يقول بالاختيار؛ فهو رأي بعض الدعاة المعاصرين(1) ، وهم فريقان؛ فريق القرآنيين، ورأي هؤلاء لا يحتاج إلى مناقشة؛ لأن إنكار السنة النبوية والاعتماد على القرآن وحده؛ هو نفسه دليل على بطلان منهجهم وفساد آرائهم، لما في ذلك من معارضة صريحة للقرآن نفسه الذي يعتمدون عليه كما يصرحون، وفريق آخر، وهم الذين يسلمون بحجية السنة عموما، غير أنهم يشككون في كل سنة نبوية صحيحة تخالف تصوراتهم، ويتهمون الفقهاء بالتحيز ضد المرأة وتعمد الإساءة إليها، وهؤلاء هم الذين نود أن نناقشهم هنا مناقشة علمية هادئة على الشكل التالي:
أولا: رأي الفقهاء
في جميع المذاهب المشهورة والمعتبرة؛ فإن الحائض في رمضان يجب عليها أن تفطر، وإن صامت لا يصح منها، وهذه أقوالهم:
– في المذهب الحنفي: يقول السرخسي: ” ولا تصلي الحائض ولا تصوم”. (2)
– في المذهب المالكي: يقول ابن عبد البر: “وأجمع العلماء على أن الحائض لا تصلي ولا تصوم ما دام حيضها يحبسها، وأجمعوا أيضا على أنها لا تقضي الصلاة وتقضي الصوم”. (3)
– في المذهب الشافعي: يقول النووي: “ويحرم عليها الصوم، ويجب قضاؤه “. (4)
– في المذهب الحنبلي: يقول ابن قدامة: ” أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم”. (5)
– في المذهب الظاهري: يقول ابن حزم: ” فمتى ظهر من فرج المرأة [ الحيض] لم يحل لها أن تصلي ولا أن تصوم “. (6)
هذا هو الرأي الفقهي في جميع المذاهب، وقد اكتفيت بذكر أقوالهم دون الإشارة إلى مستندهم في المسألة، وذلك لأسباب منهجية وبيداغوجية، لا لأنها دليل بنفسها، إذ أريد من القارئ – خاصة غير المختص – أن يعرف القول الفقهي أولا، ثم بعد ذلك أعرض عليه القول الجديد وحججه، وفي سياق بطلان تلك الحجج؛ سأبين المستند الفقهي في المسألة.
ثانيا: رأي بعض الدعاة المعاصرين
في سياق الدفاع عن المرأة ضد العداء الفقهي تجاهها كما يقولون؛ يُلح هؤلاء الدعاة على المرأة الحائض أن تختار بين الصوم والإفطار، لأنها مخيرة بينهما وليست ملزمة بالإفطار والقضاء، وأهم حججهم في ذلك ألخصها على الشكل التالي:
1. لم يثبت عن صحابي واحد أنه أفتى بفساد صوم الحائض، ووجوب القضاء عليها.
2. وردت أحاديث كثيرة تأمر الحائض بترك الصلاة، ولا يوجد حديث واحد يأمر الحائض بالإفطار.
3. حديث عائشة الذي أخرجه مسلم (.. فكنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، وهو عمدة الفقهاء؛ حديث ضعيف، وسبب ضعفه هو:
– الإمام الزهري لا يعرفه كما في مصنف عبد الرزاق.
– الإمام مالك لم يخرجه في الموطأ، فهو أيضا لا يعرفه.
– الإمام البخاري أيضا لم يخرجه في كتابه الصحيح.
4. على فرض صحة هذا الحديث فهو حديث آحاد يفيد الظن وليس اليقين، ومثل هذا الحكم لا يمكن بناؤه على دليل ظني.
هذه هي أهم الحجج التي استدل به هؤلاء الدعاة، وهي في نظرهم قوية متماسكة تستطيع أن تهدم الرأي الفقهي المشهور، غير أنها حجج واهية لا تصمد أمام النقد العلمي الموضوعي، وإليك بيان فسادها على الشكل التالي باختصار.
الحجة الأولى: صحيح أنه لم يثبت عن أحد الصحابة أنه أفتى بوجوب إفطار الحائض؛ لكن هل ورد عن واحد منهم أنه اعترض على هذا الحكم، وأفتى لها بالصيام وعدم القضاء؟ هذا ما لم يثبت علما أن هذا الحكم كان مشهورا ومعلوما عندهم.
الحجة الثانية: إن عدم ورود حديث صريح في وجوب إفطار الحائض في رمضان، كما ورد في ترك الصلاة؛ لا يستلزم بطلان الرأي الفقهي المجمع عليه، ذلك أن الصلاة يومية ورمضان سنوي، فشيء طبيعي أن يكثر السؤال عن الصلاة ويقل في الصيام، كما أن الحديث الصحيح الذي سنتحدث عنه بعد قليل، وهو ( فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)؛ فيه إشارة قوية إلى أن الحيض يبطل الصيام كما يبطل الصلاة، غير أن الصيام فيه قضاء والصلاة لا قضاء فيها، ولذلك لم تستسغ معاذة هذا الحكم التعبدي، فسألت عائشة رضي الله عنها ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة كما في الحديث.
الحجة الثالثة: في صحيح مسلم عن معاذة، قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة. فقالت: أحرورية أنت؟(7) قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: «كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (8) ، هذا الحديث رغم أنه أخرجه مسلم في صحيحه إلا أن هؤلاء الدعاة ضعفوه بدعوى أن الإمام مسلم انفرد به ولا يعرفه أئمة الحديث الكبار، مثل: الزهري ومالك والبخاري !
والحقيقة أن هذا تدليس على عوام الناس، فالحديث لم ينفرد به الإمام مسلم؛ بل أخرجه عبد الرزاق في مصنفه تحت رقم: 1277، وإسحاق بن راهويه في مسنده تحت رقم: 1385، والإمام أحمد في مسنده تحت رقم: 25951، والنسائي في سننه تحت رقم: 2318، والبيهقي في سننه تحت رقم: 1475، وأبو عوانه في مستخرجه تحت رقم: 941، وغيرهم أيضا.
أما أن الأئمة الثلاثة الكبار -الزهري ومالك والبخاري- لا يعرفونه؛ فهذه أيضا مغالطة، إذ من المجمع عليه عند المحدثين والمختصين في هذا الشأن؛ أن الحديث الصحيح الذي يحتج به ليس من شروطه أن يعرفه الزهري، أو مالك، أو البخاري، وإلا فهو حديث ضعيف، كما أن الحديث الصحيح ليس محصورا في كتب الصحاح، هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ فالأئمة الثلاثة المشار إليهم ليس صحيحا أنهم لا يعرفون هذا الحديث؛ بل يعرفونه معنى وصح عندهم ذلك، ودليل ذلك أن الحائض عندهم يجب أن تفطر، فالإمام الزهري كما في مصنف عبد الرزاق تحت رقم 1280 عن معمر عن الزهري قال: ” الحائض تقضي الصوم ” قلت: عمن؟ قال: ” هذا ما اجتمع الناس عليه، وليس في كل شيء نجد الإسناد”، فالزهري إذن يحكي الإجماع في المسألة، لكن للأمانة العلمية صرح بأنه لا يوجد عنده سند، وهذا ليس حجة في رد الحديث.
أما الإمام مالك فهو أيضا من القائلين بوجوب إفطار الحائض، ففي المدونة سئل ابن القاسم عن الحائض: ” فإن كانت صائمة فحاضت في رمضان؛ أتدع الأكل والشرب في قول مالك في بقية يومها؟ فقال: لا، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم” (9)، أما فقيه الحديث الإمام البخاري فمذهبه أيضا وجوب الإفطار، ففي صحيحه يقول: ” باب ترك الحائض الصوم “، وتحته أخرج حديثا تحت رقم: 304، وفيه: ” أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم”. وإذن كيف يصح القول بأن هؤلاء الأئمة الثلاثة لا يعرفون هذا الحديث وهم يعملون به؟ !!
الحجة الرابعة: أما هذه الحجة فهي أوهن الحجج، بل هي دليل على الجهل المركب، إذ لو كان الحكم الشرعي لا يعمل به إلا إذا كان يقينيا ثبوتا ودلالة؛ لما صلينا ولا زكينا ولا توضأنا..، بل حتى كثير من الأحكام الواردة في القرآن ليست قطعية على مستوى الدلالة، وإذن سنشطب على الشريعة كلها، والحقيقة أن هذا المذهب ينتهي إلى مذهب القرآنيين وإن زعم أنه يخالفه.
خاتمة:
إن الحائض في رمضان يجب عليها أن تفطر ثم تقضي، والدليل على ذلك، إضافة إلى ما سبق، ما يلي:
1. السنة القولية الآحادية: وأقصد بها الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، وأخرجه أيضا غيره من كتب الحديث كما سبق الذكر، وخلاصته أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر الحائض أن تقضي الصوم، والأمر بقضاء الصوم يفهم منه وجوب الإفطار، وهو فهم أقرب إلى الصواب من القول بالاختيار على مستوى الدلالة، لكنه فهم ارتقى إلى درجة النص/ اليقين بقرائن أخرى، وهي:
2. السنة العملية المتواترة: وأعني بها أن وجوب إفطار الحائض سنة متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهي مستند الإمام الزهري ومالك بن أنس، وليس الحديث الصحيح الذي يشكك فيه دعاة صيام الحائض، ويجادلون في دلالته، ولذلك قال الزهري: ” هذا ما اجتمع الناس عليه، وليس في كل شيء نجد الإسناد” (10)، والناس الذين اجتمعوا على ذلك هم الصحابة ثم التابعون بعدهم، والتواتر العملي حجة قطعية تقدم على حديث الآحاد وإن كان صحيحا، وهو مذهب مالك الذي كان يقدم عمل أهل المدينة ( = التواتر العملي) على حديث الآحاد في حالة التعارض، فكيف في حالة التعاضد، وكثير من الفرائض والسنن التعبدية وردت عن طريق التواتر العملي/المعنوي يقول جمال الدين القاسمي عن التواتر “ومنه المتواتر معنى؛ ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والبيوع والنكاح” (11).
3. إجماع الفقهاء في جميع المذاهب على وجوب إفطار الحائض مع القضاء، والإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع المجمع عليه، قال ابن حزم عن إجماع الناس في وجوب إفطار الحائض: ” فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه ” (12)، والإجماع على جزئية فقهية عزيز الوجود عند الفقهاء، وإذا حصل إجماعهم في مسألة جزئية تعبدية؛ فذاك دليل قطعي يوجب الاتباع والتسليم، والعلم والعمل، ، ولا يجادل في ذلك إلا من كان في قلبه مرض ندعو الله له بالشفاء والهداية.
هذا ما تيسر لي بيانه، نسأل الله تعالى الإخلاص والثواب، وتقبل الله صيامكم وقيامكم، إنه سميع مجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] في تركيا، ومصر، والمغرب، ومنهم ابن الأزرق الأنجري الذي يتابعه كثير من الناس على صفحته في الفايس بوك، وقد خصص للموضوع حلقة أعجب بها كثير من المتابعين الذين انبهروا بحججه، وعبروا عن ذلك في تعليقاتهم.
[2] المبسوط: شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة – بيروت، ج 3، ص: 80
[3] الكافي في فقه أهل المدينة: ابن عبد البر، مكتبة الرياض الحديثة، ط 2، ج 1، ص: 185
[4] روضة الطالبين وعمدة المفتين: أبو زكرياء النووي، المكتب الإسلامي – بيروت، ط 2، ج 1، ص: 135
[5] المغني: ابن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة، ج 3، ص: 152
[6] المحلى بالآثار: ابن حزم الأندلسي، دار الكتب – بيروت، ج 1 ، ص: 380
[7] نسبة إلى حروراء، وهي قرية قريبة من الكوفة كان فيها أول اجتماع للخوارج، والمقصود بهذا الاستفهام الاستنكاري؛ هل أنت من الخوارج الذين خالفوا الإجماع، وأوجبوا على المرأة الحائض قضاء الصلاة.
[8] أخرجه مسلم في صحيحه، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة.
[9] المدونة: مالم بن أنس، دار الكتب العلمية، ط 1، ج1، ص: 276
[10] سبق بيان المصدر.
[11] قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلمية – بيروت، ص: 271
[12] المحلى بالآثار: ابن حزم، مرجع سابق، ج 1، ص: 380