الحدود الشرعية معناها ومقاصدها
هوية بريس – محمد عوام
لا يخفى أن الإسلام عقيدة وشريعة، عقيدة يعتقدها المسلم، تترسخ في قلبه ووجدانه، وبها يصح إسلامه. وشريعة يجب عليه العمل بها، فهي عربون الطاعة، ودليل الانقياد والامتثال والإنابة، إذ لا يكفي التصريح باللسان، دون اعتقاد الجنان، والعمل بالأركان.
وقد ظلت الشريعة حاكمة للمسلمين عبر قرون مضت، وأزمنة خلت، من غير أن نجد من ينادي بالتنكر لها، أو العمل على تعطيلها، أو محاربتها والتضييق عليها، إلى أن جاء الاستعمار الخبيث بخيله ورجله، فلم يكتف هذه المرة بالاستحواذ على خيرات البلاد، ولا بقتل الأبرياء من الرجالوالولدان والنساء، وإنما جاء بمشروع جهنمي علماني، وهو محاربة الشريعة الإسلامية، وإزاحتها عن موطن الحكم وتسيير دوالب الدولة، وأن تكون لها السيادة والريادة.
وقد أعانه على ذلك قوم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، أجسادهم عربية، وقلوبهم وعقولهم إفرنجية، فهي كائنات مصوغة على نمطه، تعرف منهم وتنكر، حقدهم على الشريعة ظاهر، وحربهم لها باد، نصبهم الأسياد ليكونوا لهم خلفاء من بعدهم، فكانوا شرا منهم في حرب الشريعة، وإقصاء منارها، بالتضييق على علمائها، وسجن أبريائها، وقتل دعاتها.
فما كان من هؤلاء الشرذمة المستقوية بالغرب، إلا أن تثير من حين لآخر الشكوك والريب في قلوب أبناء هذه الأمة، حتى ينسلخوا من دينهم، ويتنكروا لهدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، مما استوجب معه الرد والبيان، وتفنيد المزاعم والأراجيف الكاذبات.
ومن القضايا التي تعرضت للحرب على أيدي هؤلاء، تبعا لأسلافهم المستشرقين، قضية الحدود الشرعية، فحسبوها من مخلفات العصر الجاهلي، لا تنسجم مع العصر “المتنور” و”المتحضر”، لكونها قاسية، غير راقية، مما جعلنا ندّون هذه الأسطر،متوخين في ذلك الإيجاز، ومنصرفين عن الإطناب، مبدين في ذلك، معنى الحدود، ومبرزين ما انطوت عليه من المقاصد والحكم، حتى يظهر من خلال ذلك –إن شاء الله– ما امتازت به شريعة الرحمن على مزاعم الإنسان، الذي أسره هواه، وانطمست بصيرته عن إدراك مزايا شريعة رب العالمين.
معنى الحدود
يطلق الحد في اللغة ويراد به، منتهى الشيء، والفصل والتمييز بينه وبين غيره، وقد جمع هذه المعاني ابن منظور في (لسان العرب) بقوله: “الحَدُّ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ أَحدهما بِالْآخَرِ أَو لِئَلَّا يَتَعَدَّى أَحدهما عَلَى الْآخَرِ، وَجَمْعُهُ حُدود. وَفَصْلُ مَا بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ: حَدٌّ بَيْنَهُمَا. وَمُنْتَهَى كُلِّ شَيْءٍ: حَدُّه، وَمِنْهُ: أَحد حُدود الأَرضين وحُدود الْحَرَمِ،…وحدَّ الشيءَ مِنْ غَيْرِهِ يَحُدُّه حَدًّا وحدَّدَه: مَيَّزَهُ. وحَدُّ كُلِّ شيءٍ: مُنْتَهَاهُ لأَنه يَرُدُّهُ وَيَمْنَعُهُ عَنِ التَّمَادِي”[1]
وذهب ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث والأثر) إلى أن الأصل في الحد هو المنع، قال: “وأصل الحد المنع، والفصل بين الشيئين،..”[2] وبه جزم الشوكاني في (نيل الأوطار) بقوله: “الحد لغة المنع، ومنه سمي البواب حدادا، وسميت عقوبات المعاصي حدودا لأنها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها في الغالب.”[3]
أما في الاصطلاح فقد لاح لي أن هناك اصطلاحين، اصطلاح القرآن الكريم، واصطلاح الفقهاء، فالأول أشمل وأوسع، والثاني أخصر وأضيق، وبيان ذلك فيما يلي:
أولا: الاصطلاح القرآني المجيد، ويستبين ذلك من خلال تتبع الآيات الكريمات التي ورد فيها لفظ الحد (حدود)، وهي:
– قوله عز وجل: “أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” (البقرة:187).
– وقوله تعالى: “لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (البقرة:226،229).
– وقوله عز وجل: “وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (النساء:12،14).
– وقوله سبحانه وتعالى: “وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المجادلة:3،4).
– وقوله تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا” (الطلاق:1).
وردت كلمتا (حدود الله) اثنا عشرة مرة في القرآن الكريم سبعة منها في سورة البقرة، وأكثر ما ورد فيها لفظ (حدود الله) في الأحكام الأسرية، من طلاق، أو ظهار، أو بيان حلية معاشرة الزوجة في ليلة الصيام، أو أحكام الإرث، ولم ترد في سياق الحديث عن العقوبات الشرعية، أو ما اصطلح عليها بالحدود، يعني التشريع الجنائي.
وعدم ورود لفظ الحد في باقي الأحكام الشرعية الأخرى، لا يخرجها البتة عن كونها مرادة بهذا اللفظ، لأن حدود الله لفظ عام يشمل كل أحكام الله تعالى التي شرع لعباده، فهو لفظ مستغرق لكل ما ورد من أحكام الله تعالى وشرائعه، ولكل ما جاء بيانا من السنة النبوية لها، فهي كذلك تندرج في حدود الله تعالى، بأمر من الله تعالى بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى هو الذي جنح إليه المفسرون:
قال ابن كثير عند تفسيره للآية 187 من سورة البقرة: “وَقَوْلُهُ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أَيْ: هَذَا الذِي بَيَّنَّاهُ، وَفَرَضْنَاهُ، وَحَدَّدْنَاهُ مِنَ الصِّيَامِ، وَأَحْكَامِهِ، وَمَا أَبَحْنَا فِيهِ وَمَا حَرَّمْنَا، وذِكْر غَايَاتِهِ وَرُخَصِهِ وَعَزَائِمِهِ، حُدُودُ اللَّهِ، أَيْ: شَرَعَهَا اللَّهُ وبيَّنها بِنَفْسِهِ (فَلا تَقْرَبُوهَا) أَيْ: لَا تُجَاوِزُوهَا، وَتَعْتَدُوهَا.”[4]
وقال القرطبي: “قَوْلُهُ تَعَالَى:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ حُدُودُ الله فلا تخالفوا، فـ(تِلْكَ) إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي.”[5]
وجنح الفخر الرازي إلى أن “الْمُرَاد مِنْ حُدُودِ اللَّهِ مَحْدُودَاتُهُ أَيْ مَقْدُورَاتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطَةٍ.”[6]
وذهب ابن عاشور إلى أن الحدود هي الأحكام الشرعية، فقال: “وحُدُودَ اللَّهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَشَرَائِعُهُ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَتَجَاوَزُهَا فَكَأَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَهَا[7] وقال أيضا: “وَشُبِّهَتِ الْأَحْكَامُ بِالْحُدُودِ لِأَنَّ تَجَاوُزَهَا يُخْرِجُ مِنْ حِلٍّ إِلَى مَنْعٍ.”[8] وقال أيضا: “وَحُدُودُ اللَّهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ الْفَوَاصِلُ الْمَجْعُولَةُ بَيْنَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، تَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَتَفْصِلُ بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ.”[9]
كل هذه النقول وغيرها، مما لا يتسع له المجال لنقله، تؤكد أن حدود الله تعالى هي أحكامه الشرعية، المتضمنة للأوامر والنواهي، فهي باختصار الشريعة المنصوص عليها في القرآن والسنة، التي يجب على المسلم اتباعها والتمسك بها، وهذا من مقتضيات الإيمان، لقوله تعالى: “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا”[الأحزاب:36] وغيرها من الآيات الكريمات.
اصطلاح الفقهاء: إذا ما رجعنا إلى مظان كتب الفقه ومدوناته سنخلص إلى أن الفقهاء أطلقوا معنى الحدود على العقوبات المحددة شرعا، فأفردوها بأبواب معينة من أبواب الفقه، مثل (كتاب الحدود في الزنا والقذف) من (المدونة) التي جمعها الإمام سحنون، و(كتاب الحدود) من (الكافي في فقه أهل المدينة) لابن عبد البر،وقد نسج على منوالهم المحدثون، فأفردوا لها بابا سموه باب الحدود من ذلك: (كتاب الرجم والحدود) من موطأ الإمام مالك، (كتاب الحدود) من (صحيح البخاري)، و(صحيح مسلم)، و(أبواب الحدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) من سنن الترمذي.
غير أننا نلحظ أن بعض المصنفات الفقهية قد تقتصر عند تناولها للحدود على بعضها كحد الزنا والقذف والحرابة، ثم تصنف باقي العقوبات في أبواب أخرى مثل (كتاب أحكام السرقات والحد فيها)، و(كتاب القصاص والديات في الأنفس والجراحات) وخير نموذج على ذلك (المدونة) لسحنون، و(الكافي) لابن عبد البر و(الإشراف على مسائل الخلاف)و(التلقين في الفقه المالكي) وهما للقاضي عبد الوهابالبغدادي[10]،
وهناك من لم يجر على هذا التصنيف، فلم يذكر لفظ الحدود، وإنما اقتصر على ذكر أبواب منفردة لكل حد، أو مجتمعة بعضها في باب، مثل ما صنع الفقيه الأصولي أبو الوليد ابن رشد الجد في كتابه الفذ (المقدمات الممهدات، لبناء ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات).
ومثل ما ذكرت عن بعض المصنفات المالكية، هو الذي نجده أيضا عند غيرهم من المذاهب الأخرى، كالحنفية والشافعية والحنابلة، مما يعطينا فكرة عن أن مصطلح الحدود بصفة عامة عند الفقهاء قد عنوا بها العقوبات الشرعية، أو ما فيه عقوبة محددة ومقدرة شرعا، وهو ما يسمى عند فقهاء القانون بالتشريع الجنائي.
لكن لماذا قصر الفقهاء مصطلح الحدود على العقوبات الزجرية، دون أن تشمل كافة الأوامر والنواهي الشرعية؟ ففي تقديري أن صنيع الفقهاء قد يكون استند إلى بعض الأحاديث النبوية، التي جاء لفظ الحدود فيها، كأنه قصد به هذا المعنى الذي تمسكوا به، فعَن أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَفَرَضَ لَكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَتَرَكَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَكِنْ رَحْمَةٌ مِنْهُ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا وَلَا تَبْحَثُوا فِيهَا” (رواه الحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير)
وروى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: “أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ” فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ قَالَ: حَدَّكَ”
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَالْمُدَّهِنِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا يَصْعَدُونَ، فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ، فَيَصُبُّونَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا: لَا نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ، فَتُؤْذُونَنَا، فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا: فَإِنَّنَا نَنْقُبُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا، فَنَسْتَقِي ” قَالَ: ” فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَمَنَعُوهُمْ، نَجَوْا جَمِيعًا، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعًا ” (مسند الإمام أحمد)
ويظهر من هذه الأحاديث أنه قصد بالحدود العقوبات المقدرة شرعا، والمنهيات التي لا ينبغي تجاوزها وتعديها، وهي المحارم، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في (جامع العلوم والحكم): “وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُدُودُ، وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْمَحَارِمِ، … وَقَدْ تُسَمَّى الْعُقُوبَاتُ الْمُقَدَّرَةُ الرَّادِعَةُ عَنِ الْمَحَارِمِ الْمُغَلَّظَةِ حُدُودًا، كَمَا يُقَالُ: حَدُّ الزِّنَا، وَحَدُّ السَّرِقَةِ، وَحَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهُ “قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟” يَعْنِي: فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ اسْمِ الْحُدُودِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ.”[11] وهذا الإطلاق أصبح شائعا بين الفقهاء، وجرى به عرفهم، حيث يطلقون على العقوبة حدا، من ذلك قول الثَّوْرِيُّ: “وَضَرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى امْرَأَةً حُدُودًا فِي مَجَالِسَ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ أَوْ أَرْبَعَةً”[12]
وصفوة القول مما سبق أن لفظ الحدود أخذ معنى شمولي لكافة الأحكام الشرعية كما ورد بذلك معناه في القرآن الكريم، ثم ما لبث أن صار معناه مقصورا عند الفقهاء على العقوبات المقدرة شرعا، الخاصة ببعض المنهيات والمحارم.وينبني على هذا أن من لم يدقق النظر فيه، قد يفضي به القول إلى أن تطبيق الحدود أو الشريعة، هو تطبيق العقوبات الزجرية فقط، دون أن يلتفت إلى كافة أحكامها، وشرائعها، باعتبارها نظام حياة.
ونخلص مما سبق، في شأن الحدود من خلال الآيات والأحاديث، إلى ما يلي:
أولها: عدم قربانها، (فلا تقربوها) وهذا متعلق بالمنهيات المحرمات، باقتحام حماها، والوقوع فيها، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف، “ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه.” (متفق عليه)
وثانيها: (فلا تعتدوها)، وهذا متعلق بالواجبات، وذلك بالتعدي عليها بالتغيير والتحريف، وقد يدخل في الاعتداء عليها، تضييعها، وهو ما نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “وحد حدودا فلا تضيعوها”، وقد بسط هذا المعنى ابن الأثير بقولهفي معنى الحدود: “وهي محارم الله، وعقوباته التي قرنها بالذنوب، وأصل الحد المنع، والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام: فمنها ما لا يقرب كالفواحش المحرمة، ومنه قوله تعالى: “تلك حدود الله فلا تقربوها.” ومنها ما لا يتعدى كالمواريث المعينة، وتزويج الأربع، ومنه قوله تعالى: “تلك حدود الله فلا تعتدوها.”[13]
ثم حكم على كل متعد لحدود الله بكون ظالم، قال تعالى: “ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون” قال ابن عاشور: “وَأَفَادَتْ جُمَلَةُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ حَصْرًا وَهُوَ حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ، إِذْ مَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَظَهَرَ حَصْرُ حَالِ الْمُتَعَدِّي حُدُودَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ ظَالِمٌ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَمْيِيزُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَهُوَ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، اهْتِمَامًا بِإِيقَاعِ وَصْفِ الظَّالِمِينَ عَلَيْهِمْ..”[14]
وثالثا: أنه من خلال الآيات السابقة انقسمت الحدود الشرعية إلى قسمين: قسم متعلق بالأوامر، وهي تقتضي الامتثال، وقسم متعلق بالنواهي، وهي تقتضي الاجتناب.[15]
الإيمان بهذه الحدود الشرعية
من مقتضيات الإيمان بالله تعالى، الإيمان بشرعه، والرضا بحكمه، والقبول عن طواعية واختيار بشريعته، والعمل بها، والخضوع لها، والذود عنها، والحمية والغيرة من انتهاكها، أو عدم العمل بها، والحكم بها والتحاكم إليها، في السراء والضراء، فهذا مقتضى الإيمان الحق، الذي دلت عليه كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، من ذلك:
– قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا”(الأحزاب:36)، قال الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد.”[16]
وفي الآية دليل على أن أوامر الله على الوجوب، بمعنى أن صيغة افعل الدالة على الأمر تفيد الوجوب، وهذا ما جرى عليه جمهور العلماء، فليس للمكلف خيار في أوامر الله تعالى، وإنما ينبغي له المبادرة إلى الطاعة والامتثال. والغريب أن بعض الناس يشيحون بوجوههم عن دلالة هذه الآية وغيرها، ولكن لا غرابة في ذلك، لأن فقدان الإيمان أو ضعفه، يورث تمردا على شريعة الله وأحكامه.
– وقال عز وجل: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا.”(لنساء:60،61).
قال الفخر الرازي: “اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُطِيعُوا اللَّه وَيُطِيعُوا الرَّسُولَ ذَكَرَ فِيهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يُطِيعُونَ الرَّسُولَ وَلَا يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ حُكْمَ غَيْرِهِ” (مفاتيح الغيب)، وقد اتفق علماء التفسير على أن هذه الآية نزلت في المنافقين، وساقوا في ذلك روايات عن أسباب نزولها. (يمكن مراجعتها في مظانها).
– وقال سبحانه وتعالى: “وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ” (المائدة:48).
– عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، وَنَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، وَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ”(رواه الإمام الشافعي وأحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن).
هذه الآيات وغيرها كثير، وكذلك الأحاديث، تدل على أن المؤمن الحق، هو من يرضى بحكم الله ورسوله، وأن الحدود والعقوبات الشرعية هي من شرع الله تعالى، شرعها لحكمة، وهو أعلم بما يصلح لعباده، فالتنكر لها، أوتعطيلها، يدخل قطعا في التمرد على أوامر الله تعالى، والتنصل من أحكامه، وهو بمثابة إعلان حرب على شريعة الله، وفاعله إن رضي بذلك، وكان له قصد لا مرية فيه، في محاربة شرع الله، فهذا لا ريب في كفره، وفي ذلك جاءت الآيات المحذرة من الوقوع في مثله، قال تعالى: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” “الظالمون” “الفاسقون” قال ابن القيم بعد ذكره لأقوال العلماء وتأويلاتهم للآية: “وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَيْنِ، الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ عِصْيَانًا، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَأَخْطَأَهُ فَهَذَا مُخْطِئٌ، لَهُ حُكْمُ الْمُخْطِئِينَ.”[17]
في كيفية تفعيل تطبيق الحدود
نظام الحدود في الشريعة هو جزء من النظام العام للشريعة، بل مرتبط به، مرتبط بقيم الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وقيم التربية والتزكية لإصلاح النفس، بتحليتها بالفضائل، وتخليتها عن الرذائل، وقيم العدالة الاجتماعية، من توزيع الثروات، وإقامة المصالح العامة، وإقامة السلطة السياسية الحاكمة بما أنزل الله، والتداول على الحكم، ونبذ الفساد والاستبداد.
فلا جرم أنه إذا توفر هذا النظام العام، أو الإطار المرجعي القيمي، يأتي تطبيق الحدود الذي هو من وسائل حفظ المصالح العامة للمجتمع وللدولة المسلمة، وفق شروطه المعتبرة. وخير دليل على ذلك، هو بداية الدعوة الإسلامية، حيث بدأت بإصلاح العقيدة، التي هي منطلق كل إصلاح، وانصلح على إثرها السلوك الفردي والجماعي، ثم تدرجت الأمور إلى كافة الإصلاحات منها وضع نظام الحدود والعقوبات، ليكون سياجا للمجتمع والدولة، بحمايتهما من المفسدين والمجرمين.
فلم يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم، بقطع يد السارق، ولا جلد الزاني، ولا غير ذلك من العقوبات، وإنما بدأ بتعليم الاعتقاد الصحيح، وتربية النفوس على القيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، فكانت مقاصد دعوته التعليم والتزكية، قال عز وجل: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”(الجمعة:2).
وتطبيق الحدود خاضع لشروط تكفلت كتب الفقه والسياسة الشرعية ببيانها، لا نطيل الحديث عنها، وإنما نقتصر فقط على حادث عام الرمادة زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، وهو عام أصيب الناس فيه بمجاعة شديدة، قد تحوج بعضهم أن يمد يده إلى ما عند غيره، ولو كان يسيرا، مما أدرك معه سيدنا عمر خطورة الوضع، فسن على إثره تعطيل حد السرقة استثناء، وليس إلغاء منه له، كما يزعم بعض المتفيهقين، ليستدلوا به على إلغاء الحدود والعقوبات الشرعية، لكونها لم تعد صالحة –حسب ادعائهم- لزمننا هذا.
وبهذا يظهر أن الشريعة الإسلامية كلها رحمة، رحمة في تشريعها، ورحمة في تنزيلها على أرض الواقع، إذ تأخذ بالأعذار، وتلتفت إلى الضرورات المحرجة، ورحمة بعدلها.
شبهة قساوة الحدود
هل قساوة الحدود مانعة من تطبيقها؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نذكر أنفسنا –بمقتضى الإيمان المطلوب لا الموجود، وبصحيح العقيدة الراسخة في القلوب المؤمنة الخاشعة الخاضعة الراضية- أن الحدود إنما هي من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى، يعلم السر وأخفى، وبما يصلح لعباده، وما قد يضرهم، ما شرع شيئا إلا وفيه مصلحة لعباده، فما على العباد، إن كانوا فعلا عبادا مؤمنين، إلا التسليم والخضوع.
أما كون الحدود والعقوبات قاسية فهذا مسلّم، لا غبار عليه، لأنها تنسجم مع الفطرة الإنسانية، التي جبلت على الميل إلى الشهوات والملذات، بكل أنواعها، فلا يردعها عن المحرمات إلا العقوبات الزاجرات، ولا يحدها عن غيها إلا الحدود الصوارم، فلا ضير أن تكون الحدود قاسيات، إذا طبقت بشروطها وأركانها الهاديات.
ومما استفدته من شيخنا العلامة أحمد الريسوني حفظه الله قوله لي “ونحن ينبغي أن نفتخر بقساوة بعض العقوبات الإسلامية، لأن ذلك يدل على أن مصدرها منزه عن العواطف السطحية، والانفعالات القاصرة، واعتبار النزوات الفردية على حساب أمن الجماعة وسلامتها، وعلى حساب المصلحة البعيدة والعليا للفرد نفسه.”[18]
مقاصد الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية
إن نظام الحدودوالعقوبات في التشريع الإسلامي وضع على منهج رباني، يراعي الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، فوضع لها من العقوبات الزواجر ما يناسبها، حتى يردها إلى الطريق إن هي شردت عن الصراط المستقيم، أو حادت عن المهيع الجاد.
وقد كان لهذا النظام التشريعي الرباني أهداف عليا يسعى إليها، وأغراض قصوى يجنح إلى تحقيقها، ومقاصد نبيلة يرمي إليها، لأنه نظام من لدن حكيم خبير. على أن مقاصد العقوبات في التشريع الإسلامي تتعدد وتتنوع، فهي كما تعتني بالمجني عليه وبالدفاع عنه، والذود عن حقوقه، فهي كذلك تراعي حقوق الجاني فلم تهمل إنسانيته وإن كان جانيا، إذ إقامة العقوبات لا يذهب كرامة الإنسان. كما أنها تلتفت بعناية كبيرة إلى المجتمع، وما تجلب إليه من خيرات ومصالح وتدرأ عنه من شرور ومفاسد، فكانت أي الحدود والعقوبات لها مقاصد، منها ما هو خاص بالجاني، ومنها ما هو خاص بالمجني عليه، ومنها ما هو متعلق بالأمة والمجتمع. وبيانها بشيء من الإجمال أسجله في ما يلي:
أولا: تأديب وإصلاح الجاني
إن من مقاصد الحدود والعقوبات إصلاح وتأديب الجاني، حتى لا يتمادى في شره، فينفث سمومه في باقي أفراد المجتمع، وهذا المقصد نجده واضحا جليا، إذا ما درسنا الحدود والعقوبات، وهذا ما أبانه الطاهر بن عاشور في (مقاصد الشريعة الإسلامية) بقوله: “إن مقصد الشريعة من تشريع الحدود، والقصاص، والتعزير،وأروش الجنايات ثلاثة أمور، من بينها تأديب الجاني. والتأديب- كما ذكر- راجع إلى المقصد الأسمي، وهو إصلاح أفراد الأمة الذين يقوم مجموع الأمة منهم، فإقامة العقوبة على الجاني يزول من نفسه الخبث الذي بعثه على الجناية.”[19]
فمقصد الشريعة إذن هو إصلاح الجاني وتأديبه حتى يصبح عنصرا فعالا داخل المجتمع، بدل أن يستمر في غيه وطيشه. يقول ابن عاشور: ” إن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد. وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده. فإنه لما كان هو المهيمن على هذا العالم وأحواله. ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله، فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي إصلاحه مبدأ التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه، وتصفية باطنه، لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.”[20]
والشريعة لا تعتمد فقط على إقامة الحدود، فليست هي العقوبة الوحيدة، وإنما تعنى أيضا بوسائل إصلاح أخرى، مثل تربية وتزكية النفس، بغرس الفضائل والأخلاق، وبنائها على معرفة الله، بمعرفة جلاله وعظمته وقوته وإنعامه على المخلوقات، وإن كل شيء بيده سبحانه. كما تعتمد على نشر العلم، بتعليم أبناء المجتمع، حتى ترتقي مداركهم، ويرتفع وعيهم، وتسمو أخلاقهم ووعيهم الحضاري والمدني.
فكان لا بد من هذا السبيل، لإصلاح الجاني، بإقامة الحد عليه، وذلك “بتقويم نفسه وصقلها وغسلها من أدران الجريمة، حتى تكون هذه النفس الطاهرة بمنجاة عن محيط الإجرام، وتدخل في عداد الأنفس النافعة للمجتمع” [21] لذلك شاع عند الفقهاء أن التعزيز شرع للتطهير.
ثانيا: ردع وزجر الجاني
ومن مقاصد الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية ردع وزجر الجاني، فهي أقيمت لهذا المقصد، وتنوعها يفيد هذا الغرض، بأن وضع لكل جرم حد رادع يناسب مقدار المفسدة التي وقعت بسببه، فلا جرم أن إقامة الحد على الجاني كما يقول ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن): ” يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده “[22]
لأجل ذلك حذر الشارع الحكيم من حصول الرأفة عند إقامة الحدود، فهي رأفة –إن حصلت- أخلت بالمقصود من تحقيق الردع والاستصلاح، قال عز وجل: ” ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم مؤمنين” قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في بيان الآية: “وعلق بالرأفة قوله: “في دين الله ” لإفادة أنها رأفة غير محمودة، لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه وإنما شرع الله الحد استصلاحا، فكانت الرأفة في إقامته فسادا.”[23]
والردع أو الزجر ليس معناه مجاوزة ما يستحقه الجاني من العقوبة، لأن المبالغة في ذلك تفسد الحكمة من مشروعية فعل الزاجر والرادع، من أن يوقع العقوبة المحققة لذلك، والمناسبة لغاية الزجر والردع بحيث تكف الجاني عن العود إلى الجريمة وعدم تذكرها، وقد أفصح عن هذه الحكمة ابن القيم بقوله:”فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في الرؤوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناياتغاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع. فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ماهو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه، وإحسانه وعدله. لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استيلاب غيره حقه.”[24]
ولئن كان مقصد الشريعة-كما رأينا- هو إصلاح الجاني وتأديبه فإن ذلك لا يكون على حساب إهدار آدميته وكرامته، فصيانة كرامة المحدود وعرضه مما تحرص عليه الشريعة. فلا يسب، ولا يلعن، فقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة تقول لمحدود في الخمر “أخزاك الله” فقال: لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان … لكن قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.”[25]
وقد بسط القول في هذه المسألةالدكتور الحبيب التجكانيفقال فيما نصه:” إن الاعتراف بكرامة المحكوم عليه، والحرص على حقوقه، هو الخطوة الأولى لإعادة تربيته روحيا وخلقيا، فبذلك وحده يعود له الشعور بالمسؤولية، فيتحرر من إلقاء المسؤولية على الغير، ويبدأ طريق الندم والتوبة والاستقامة.”[26]
هذا الجانب الذي ذكره الحبيب التجكاني، مما تغفله القوانين الوضعية اليوم إغفالا وإهمالا تاما، فهي لا تكاد تفكر في إصلاح الجاني بحفظوصون كرامته، وأنه مع ذلك إنسان ذو أحاسيس وغرائز. وإنما تفعل عكس ذلك، حيث تدوس كرامته وإنسانيته، مما يربي في نفسه الحقد والضغينة على المجتمع، فيزداد إجرامه، وتصبح العقوبة المقررة في حقه لاتؤدي الدور المطلوب لا في التأديب ولا في الزجر.
ثالثا: التشهير بالجاني والإعلام به “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين“
إن من مقاصد التشريع الجنائي الإسلامي أن يعرف بالمجرم وبمواصفاته ويشهر به، ويشنع عليه إجرامه، وهذا المقصد كفيل بردع الناس، وكف أذاهم. وهذا ما يشير إليهقوله تعالى: “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين”فبالإضافة إلى أنه عقاب رادع، غير أن مقصد التشهير والإعلام بالجاني متضمن له، وواضح من تشريعه، ومقصود من الآية. فالإعلان بالجريمة -كما قال الدكتور حسن رجب – هو جزء من العقاب، سواء اتخذ ذلك في العصور الماضية شكل التجريس، كما كان عند العرب، أو شكل طلاء الجاني بالقار، وكسائه بالريش في أوربا في العصر الوسيط، أو بالنشر بالصحففي عالمنا المعاصر. ولكن الإسلام جعل الإعلام عن الجرائم بكل درجاتها جزءا لا يتجزأ من العقوبة.[27]
فالتشهير والإعلام بالمجرم وبجريمته يجعل الناس يحجمون عن الجرائم، ويحذرون من التساهل في إقامة الحد، لأن الإخفاء ذريعة للإنساء. والإهمال مطية الاستخفاف بحدود الله تبارك وتعالى.[28]ففي التشهير والإعلام بالجاني إشاعة حديثة، وعبرة للآخرين من الذين حضروا إقامة الحد، وهذا مهم من الناحية الاجتماعية من أجل صيانة المجتمع. أما الجانب النفسي فهو تألم الجاني من سقوط شخصيته ومكانته في المجتمع، وهو ما أشار إليه ابن العربي في قوله الآنف الذكر .
وقد ذكر ابن فرحون في (تبصرة الحكام): أن الجاني في بعض الجرائم يشهر ويسجل عليه ما فعل، وتجعل من ذلك نسخ تودع عند الناس ممن يوثق به، وفي ذلك نوع من النشر.[29]وفي عصرنا هذا تتكفل السلطات الأمنية بذلك، فلها سجلات المجرمين، وغيرهم.كما يمكن اليوم يمكن توسيع دائرة الإعلام والتشهير الذي تهدف إليه الشريعة الإسلامية بسبب اتساع وسائل الإعلام من الصحف، والمجلات والإذاعة.
وقد أخذ العلماء مشروعية التشهير من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة بن الصامت لما بعثه على الصدقة يعظه: “ياأبا الوليداتق، لاتأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها تواج.”فقال:يارسول الله إن ذلك لكائن؟ قال: “إي والذي نفسي بيده، إن ذلك لكذلك إلا من رحم الله” قال: “فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على شيء أبدا. أو قال:على اثنين.”(رواه البيهقي في السنن الكبرى بتحقيق التركي).
وقد جاء في (حاشية السندي)”أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الغال على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم، وأن الحكام أخذوا من هذا الحديث مشروعية التجريس بالجناة أي التسميع بهم، والمراد بذلك تشهيرهم.”[30]
رابعا: إرضاء المجني عليه
إن مقاصد التشريع الاسلامي المبارك عديدة ومتنوعة تنكشف عنها الحجب كلما فكر الانسان، وتدبر بروية وتؤدة في خبايا هذا التشريع، من هذا المنطلق أقول بأن مقصد إرضاء المجني عليه تحرص عليه الشريعة حرصا شديدا بسعة وأفق كبير. فإرضاء المجني عليه ينظر إليه من جانب ما في النفوس من حب الانتقام والتشفي، والحنق، والغضب على الظالم.
وهذه طبيعة جبلية فيالإنسان، لا يستطيع معها أن يوفر العدل، ويقر الرحمة، لهذا تولت الشريعة إرضاء المجني عليه بإقامة الحد على الجاني، لأنها لو تركت المجني عليه يتصرف في إرضاء نفسه بيده، لبالغ في حب الانتقام، ولما حقق بذلك عدلا ولا صرفا … وهذا التصرف يخل بنظام الحياة حيث تحيا بين الناس الثارات والصراعات.
ولقد بين هذا المقصد فضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه النفيس (مقاصد الشريعة الإسلامية) فقال: “وأما إرضاء المجني عليه فلأن في طبيعة النفوس الحنق على من يعتدي عليها عمدا، والغضب ممن يعتدي خطأ. فتندفع إلى الانتقام، وهو انتقام لا يكون عادلا أبدا، لأنه صادر عن حنق وغضب تختل معهما الروية، وينحجب بهما نور العدل… فكان من مقاصد الشريعة أن تتولى هي هذه الترضية وتجعل حدا لإبطال الثارات القديمة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع “وإن دماء الجاهلية موضوعة”[31]
لذلك ففي نظام العقوبات ما يطمئن المجني عليه، ويحفظ عليه حياته وماله، ودينه وعرضه. فخذ مثلا السرقة، فقد أوجب الشرع القطع في ربع دينار قصاعدا. فلو أسند إلى المجني عليه أن يتولى هذا الأمر بنفسه لما اهتدى إلى ذلك السر الموجود في القطع، ولربما تصرف على غير ماتقتضيه الحكمة، فمن كمال حكمته وسر قدرته أن تولى سبحانه بنفسه تحديد الحد اللازم للجاني لأن المجني عليه قد يبادر إلى قتل الجاني بدل قطع يده. ففي القطع إذن من التشفي وإرضاء المجني عليه، مما لا مزيد عليه بالنسبة إلى سرقة الأموال، لذا فإن “قطع السارق تلوح منه حكمة تأمين كل فرد على ماله واطمئنانه عليه حتى لا تعبث به يد عابث ، أو يستحوذ عليه مستحوذ”[32]
خامسا: حفظ كرامة المجني عليه وسمعته
إن صيانة عرض الإنسان والدفاع عن كرامته من الغايات التي جاءت الشريعة لترسيخها. فالشريعة الغراء تدرأ كل ما من شأنه أن يخدش سمعة الإنسان، ويصيب كرامته، لأن سمعته وكرامته جزء من حياته لا يستطيع أن يعيش بغيرهما، وفي بيان مقصد حفظ كرامة الإنسان يقول علال الفاسي: “الكرامة حق لكل أحد برا كان أو فاجرا، تقيا أو عصيا، لأن الجزاء يترتب على الأعمال وهي بحسب صفاتها الشرعية، أما الشخص فهو الإنسان دائما حتى المجرم ينال عقابه، ولكن ليس لأحد أن ينال من كرامته بتعييره أو شتمه، أو التشنيع عليه بما فعل لأن في ذلك مجاوزة للحد الشرعي أو للتعازير المقررة.”[33]
فمن مقاصد الشريعة الكبرى صيانة كرامة الإنسان، من أجل ذلك وضع حد القذف،وحد الزنا زاجرا ومانعا من الاتهامات. فالشك في النسل، والاتهام بالزنا يفضي إلى خلل كبير في المجتمع، وتفكك عظيم في الأسر فلا يعود معه استقرار ولا طمأنينة ولا راحة، بل–كما قال ابن عاشور- “إن الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه، والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه، وكمال جسده وعقله، بالتربية والإنفاق على الأطفال إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء على العناية.”[34]
ولا يخفى أن الإسلام جاء من أجل إرساء مجتمع نظيف المشاعر، طيب السريرة كريم الأخلاق. بخلاف المجتمع الجاهلي، فكل الموازين فيه مضطربة، وكل القيم فيه مختلة. ففي المجتمع الجاهلي تشيع الفاحشة، ويتفشى القذف، كما كان في الجاهلية الأولى بين الناس حيث يتهم بعضهم بعضا بالزنا، لمجرد أنه يتحدث مع امرأة.
سادسا: حماية المجني عليه والدفاع عنه
ومن مقاصد الحدود وتشريع العقوبات الدفاع عن المجني عليه، وحمايته من كيد الجناة والظالمين، فلئن كان من مقصد الشريعة حفظ نظام الأمة واستدامته، فلا جرم أن هذا الحفظ والاستدامة لا تكون إلا بالدفاع عن حقوق الناس، ودرء الشر عنهم، واستجلاب الخير لهم. ولهذاشرع القصاص، من أجل حماية المجني عليه والدفاع عنه، لما فيه من المماثلة والتشفي على الجاني. وقدجعله العلماء حقا للأفراد لأن الجرائم التي يجب فيها القصاص على نوعين: نوع فيه اعتداء مباشر على نفس الشخص، ونوع فيه اعتداء على المجتمع. غير أن مساس الجريمة بذات المجني عليه يفوق بكثير ما يمس المجتمع كما في القتل مثلا.[35]
فتشريع عقوبة القتل مثلا تظهر منه حكمة حماية نفوس المجتمع، ودفع الأذى عنها، والدفاع عنها، لأن القتل، على ما قال ابن العربي: “أعظم الذنوب إذ فيه إذاية الجنس وإيثار النفس، وتعاطي الوحدة التي لا قوام للعالم بها. وتخلق الجنسية بأخلاق السبعية، وإذا كانت مع قوة الأسباب في جار أو قريب، والولد ألصق القرابة وأعظم الحومة، فيتضاعف الإثم بتضاعف الهتك للحرمة”[36]
على أن حماية المجني عليه والدفاع عنه ، لا يقتصر على المجني عليه المسلم، بل يتعداه إلى جميع رعايا الدولة الإسلامية من ذميين ومستأمنين، وكل من أعطته الدولة المسلمة حق الأمان. فالحياة الواردة في آية القصاص في قوله تعالى: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”[البقرة:179]لا تنحصر في حياة صنف دون آخر، أو جنس دون جنس، وإنما هي الحياة بمعناها الشامل، حياة المجتمع المسلم بشتى تشكيلات أفراد، وتنوع أعراقه وأجناسه، وبمختلف أسسه الاجتماعية، وضروب المعتقدات السماوية السائدة فيه.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى قتل المسلم بالذمي، ولهم في ذلك تفصيل، أكتفي هنا بما قررهالأستاذ الشهيد عبد القادر عوده، بعد بيانه لمذاهب الفقهاء في المسألة، قال رحمه الله: “وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم، لأن العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصا عند الغضب. فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس، وكان فرض القصاص أبلغ في تحقيق معنى الحياة.”[37]
سابعا: أخذ الدين والعفو (تصفية القلوب)
ومن مقاصد الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى المجني عليه أخذ الدية، أو العفو عنالجاني، وسواء كان هذا العفو من أولياء المجني عليه، أو منه مباشرة. لأن أولياء المجني عليه هم أيضا في حس الشرع مجني عليهم. فقبول الدية من قبل المجني عليه أو أوليائه، إذا رضوا بذلك، له في ميزان الشرع مقصد وحكمة وغاية، وهي تحقيق لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأوامر الأخوة بين بقية الأحياء.[38]
وقد أفاضالعلامةابن عاشور في بيان مقصد الدية بالنسبة إلى المجني عليهم (الأولياء والمجني عليه)، وكذلك بالنسبة إلى الجاني وأوليائه، فهي تحقق معنى التكافل والتوادد، كما تحقق العفو والتغمد، والصفح والتغاضي، والتجاوز عن إقامة القصاص وفي ذلك يقول: “فيها ( الدية) نفع عام، وهو حق المواساة عند الشدائد ليكون ذلك سنة بين القوم في تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة. فهي نفع مدخر لهم في نوائبهم، كما قال تعالى: “ولا تنسوا الفضل بينكم” مع ما في ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنتزع الإحن من قلوبهم. تلك الإحن قد تدفعهم إلى الاجتراء على إذاءة القاتل. فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم.ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه، أو لصار بحالة فقر، فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق..”[39]
ومن مقاصد الشريعة بالنسبة إلى المجني عليه تحقيق العفو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبب العفو إلى المجني عليه،ويرغبه في ذلك. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه قصاص إلا طلب فيه العفو.” وقال صلى الله عليه وسلم: “مازاد عبد بعفو إلا عزا.” فكأن المقصد من هذا المسلك النبوي أن تنقلب العداوة إلى محبة، والبغض إلىتسامح، والكراهيةإلى إخاء وتوادد. فالعفو يدفع الثارات بين أفراد المجتمع، وينشر الرحمة بينهم.
ثامنا: حفظ نظام الامة
إذا كانت للحدود مقاصد خاصة بالمجني عليه والجاني، فلا جرم أن لها مقاصد كذلك متعلقة بالمجتمع ونظام الأمة، لأن الشأن في نظام الحدود في الشريعة أنه لا ينظر إلى الفرد فحسب، باعتباره جانيا أو مجنيا عليه، وإنما يتعداهما ليشمل الأمة والمجتمع كله. وإلى هذه المقصد الأساسي للحدود والعقوبات نبه الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (المسؤولية والجزاء) وهو القضاء على الجريمة التي تهدد حياة المجتمع وسلامته. واعتبر نظام المجتمع شأنه في قيامه شأن الفرد، فكل ما يهدد سلامة الفرد، يهدد سلامة المجتمع ونظام الأمة ويعد بذلك خطر على حياتها.40]
وإن المراد من نظام العقوبات ومقاصدها في التشريع الجنائي الإسلامي هو حفظ نظام الأمة وصيانته، والعمل على استدامته. وحفظ نظام الأمة يكون في شتى جوانبه، وعديد من ميادينه، في الجانب العقدي والخلقي والتشريعي، والسياسي والاقتصادي… إلخ. فمقصد العقوبات بصفة عامة جلب المصالح التي تحفظ نظام الأمة، واستدفاع المفاسد المؤدية إلى الخلل سواء الواقع أو المتوقع.
إن الوقوع في حد من حدود الله تعالى معناه الوقوع في إحدى المفاسد التي جاء الشرع من أجل إزاحتها ودرئها فيؤذن ذلك أن العقوبات إحدى الوسائل التي تجلب المصالح للناس والمجتمع بأكمله.[41]
وحفظ نظام الأمة. والحرص على استدامته إنما يكون بحفظ النوع الإنساني واستدامة صلاحه، فإيقاع العقوبة على الجناة من باب الإصلاح لهم والحفظ. وفي ذلك يقول ابن عاشور مبنيا المقصد العام من التشريع.”هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه.”[42]
وقد أشار علال الفاسي رحمة الله تعالى عليه إلى نفس المقصد العام للشريعة الذي نبه عليه ابن عاشور، وإن تباينت عباراتهما في التنصيص عليه. ذكر ذلك في كتابه(مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) تحت عنوان “المقاصد الشرعية في الإسلام” يقول: “والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرا صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع.”[43]
وذهب إلى أن مفهوم الإصلاح إنما هو إصلاح أحوال الناس، وهذا الإصلاح هو الذي دعا إليه الرسل، وظلوا يعملون على تربية الناس عليه. فهذا موسى عليه السلام يقول لأخيه هارون:( اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المقسدين).
ومما يتعلق بحفظ نظام الأمة والمجتمع حفظ ضروراته الخمس، من حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظها هنا المنسجم مع نظام الحدود، هو حفظها من جانب العدم، وذلك بدرء كل ما من شأنه أن يعود عليها بالخراب والتلافي والإفساد، فهذا النوع من الحفظ مقصود للشارع الحكيم، وليس فقط الاقتصار على الحفظ الوجودي، وإنما لا بد من الحفظ العدمي حتى يحصل التكامل.
وصفوة القول مما سبق أن نظام الحدود في الشريعة، ينبغي أن يفهم حق الفهم، وأن يوقف على مقاصده الحكيمة، وغاياته النبيلة، وأن الأمة مطالبة بالرجوع إلى دينها وشريعة ربها، في كل المجالات لتنسجم مع عقيدتها، التي هي سر عزها وتقدمها، وسر قوتها، وروح تغييرها، و”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.”
والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[4]تفسير ابن كثير 1/520.
[5]الجامع لأحكام القرآن 2/337.
تفسير الفخر الرازي المعروف بمفاتيح الغيب 5/277.[6]
جامع العلوم والحكم بتحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس 2/163.[11]
[16]جامع البيان في تأويل آي القرآن، تحقيق أحمد شاكر، 20/271.
[17]مدارج السالكين 1/346.
[18]أخذته عنه سماعا.
[20]مقاصد الشريعة الإسلامية ص: 64.
[21]التعزيز في الشريعة الإسلامية 297.
[22]أحكام القران 3/1327 .
[23]التعزيز والتنوير 18/150-151.
[24]اعلام الموقعين 2/144 .
[25] سنن أبي داود.
[26]موقف الإسلام 57.
[27]مجلة المسلم المعاصر. مقال: أخبار الجريمة من منظور إسلامي د. حسن رجب ص: 211.
[28] انظر التعرير والتنوير 18/151.
[29]التعزير في الشريعة الإسلامية 459.
[30] التعزير في الشريعة الإسلامية 457.
[31]مقاصد الشريعة الإسلامية 206.
[32]فقه السنة 3/319.
[33]مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها 231.
[34]مقاصد الشريعة الإسلامية 81.
[35]انظر التعزيز في الشريعة الإسلامية 75.
[36]أحكام القرآن 3/1205.
[37]التشريع الجنائي الإسلامي 2/123.
[38] انظر في ظلال القرآن 1/1640.
[39]مقاصد الشريعة الإسلامية 66.
[40]المسؤولية والجزاء 132.
[41]مقاصد الشريعة الاسلامية 163.
[42]نفس المرجع 163.
[43]مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها 41-42.