الحدود الصحراوية للمغرب (3/2) (1957م)

هوية بريس – ذ.إدريس كرم
2- الإخـتـراق الـفـرنـسـي
يعود أصله الدبلوماسي إلى الإعلان الموقع في لندن بتاريخ 15 غشت 1890 بين المركيز سالزبوري وسفِيرنا ويدِينْكْتون الذي تنبأ مسبقا، روحا وشكلا، بالإعلان المستقبلي الصادرفي 8 أبريل 1904 والذي سيتم على أساسه التبادل الودي، وبموجب الشروط التي يتم الإعتراف بوجه خاص لفرنسا، في مقابل اعترافها بالحماية الأنجليزية على زنجبار، الإعتراف بـ”منطقة النفوذ بجنوب موقعها، في البحر الأبيض المتوسط حتى خط ساي على النيجير، إلى بارويا على التشاد”.
تدخل هذه المعاهدة الشهيرة التي تخلت لمخالب الديك الغالي، على أرض قاحلة في الصحراء، بالرغم من أن اللورد سالزبوري في الحقيقة قد عبر يوم التوقيع، بمصطلحات قوية، مختلفة عن تلك المعروفة برلمانيا، فقد ذهب يثير محاوره في مجلس اللُّوردات، بمخاطتبه أمام خارطة إفريقيا، متحدثا معه بهذه الطريقة:
“أنظروا مدى شساعة الإمبراطورية التي ستستولون عليها بإفريقيا الشمالية، لا أقول إنها ذات فائدة فورية لكم، بل هي إرث عظيم ستُنَمُّون موارده لاحقا”.
فما هي الصحراء في الواقع إذن؟
يخبرنا روبير مونتاني في مقالاته المتميزة المنشورة في etudes أبريل-ماي 1952: منذ نهاية القرن الثامن عشر غيَّر تدخل المحيط، ظروف العيش في الصحراء، بشكل جذري، على الرغم من طبيعتها العنيفة والمدمرة غالبا، بالغزوات البربرية.
لقد شهدت الصحراء الكبرى منذ أواخر العصور الوسطى نشاطا تجاريا مكثفا، قائما على طرق القوافل الكبرى التي ربطت مماليك السودان السوداء، التي كانت إسلامية إلى حد ما السودان، بشواطئ البحر الأبيض المتوسط، تطور التجارة البحرية الحديثة على سواحل خليج غينيا، كانت ستجعل هذه الأخيرة على وشك جذب تلك المبادلات تدريجيا، مما كان سيتسبب في تراجعات تدريجية لهذه الطرق الصحراوية، وعندما بدأ الغزو الغربي لإفريقيا السوداء، سيتكفل بإكمال ذلك التدهور، وستؤدي سرعة استتباب الأمن في المناطق الصحراوية إلى تغيير أعمق.
كما أن الإنهيار السياسي لعالم الرحل، أدى لزوال جاذبية الغارات وحملات النهب، ليحل محلها نموذج حياة مستقرة أكثر مادية، مما أدى إلى تسارع الحركة الكبرى التي كانت نوعا ما بطيئة في السابق، والتي كانت تحمل السكان دائما من قلب الصحراء، إلى أطرافها، وقد لخصها مونطان كالتالي:
نحن إذًا هنا أمام أرض خالية، حيث المشاكل الإنسانية لم تعد لها أهمية سياسَة، التطور كله طبيعي، لا لعب فيه، بل على العكس تماما، لا توجد عملية إخلاء.
نقترب لهذه الأرض القاحلة، انطلاقا من نقطتين: النيجر والتشاد، حدود جنوب الجزائر، وهكذا بدأنا تدريجيا باستكشاف الصحراء، لكن تقدمنا كان بطيئا، وكثيرا ما كانت تشوبه بعض النكسات، من جهة بسبب قلة عدد أفرادنا، وبقاء الجمل وسيلة النقل الوحيدة لدينا لفترة طويلة، ومن جهة أخرى، بسبب الظروف غير المواتية عموما، التي تُجرى فيها هذه الرحلات الإستكشافية، وما تنطوي عليه من مخاطر، غالبا ما تكون قاتلة، بما في ذلك صعوبة تحديد المعالم، والعثور عليها والتي عادة ما تكون مجرد حانات صغيرة، تحمل أسماء مختلفة، تختفي أحيانا بين معابر الطرق، مما يستدعي الإعتماد على مرشدين جريئين، غالبا ما يكونون أكثر تفانيا في كونهم على دراية واسعة، وغالبا ما يعتمدون على ذاكرتهم أو حدسهم.
وقد ألقت الإكتشافات المتتالية ضوء جديدا على الإستكشافات الفردية، التي انتقدت ظلما، والتي قام بها رينيه كاييه، أو كاميل دول، مما دفع المرء إلى الإعجاب بفطنة بعض المرشدين، وجرأة القادة، ودفع الملازم بيجو إلى كتابة تقريره، الذي قدمه إلى مؤتمر الرباط عام 1930 قائلا بأن “ضباط مِهَرِيسنا، بمساعدة رُحَّل الشّْعَابنا، هُم الذين اكتشفوا الصحراء الغربية حقا”.
في الواقع، إنه أكثر من مجرد إنجاز حقيقي للإكتشافات الجغرافية والعلمية، على غرار شارل دفوكو، لكن بوسائل أكثر ملاءمة لعمية التهدئة.
في مؤتمر الرباط نفسه، افتتح البروفيسور جان كاليسييه الذي شغل منصب الأمين العام للمؤتمر، المناقشات بعرض تقديمي بعنوان “مصلحة الصحراء الغربية لدراسة المغرب”، وبعدما أشاد هو نفسه أيضا “بالتنظيم الرائع للفرق الصحراوية الجزائرية”، أشار بشيء من الحزن إلى أن “هذا العِلْمُ الحَدْسـِيِّ الذي يفكر في الصحراء، لم يسهم المغرب فيه إلا بالكاد”.
بالرغم من واجهته الواسعة على الصحراء، ولكن عند التأمل، يمكن تفسير هذه المفارقة بسهولة.
ماذا يعني هذا؟ إنه (يتكلم باسم العلماء الفرنسيين).
تأخير طبيعي بسبب ما بين البلاد المجاورة للصحراء الموجودة تحت السلطة الفرنسية، والمغرب الذي هو آخرُ مَولُودٍ للعائلة الفرنسية، والذي كان من الضروري البدء بتهدئته، لكن أيضا لم يكن عامل الوقت هو الوحيد الذي يجب أخذه في الإعتبار، بل أيضا الخلافات العميقة بين جنوب الجزائر وجنوب المغرب:
“هناك عوائق كبيرة والمتمثلة في البعد والعزلة، هنا مقاومة الرجال شديدة كالتي للطبيعة، فالصحراء نفسها منفصلة عن المغرب الخاضع، (نحن في 1930) بسلسلة جبال يتراوح ارتفاعها بين 3.000 و4.000 مترا، حيث يعيش في الوديان شعب محارب متمَسِّك بشدة باستقلاله، بينما يواجه الإسبان على شواطئ المحيط، قبائل يصعب إخضاعها، إذ يغذي التعصب الديني روح القتال، إذ ما تزال رحلات طياري إيروبوستال حاضرة في أذهان الجميع، (وهكذا يختتم السيد سيليريي) بأن التقدم حدث من الشرق”.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك مدينة تندوف، تلك المدينة الغامضة التي تأَكَّدَ وجودُها من خلال استكشافات أوسكار لينز، عام 1860 وكاميل دولس عام 1887 والتي تثير اليوم الكثير من الطمع، منذ اكتشاف رواسب خام الحديد في غار اجْبيلات.
بالنسبة لشركاتنا الصحراوية في الساورة، مثلث تندوف لمدة ربع قرن، الأرض الموعودة، وكان هذا صحيحا بشكل خاص بالنسبة للقبطان موجين، الذي لمح حصنها في بداية 1914 على مسافة من قمة هضبة الدّْواخَلْ، دون أن يتمكن من الوصول إليها، بينما بعد بضعة أسابيع عبر رفيقه القبطان مانجين على الأرجح، سهل تندوف المِلْحي، ظنا منه أنه تيانجوك، وبالتالي مَرَّ أيضا دون قصد على بعد بضع عشرات الكلمترات من هدفه.
كان لا بد من انتظار ربيع 1925 كي يدخل القبطان روسي تندوف، بمساعدة ليوطنا بجكِيوط، روسي ود لَبرِّيِر دخلا تندوف قادمين من الشمال، بعد أن التقيا عند مصب الواركزيز على حافة درعة، المسلك القادم من طاطا، والذي يعرفه دليله، عاد منه في عام 1928 هذه المرة عبر الطريق الجنوبي، عين لَكْراعا والدّْواخَل الطريق الكلاسيكي لسلفه.
لم يجد سوى واحة صغيرة مدمرة من قبل الرقيبات، حيث تنتشر بها ثلاثة كصور تشهد هندستها المعمارية على ثراء الماضي، باستثناء عدد قليل من السكان الذين لم يصل عددهم الإجمالي المائة، الذي بدا وكأنه تم التخلي عنهم، من غير تفكير في العودة.

كانت هذه مجرد مهمات استطلاعية بسيطة، وبعدها ظلت إحداثيات تندوف غير مؤكدة، لم تُحتل الواحة نهائيا إلا في أبريل 1934 عقب عمليات التهدئة في جبال الأطلس الصغير.
الكولون الآلي للجنرال جيرود والكولونيل اتْرينْكيتْ، غادرا إلى درعة والذي لن يستغرقا سوى بضع ساعات للوصول إليها، قوات الإحتلال بالمغرب لم تشارك في الإختراق وتهدئة الصحراء، إلا بعد إنشاء القيادة العسكرية للحدود الجزائرية المغربية، بموجب أول مجموعة من المراسيم في 2 يبراير 1930، وقد أدت عدة إعتداءات في سنة 1928 لمقتل الجنرال اكْلافري بين تاجيت وكولومب-بشار، مما استوجب معه ردا حاسما، فتم تعيين قائد واحد هو الكولونيل جيرو الذي سيصبح جنرالا، والذي كان مقره في بودْنيب، وبما أن مثيري الشغب يقيمون، أو يجدون ملجأً لهم في المغرب، ووافق المقيم العام لوسيان سان على اعتماد التنظيم الجديد المتفق عليه، بين القوات الفرنسية بالجزائر والمغرب، على مراقبة التخوم الجزائرية المغربية، تحت القيادة المباشرة للجنرال قائد القوات في المغرب، ونتيجة لذلك، تم إنشاء قيادة عسكرية موقتة للمناطق الحدودية، تضم في المغرب المناطق المحددة بموجب مرسوم الإقامة، وفي الجزاير بعض المناطق داخل الإقليم العسكري لعين الصفراء.
ومع تحول مركز ثقل العمليات نحو الجنوب الغربي بعد احتلال تافلالت عام 1932، عَدَّلت المراسيم الجديدة الصادرة في 5 غشت 1933 والمكملة بتعليمات وزارية مشتركة في 10 أبريل 1934 هذا التنظيم، ونُقِل مقرُّه إلى تزنيت، تحت قيادة الكولونيل اتْرينكت، وتقلص هيكله الإقليمي على الجانب الجزائري بينما امتد جنوبا عبر كامل أراضي إفريقيا الغربية الفرنسية (l.A.O.f) شمال خط العرض 25 الموازي.
وقد تم الحفاظ على هذا الوضع الأخير، بل تم تعزيزه بموجب مرسوم 4 يونيو 1949 الذي عدل القيادة التي تسمى الآن قيادة الحدود الجزائرية الموريطانية المغربية، والتي ألغيت بمرسوم 18 يبراير 1956 الذي سبق ببضعة أيام استقلال المغرب ونهاية الحماية، والذي كان من المستحيل علاوة على ذلك أن تستمر.
لقد كان بالفعل تنظيما عسكريا بحثا، لا يؤثر بأي شكل من الأشكال في البنية السياسية للأراضي التي امتدعليها في الجزاير وغرب إفريقيا الفرنسية، حيث انبثق التنظيم بشكل مباشر، وطبيعي، من امتيازاتنا السيادية.
أما في المغرب، فقد انبثق من الحق الممنوح لنا بموجب معاهدة الحماية، في القيام به -بعد إخطار المخزن الشريف، بجميع عمليات الإحتلالات العسكرية الضرورية- لحفظ النظام والأمن، لذلك وبموجب مراسيم فرنسية، كلف المقيم العام بصفته الوصي على جميع سلطات الجمهورية، برسم الحدود المغربية التي يُرَادُ أن تكون جزء من منطقة التخوم -والتي هي دائما على نفس الخريطة-عسكرية بحتة، والتي تم تنفيذها سنة 1934، لتحقيق ارتباط قواتنا في موريطانية، والنيجر، وهو ما سيضع نقطة النهاية لتهدئة الصحراء، والتي تعتبر تندوف مجرد خطوة أولى منها.
في ظل هذه الظروف، لا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير مغادرة قواتنا واد درعة، كما خشي الجنرال كاترو للأسف، وليس من دون سبب، على أنها خلقت، وإن كان ذلك دون مبرر، وهما بوجود منطقة خلفية صحراوية للمغرب، أوضح الجنرال شاربونو الذي كان آنذاك أول رئيس أركان للقوات في المغرب لاحقا، أن العملية لم تُقَرَّر في الرباط، بل في باريز، وأنه تم توخي الحذر الشديد لمشاركة الوحدات الفرنسية فقط، مع استبعاد أي عناصر مغربية، علاوة على ذلك، فإن التعليمات الوزارية المذكورة آنفا الصادرة في 10 أبريل 1934 (كنا في تندوف منذ 31 مارس) حددت أن قيادة المناطق الحدودية لا تُعَدِّل بأي حال من الأحوال، حدود الجزاير وإفريقيا الغربية الفرنسية L,A.O.F، ولا تؤثر على التخوم الجزايرية المغربية، التي يجب أن يبقى تحديدها كما كان محفوظا بالتَّمام.
الإتـفـاقـيـات الـدبــلـمـاسـيـة
هناك عدد من المعاهدات، بعضها يحمل توقيع المغرب والبعض الآخر لا، وهي التي تتعلق بحدود الصحراء الغربية، وبالتالي تستحق الدراسة.
من جانب التخوم الجزايرية المغربية، معاهدة واحدة موقعة في 18 مارس 1845 مذكورة في بداية النص إلى جانب العديد من بروطكولات التنفيذ التي تحدد حدودا تمتد حوالي 150 كلم لغاية ثنية الساسي، التي علَّمت بالنسبة للجنرال التركي العجوز، حدود العالم المأهول الذي به سكان.
وأضاف أيضا، بأن الصحراء لا حدود بها مرسومة، لأن الأرض لا تُحرث، وتستخدم فقط للرعي، من قبل القبائل التابعة للإمبراطوريتين: لذلك يمارس كل عاهل سيادته بالطريقة التي يراها مناسبة لحقوقه على كامل رعاياه في الصحراء، ومع ذلك يوجد هناك أناس مستقرون في هذه المنطقة، كما أن المعاهدة التي ذكرت الكصور “قرى القِفَار” التابعة للمغرب “يِيشْ وفكيك” وللجزاير “عين الصفراء، الصفيصيفة، عسَّالة، تيوت، الَعْبِيال، وسيهموس” هذه القفار تقول حرفيا، بأن أي تحديد لها سيكون غير ضروري.
أول بروطكول تنفيذي وقع يوم 20 يوليوز 1901 بباريس، بعدما أرسل الوزير بن سليمان سفيرا لنا، على إثر احتلالنا واحات اتوات وكورارة، وتيدكلت، معترفا ضمنيا بهذا الإحتلال، بالإضافة للولاء للجزائر من قبل قبيلتين كبيرتين بالتخوم هما؛ دوي امنيع، واولاد جرير، كذلك النظر في إمكانية إنشاء مراكز للحراسة والجمارك، في المنطقة المحددة بواسطة معاهدة 1845.
إلا أن اللجنة التي ذهبت لعين المكان في بداية 1902 قررت بأن المقترح غير قابل للتطبيق، فتخلى عنه الطرفان طبقا للبرطكول الذي اختتم عمل اللجنة.
لم يكن هذا هو الهدف الرئيسي من الإتفاقية السالف ذكرها، الموقعة بالجزاير في 20 أبريل 1902، والتي ظلت معروفة باسم موقعيها، كوشمار-جيباس، إنها تُنشِئ نوعا من التوازي بين الأراضي الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى فكيك، والمناطق المعروفة بالصحراء (جنوب فكيك).
في الأولى سيكون الأمر متروكا للحكومة الشريفة لتوطيد سلطتها بدعم محتمل من الحكومة الفرنسية، وفي الثانية “ستُرسي الحكومة الفرنسية سلطتها، والأمن بمساعدة الحكومة المغربية المجاورة بكل قوتها”.
أقل ما يمكن قوله هو أن هذه الاتفاقية التي تم المصادقة عليها لاحقا، تعترف لنا بمجال نفوذ حقيقي جنوب فكيك.
يتبع…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
la frontiere saharienne du maroc :pp.645-650



