الحديث النبوي.. بين مشروعية الشك ومنهجية النقد
هوية بريس – د. طارق الحمودي
حاول المستشرقون قديما التشكيك في أهلية الأحاديث النبوية في بناء العقائد والأحكام، وتابعهم على ذلك فراخهم وأتباعهم، وقد فشل الأولون، وسيفشل الآخرون، وسر هذا أن منهج النقد الحديثي منهج علمي تطور في مدة طويلة جدا، وصار علما على التراث الإسلامي، ولا يوجد له مثيل في تاريخ المناهج النقدية العلمية، فهو منهج ظهر للحاجة إليه، أصوله في كتاب الله تعالى، وفروعه كثيرة جدا، وصار اليوم أصلا لعلم التوثيق في البحوث العلمية، إذ كان السؤال الذي أجاب عليه هذا العلم، هو، من قال؟ وهل قال؟
سيكون هذا المقال بلغة أكاديمية تعطي لهذا العلم حقه المستحق، سأتكلم بلغة “علم المناهج” الذي تعلمناه ونعلمه، حتى يفهم الناس الوجه الحقيقي لعلم الحديث وعلم روايته على جهة الخصوص، التلقي والأداء، بلغة المتخصصين، وليكف الجهلة عن حديثهم فيما لا يعرفون فيه “كوعهم من بوعهم” والله المستعان.
منهج النقد الحديثي عند علمائه نظام قائم على مركب منهجي، بسبب طبيعة النقد ومقاصده، فهو في جمع الطرق والروايات جردا وعرضا يقوم على المنهج الوصفي في بعده التقريري. وفي محاولة استقراء الحديث من مظانه وإعادة تركيب الحديث من ألفاظه للاقتراب من النص الأصلي ما أمكن، بالنظر في المتابعات والشواهد ينهج المنهج التوثيقي في بعده الجمعي.
وعند مقارنته بين الروايات لاستخلاص العلل والأخطاء يسلك طريقة المقارنة وفق المنهج الحواري ولأجل ذلك سأحاول أن أسلط الضوء على هذا التركيب المنهجي في مقال موجز وسأجعل المقال في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
مقدمة: في النقد الحديثي ومجمل تاريخه.
الفصل الأول: جمع الطرق وتصنيف المصادر.
الفصل الثاني: إعادة تركيب الحديث من رواياته.
الفصل الثالث: المقارنة بين الروايات وعلم العلل.
خاتمة: في خطورة النقد الحديثي بسبب المتطلبات المنهجية فيه.
مقدمة
يعتبر علم الحديث العلمَ الإسلامي المنشأ والمحضن الوحيد الذي يخدم ولا يخدم، فإن من المعلوم عند العلماء أن الإسلام كله عقيدة وشريعة نُقل بالأسانيد.. فالعربية نقلت بالأسانيد، بل حتى الشعر. ولذلك يستغرب الناظر من صنيع الإمام السيوطي في كتابه (المزهر في اللغة)، فقد بوب لمباحث الكتاب وقضاياها على طريقة كتب المصطلح وعلوم الحديث، بل إنه بوب للجرح والتعديل أيضا. وأما الشعر فيروى أيضا بالإسناد.
بل إن من كتب في مناقب الأئمة كالشافعي مثلا ذكر ما صح عنه من أشعاره بأسانيدها كابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهما، وكذلك الفقه والتفسير، بل والحكم الزهدية والأقوال المأثورة كما تجد ذلك في كتب الزهد المسندة، كالزهد للإمام أحمد ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك وأسد بن موسى والبيهقي، ومثلهم القشيري في الرسالة أيضا، وهو من كتب الصوفية. فضلا عن الأحاديث والآثار.
ولذلك كان علم الحديث أخطر العلوم أثرا إيجابا وسلبا، فاهتم العلماء منذ العصر النبوي من صحابة ومن بعدهم بضبط مناهجه وصياغة قواعده تحقيقا وتنقيحا، معتمدين على التنظير القرآني والتوجيه النبوي، فنتج عن ذلك علم تطور عبر قرون حتى نضج واكتملت معالمه اصطلاحا وقواعد في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف.
ومن المتفق عليه بين المحدثين أن آلة الباحث الحديثي ووسيلته ومادته الخام هي طرق الحديث ورواياته المبثوثة في كتب السنة المسندة بأنواعها، بدأ بالصحاح والسنن والجوامع والمسانيد والأجزاء والفوائد والمنتخبات والمجالس والأمالي وغيرها، وعليها يبني الباحث حكمه، ولذلك حرص المتقدمون على حفظ الأحاديث بمتونها وأسانيدها وإن تعددت، حتى كان البخاري يحفظ مائة ألف (100.000) حديث صحيح، أي متن مرفوع وموقوف ومقطوع بأسانيد لكل متن وإن تعددت.
فكانت لهم القدرة العجيبة على استحضار تلك المحفوظات وحسن تصور الحديث بطرقه ورواياته إلى درجة أنهم كانوا يختارون من أسانيد الحديث الواحد وإن ضعف، ويقدمونه على الأسانيد الصحيحة لنفس الحديث إيثارا للجانب الفني والشكلي للحديث، بل كانوا يستعملون سعة حفظهم للأسانيد لوضع رسائل مع مروياتهم كحال أول حديث في صحيح البخاري وآخره، فأول حديث رواته مكيون، وهو غريب الإسناد فرد، وكذلك آخر حديث إلا أن رواته مدنيون، وكأن البخاري أراد أن يقول: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، كما ورد به الحديث، وأراد أن يقول أيضا: إن الإسلام بدأ من مكة وانتهى في المدينة تنبيها إلى الهجرة النبوية المباركة.. وهلم جرا.
ومثله الدارقطني رحمه الله في حفظه، فقد كان يستطيع حفظ الأحاديث التي تملى في مجلس السماع مع كونه منشغلا بنسخ كتاب في نفس الوقت. وكان رحمه الله إماما من أئمة العلل يخطئ الثقات ويصوب الروايات كما في كتابه العلل.
الفصل الأول: جمع الطرق وتصنيف المصادر
تبدأ عملية المحدث للحكم على الحديث بجمع الطرق من مظانها ومصادرها، فيذكر لكل رواية مصادرها عنده وإن كثرت في نظام معروف، فيسميها مطلقا كما كان يفعل المتقدمون كالزيلعي في نصب الراية وابن حجر في التلخيص الحبير وابن الملقن في البدر المنير وغيرهم، بل ومن المتأخرين كأحمد شاكر وأحمد ابن الصديق الغماري، وبذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث كما هي طريقة مدرسة الألباني… فيحاول الباحث استقصاء روايات حديث ما تبعا للمنهج الوصفي في صورة التقرير العلمي في شكله الأول كما نبه عليه الدكتور فريد الأنصاري.
الفصل الثاني: إعادة تركيب الحديث من رواياته
يعمد الباحث الحديثي في جمع الطرق إلى محاولة إعادة تركيب متن الحديث كما صدر من اللسان النبوي، أو إعادة تصوير الفعل النبوي بأقرب صورة مطابقة، وذلك باستقراء تام أو شبه تام، بتتبع الروايات من المظان معتمدا على المنهج التوثيقي في بعده الجمعي، ويدفعه إلى ذلك سببان:
السبب الأول: أن غالب الأحاديث رويت بالمعنى، ولذلك حدث نوع من التصرف في الألفاظ النبوية.
السبب الثاني: أنه ليس كل الرواة يحرص على رواية كل الحديث لمراعاة مقتضيات الحال، ولأن كثيرا منهم قد لا يحضر كل الحديث فيسمع غيره ما لم يسمعه هو.
كما يعمد المحدث إلى الاستفادة من المتابعات والشواهد لتقوية الرواية واللفظ الحديثي أصله وزائده، وبهذا يمكن للمحدث إعادة تركيب الحديث، ليصحح سياقه، ويتمم معناه، ليجده الفقيه متكامل الأطراف فيسدد الاجتهاد ويحسن الحكم.
الفصل الثالث: المقارنة بين الروايات وعلم العلل
تواترت كلمات المحدثين في أن أصعب علم وأخطره في علوم الحديث هو علم العلل، وهو علم يعنى بتتبع واستكشاف أخطاء الرواة المقبولين بطريقتين: بملاحظة أفرادهم مع قرائن دالة على الخطأ، أو بملاحظة مخالفاتهم لغيرهم ممن هم أوثق منهم، وكل هذا وفق منهج حواري عن طريق المقارنة.
خاتمة: في خطورة النقد الحديثي بسبب المتطلبات المنهجية فيه
يتضح من خلال ما سبق صعوبة البحث الحديثي لانبنائه على ثلاثة مناهج متراكبة في سياق بحثي واحد، مما يتطلب تركيزا وذكاء وقوة ملاحظة، واستحضارا كاملا للقواعد العلمية والمعطيات الروائية، بطريقة تنتج تصورا متكاملا للحديث من جانبي المتن والإسناد، ومن ثم الحكم عليه بعد استيفاء الخطوات العلمية الضرورية عرضا وتعليلا.