الحركة التبريرية في حزب العدالة والتنمية
هوية بريس – محمد عوام
هناك التنويم المغناطيسي وهناك التنويم الديماغوجي السياسوي، وكلاهما يقصد إلى شل حركة الفكر، وقتل روح النقد، وتحريف وتزوير الحقائق، لاسيما إذا تعلق الأمر بقضية الثوابت والمقدسات. بعد التطبيع المشؤوم الذي تورطت فيه الدولة المغربية، وتورط فيه خاصة رئيس الحكومة وأمين حزب العدالة والتنمية الدكتور سعد الدين العثماني، ظهرت طائفة ممن ينتسبون إلى الحزب، تشكل بذلك ما نسميه “الحركة التبريرية” أو “فرقة المسوغة”، تبحث عن كل المسوغات الخرقاء ليتفهم المخالف سياق التطبيع ويلتمس الأعذار للمطبعين. وربطت ذلك، لتقنع الغاضبين من التطبيع، بالقضية الوطنية الصحراء المغربية.
وهذه الديماغوجية التبريرية لم تكلف نفسها أن تفرق بين القضية الوطنية التي ليست محل نزاع أو نقاش أو اعتراض، وبين التطبيع الخبيث مع كيان سرطاني يهدف إلى القضاء على الأمة بتفكيكها ودحرها، وتمزيق كيانها، واستغلال خيراتها، وهو عمليا محتل خبيث لفلسطين وللمسجد الأقصى أولى القبلتين، المسجد الأقصى المبارك، لا يعرف إلا القتل والتشريد ولازال متماديا في غيه.
مع الأسف تأتي الحركة التبريرية فتلتمس المسوغات الشرعية، فتسرق النصوص وتوظفها في قالب سياسي دماغوجي مع شيء من التحايل والخداع. فعندما تكون لك فئة من هذه النماذج، طائفة المسوغة فاعلم أن الحزب قد تودع منه. هذه الطريقة في السطو على النصوص، وإساءة توظيفها، اتباعا للهوى، ووضع النتيجة ثم البحث لها عن الأدلة لتعزيزها والتماس صحتها، بدل أن تكون الأدلة وفق قالب استدلالي صحيح هي التي تقود وتفرض النتيجة، هذه الطريقة المقلوبة المنكوسة هي التي نسبها الشاطبي رحمه الله إلى المبتدعة، ونحن اليوم ننسبها إلى المتسيسة، الذين يلوون الأحداث كما يلوون النصوص الشرعية. قال الشاطبي رحمه الله في بيان مأخذ أهل البدع بالاستدلال: “فليس نظرهم إذًا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر من حكم بالهوى، ثم أتى بالدليل كالشاهد له.”(الاعتصام 1/221).
وهذا بمثابة قلب لطريقة الاستدلال، إذ المفروض أن تكون المقدمات الاستدلالية وفق التحليل المنطقي والبرهنة، تفضي إلى نتائجها دون اعتساف أو لي للأدلة، وإنما لم يحصل ذلك، لمجرد أن صار الهوى مقدمة الاستدلال، والبرهان والحجة تابعان له، فلا جرم أن تكون النتائج فاسدة لفساد مقدمتها.
وهذا المسلك المنبثق عن اعوجاج في التفكير وكلل في الفهم، هو الذي جعل من الشاطبي رحمه الله أن يقرر طريقين في عملية الاستدلال والبرهنة، وهي عندي ليست قاصرة على مجال الابتداع في الدين، ولا هي أيضا محصورة في العلوم الشرعية، وإنما تتجاوزها إلى كل القضايا العلمية والبحثية، وهو ما نص عليه في معرض بيانه للسبب الثاني من أسباب الخلاف وهو اتباع الهوى، بقوله: “فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورًا فيها من وراء ذلك.” (الاعتصام 2/176).
ومعنى ذلك أن بعض الناس يتركون الدليل في مسألة أو قضية ما، وإنما يقدمون أهواءهم، فيصير بذلك الهوى وما تشتهيه النفس هو الفيصل والمرجع، وهذا ما نبه إلى خطورته الإمام الشاطبي بقوله: “وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء.” الموافقات 4/222. وأنا هنا أجمل الكلام من جهة الاستدلال، وإلا فخير مثال على ذلك استدلالهم بصلح الحديبية، فهو يدخل فيما ذكرت، ثم محاولتهم لربط القضية الوطنية قضية الصحراء المسلم بها ابتداء وانتهاء، مع قضية التطبيع مع الأوغاد الأنجاس.
بالأمس القريب صوت أعضاء حزب العدالة والتنمية في البرلمان على فرنسة التعليم فاطلع علينا ٱية الله التبريري وأمين الحزب يقولون أشياء يندى لها الجبين، تنم عن الغفلة السياسية، وضعف بعد النظر، فورطوا المغرب في فاجعة الفرنسة ورهنوه للفكر الاستعماري وجنوا على مستقبله، بل كان موقفهم موقف الخذلان للغة العربية، لغة القرآن الكريم، وقالوا ما قالوا من المسوغات. واليوم بنفس المنطق التبريري يريدون أن يعذرهم الناس عن أكبر الجرائم والكبائر وهو التطبيع، فهل بدَّل بعض أعضاء الحزب جلدهم، مثلما تفعل الحيات، أم أنه تغيير مرتقب، ولعله بدأ يذب في مسار الحزب، الذي يمتحن بمدى صموده على مبادئه وثوابت أمته، التي ظل ينافح عنها زمنا غير يسير.
إن أخوف ما أخاف على حزب العدالة والتنمية أن تنعكس عليه حالة من سبقه من الأحزاب الوطنية الكبرى، وتشمله عملية التفكيك وإعادة التركيب، وإن القضية الفلسطينية والقضية اللغوية كانتا المحك الذي عرف به الحزب، والامتحان الصعب والخطير الذي مر منه، ففشل فيهما فشلا ذريعا ومريعا، لا أدري ما يكون بعدها، وهل بقي شيء من الحياء للحركة التبريرية أو فرقة المسوغة، الذين يزيدون الطين بلة، أنصحهم بالسكوت والصمت، فلم يعد هناك صبر لتحمل كلامهم أمام هذه الفاجعة المهولة، فاجعة التطبيع، التي لم نكن نتخيلها، أن يجلس ابن الحركة الإسلامية بجانب عدو للأمة إسرائيلي خبيث، أليس في ذلك خيانة وإهانة لأبناء الحركة الإسلامية، أليست سابقة من غدر الزمان والخلان؟
وعلى كل حال فنعوذ بالله من الخذلان، ونعوذ بالله من التطبيع، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة، والله المستعان.