الحرية والمسؤولية
هوية بريس – د. إدريس أوهنا
نرى اليوم دعاوى محمومة ومتسارعة للتطبيع مع “اللواط” و”السحاق” باسم (المثلية)، ومع “الزنى” و”الفاحشة” باسم (العلاقة الرضائية)… وكل ذلك باسم “الحرية”، ودفاعا عن “الحرية”، وتقديسا للحرية، في عزل قسري لها عن شقيقتها “المسؤولية”.
وإذا لم ينفع مع هؤلاء زاجر “كورونا”، فأعلم يقينا أنه لن ينفع معهم إنذارهم ببطشة من الله تعالى أشد وأنكى إن هم تمادوا في كل هذا الغي والشذوذ والضلال!! ومع ذلك لزم إقامة الحجة عليهم، وتنبيه المتأثرين بسحر ادعاءاتهم، ببيان علاقة الحرية بنظيرتها المسؤولية بخطاب عقلاني هادئ يقوى على كنس أوساخ أباطيلهم، وتحطيم رؤوس أصنامهم؛ فأقول متوخيا الاختصار غير المخل، والتبسيط غير المسف:
إذا كانت “الحرية” هي: قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة، فإن “المسؤولية” هي: تحمل تبعات ونتائج ما يفعله الإنسان أو يتركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة كذلك.
والله تعالى عندما خلق الإنسان متعه بحرية الاختيار في كل ما يدخل تحت علمه وقدرته من التصورات والتصرفات، فلا يقع تحت الجبر والتسيير إلا فيما يخرج عن علمه أو يخرج عن استطاعته وقدرته كالموت والمرض وما شابه مما لا تسبب له فيه.
والغاية من ذلك أن تكون اختيارات الإنسان في هذه الحياة نابعة من داخله، محكومة بقناعته وإرادته، غير مفروضة عليه من الخارج، حتى في أكبر قضية دينية وهي قضية الإيمان والكفر التي قال فيها الحق سبحانه: {لا إكراه في الدين}، وقال: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وقال: {ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وغيرها من المحكمات والكليات الشرعية المقررة لحرية الاعتقاد، التي هي أعظم الحريات وأخطرها على الإطلاق.
وبناء على اختيار الإنسان يكون الحساب من الله، إن خيرا فخير، أو شرا فشر.
وبهذه الطريقة بنى الإسلام حس المسؤولية لدى الإنسان، أو بتعبير أدق: بنى فيه الحرية المسؤولة، التي هي وسط بين التسيب والفوضى وبين الإكراه والاستبداد.
فالحرية إذن شرط لبناء الوازع الداخلي أو الرقيب الذاتي الذي ينمي الشعور بالمسؤولية. كما المسؤولية شرط لترشيد الحرية وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، الذي يجلب النفع والصلاح ويدرأ الضرر والفساد.
الأمر إذن أشبه بقواعد نظام السير التي يلتزم بها مستعملو الطريق وجوبا والتزاما لضمان سلامة الجميع ركابا وراجلين، وإلا لو كان كل واحد حرا في أن يستعمل الطريق كما يريد لأزهقت الأرواح وانتشرت الفوضى.
وهكذا يقترن حق الحرية بواجب المسؤولية، بحيث تفقد الحرية معناها بدون المسؤولية، وتفقد المسؤولية معناها بدون الحرية. فالعلاقة بينهما إذن علاقة تلازم وتكامل؛ وكما يقال: “أنت حر ما لم تضر”.
ولقد جاء الإسلام بأرقى وأعظم ما يجعل الإنسان حرا ومسؤولا في الآن نفسه، وهو: تجريد العبودية والتوحيد لله دون سواه.
فإذا تأملت وجدت جوهر الحرية كامنا في حقيقة العبودية الخالصة لله وحده عن اختيار وليس عن إكراه أو إجبار. إذ بها يتحرر الإنسان من الخضوع لأي سلطة ضاغطة وسالبة للحرية كيفما كان نوعها.. يتحرر من عبادة الهوى، ومن عبادة البشر، ومن عبادة البقر، ومن عبادة الشمس والقمر، ومن الإذعان لأوامر الشيطان، ولمخططات بني صهيون والأمريكان،وكل أشكال الاستلاب والعبودية المدمرة لإنسانية الإنسان، والمهدرة لكرامته وحريته الحقة.
وبمقتضى تجريد العبودية والتوحيد لله يتحمل الإنسان مسؤولية اختياراته وأفعاله في هذه الحياة نحو خالقه، ونحو نفسه والناس من حوله، ونحو مجتمعه ووطنه، ونحو أمته، ونحو الإنسانية جمعاء، وكل ذلك عبادة في شريعتنا، ما وافق شرع الله وكان خالصا لوجه الله.
للأسف الشديد صارت كلمة “حرية” الجميلة الأنيقة تعني في وقتنا الحالي الانحراف والتسيب وعدم الانضباط، وعدم الاعتراف بقيد من شرع حنيف أو عرف صحيح أو عقل صريح أو فطرة سليمة…وذلك راجع إلى التصور العليل لهذا المفهوم النبيل، الذي فصل قسرا وبقصد خبيث ومغرض عن لازمه ومكمله ألا وهو “المسؤولية”.
ويغدي هذا الخلل والعور في الفكر والثقافة والسلوك الغزو الثقافي الغربي في ظل الاكتساح العولمي غير المسبوق، والذي صادف قابلية لدى كثير من المسلمين اليوم بسبب المسخ الثقافي، والخواء الروحي الناتج عن تصدع حصون العبوديةوالتوحيد، والارتماء بالمقابل في حمأة البهيمية والتقليد.
ويتحمل مسؤولية ذلك كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية من أسرة ومؤسسات إعلامية وتعليمية، فضلا عن مسؤولية مؤسسات الدولة في تحصين المجتمع وحمايته من هذه الرياح الوافدة والسموم النافذة والنعرات الحاقدة.
والخلاصة: وحده ذاك الذي تذوق طعم الحرية، وتعرف إلى جمالية المسؤولية، يستحق أن نقول عنه إنه إنسان.