الحضارة الغربية .. انحطاط قيمة الإنسان
هوية بريس – إسلام ويب
أصبحت الحضارة الغربية في عيون كثير من البشر جنة الأرض، وحلم كل إنسان أن يصبح واحدا ممن يرشفون رحيقها، ويرفلون في نعيمها، وازداد الأمر خطورة عندما خرج علينا من أبناء المسلمين من يبشر بهذه الحضارة، ويمجد فيها من كل نواحيها، ويدعو إلى الأخذ بكل ما فيها، وترك كل ما سواها، حتى وإن كان الدين الإلهي والوحي الرباني..
ففي نظرهم نحن لن نتقدم أبدا إلا بأخذ كل ما في هذه الحضارة، وبما أخذ به الإنسان الغربي ـ حلوه ومره، وحسنه وقبيحه، وطيبه وخبيثه ـ حتى قال بعضهم: “لابد من الأخذ بكل ما أخذ به الغربيون، حتى الأمراض التي عندهم والديدان التي في بطونهم!!
إن هؤلاء المخدوعين لم يروا في الحضارة الأوروبية إلا جانبا واحدا، وهو الجانب المادي ـ ولا شك أنها حققت فيه تقدما غير مسبوق ـ ولكنهم تغاضوا عن الجانب الأخلاقي الذي انحط في كثير من صورة في تلك الحضارة التي تكرس رفاهية الإنسان وتحقق له اللذة دون قيد أو شرط ..
وهؤلاء المخدوعون أعمتهم مساحيق التجميل التي تستر الوجه القبيح لهذه الحضارة أن يكتشفوا القيمة الحضارية الحقيقية للإنسان، والتي أفقدتها هذه الحضارة أي قيمة، وأضاعت معها استقراره النفسي، واطمئنانه القلبي، وسلامته الروحية، والتي بدونها لا يصبح لحياة الإنسان معنى ولا له قيمة.
يقول الأستاذ سعد القحطاني: “لقد قدم الإنسان الغربي نفسه على أنه راع للقيم الإنسانية، ورسول الأمن والسلام، ومبشر بالفردوس الأرضي المنحصر في عالمنا المنظور، فإذا به يستفتح عهد زعامته البائس بحربين عالميتين كادت البرية أن تفنى بهما، وقد هلك في هاتين الحربين فقط أكثر من سبعين مليون إنسان.
وحَصْدُ هذا العددِ من الأرواح يتطلب أسلحة أكثر فتكا وفاعلية من الأسلحة التقليدية، ولذلك وجه الإنسان الغربي إبداعه في ابتكار أسلحة الإبادة والإفناء، فصنع سلاحه الذري القادر على إفناء عشرات الألوف من البشر في لحظة واحدة.
فبعد تجريب القنبلة الذرية في فضاء صحراء نيومكسيكو آن أوان تجريبها على رؤوس البشر، فألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية؛ فهلك أكثر من سبعين ألف إنسان عند لحظة انفجارها، ثم اتبعت بأختها التي اغتالت عشرات الألوف من سكان مدينة ناجازاكي.. وكثير ممن كتب لهم النجاة من الموت المباشر ماتوا بعد ذلك قريبا متأثرين بالحروق أو السرطان أو التسمم الإشعاعي.. وبقي أثر هذه المأساة إلى سنوات عديدة عانى منها سكان المدينتين.
وبرهن الإنسان الغربي على كفاءته في التدمير والقتل، إذ فتك بما يزيد عن مائتي ألف إنسان بسلاح واحد.
ومما يزيل مساحيق التجميل من وجه الحضارة الغربية ويكشف زيف الإنسانية، النظر في تعاملهم مع الإنسان المنتمي لأمة أو حضارة أخرى غير حضارة الإنسان الأبيض..
وسنشير إلى واحدة من القضايا البشعة المعبرة عن انتهاك القيمة الإنسانية، وهي جريمة التجارة بالإنسان الإفريقي.
- تجارة الرقيق
لم تكن امبراطوريات الدول الغربية لتفجر ثورتها الصناعية إلا بوجود وفرة من الأيدي العاملة، ولم يجد الأوروبيون أنسب من سواعد الأفارقة لتحريك عجلة الإنتاج الصناعي وبناء العالم الغربي الجديد.
فقامت الدول الأوروبية بإنشاء مراكز لصيد الأفارقة على السواحل الإفريقية. ولم يكن الرجل الغربي المتحضر يواجه صعوبة في عمليات صيد فرائسه من الأفارقة البدائيين بفضل أسلحته النارية.
وقد كانت الحاجة ملحة إلى امتلاك أعداد ضخمة من العبيد كلما ازدادت مستعمرات الدول الاستعمارية وذلك لتأمينها بالأيدي العاملة، وعلى إثر ذلك ازدهرت تجارة العبيد، وفحش ثراء أصحاب المشاريع الصناعية، وتضاعف الإنتاج على حساب استنزاف القارة السمراء وإفراغها من سكانها ومقدراتها من المواد الخام.
تشير بعض الدراسات إلى أن عدد من تم ترحيلهم من القارة القديم يصل إلى مائة مليون إنسان أفريقي.. فقد أصبحت تجارة العبيد تجارة دولية، وعرفت هذه التجارة بالتجارة المثلثة؛ حيث كانت البضائع والسلع تنقل من أوروبا إلى إفريقيا حيث تستبدل هذه البضائع بالعبيد الذين يتم شحنهم إلى أمريكا وأوروبا، وهناك يستبدل العبيد بالبضائع لتنتقل مرة أخرى وتعود إلى أوروبا.
وكان من بين كل خمسة يتم ترحيلهم إلى أمريكا يسلم من الموت واحد فقط، أما البقية فكانوا يموتون بسبب العنف والقتل والمرض والجوع.
- السفول والانحطاط الأخلاقي
لو أن كاتبا أراد استقصاء جرائم الغرب في حق الإنسانية لكتب فيها مجلدات ضخمة. لذلك سننتقل إلى وجه آخر من أوجه الانحدار الأخلاقي في ظل زعامة الرجل الأبيض. وهذا الوجه هو السفول والانحطاط الأخلاقي ..
فقد شهدت الحضارة الغربية على نفسها بعجزها عن الرقي الأخلاقي، منذ أعلنت مركزية الإنسان وانفكاكه عن الوحي السماوي، ذلك أن كل محاولة لتأسيس منظومة أخلاقية منعزلة عن الدين هي بمنزلة بناء صروح على الرمال؛ لأن الأخلاق لا يمكن أن تبنى إلا على الدين.
في الحضارة الغربية أصبح الإنسان هو معيار ذاته، فقد يستحسن أحدهم ما يستشنعه الآخرون، وقد يحصل العكس، وهو ما يعبر عنه بالنسبية الأخلاقية .. أي أن الأخلاق فقدت موضوعيتها.
وحتى لا يكون كلامنا نظريا مجردا خذ هذا المثال الواقعي:
لك أن تتصور أن الشذوذ ـ وهو الرذيلة الأخلاقية القبيحة المفسدة للنوع الإنسان ـ لا يستطيع الإنسان الغربي الذي بقيت فيه بقية من الفطرة السليمة أن يصرح باستشناعها.
في أمريكا حكم على شاب أمريكي بالسجن ستة عشر عاما لمجرد أنه قام بحرق علم الشواذ، فحكمت عليه المحكمة بالسجن خمسة عشر عاما بسبب إهانة الشواذ، وسنة واحدة بسبب تهوره في استعمال النار.
في عام 2015 أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكما تاريخيا يقضي بمنح الشواذ حق الزواج في كافة الولايات الأمريكية (يعني يتزوج الرجل الرجل، وتتزوج المرأة المرأة).. وكان تعليق رئيس أقوى دولة في العصر الحديث في ذلك الوقت “باراك أوباما” هو أنه قال: “إن هذا الحكم انتصار لأمريكا وانتصار للحب”… تخيل!!!
تخيل أن هذا التمرد على الفطرة والانحراف عن سلوك البشر الأسوياء أصبح فعلا مشروعا يحمد الانتصار له، ويمجد من ضحى من أجله.
- منهج متوازن
ومع ذلك فإن من المكابرة أن نجرد الحضارة الغربية عن كل فضيلة، فقد أنجب الغرب عباقرة في مجالات الاكتشافات والاختراع ومختلف أنواع العلوم.
وبالمقابل لابد أن نشير إلى منهج النظر الصحيح في الحكم على الحضارات والأمم، فلا ينبغي أن يختزل النظر في جانب من الجوانب الحضارية، بل الواجب إعمال النظرة الشمولية.. فلا ينبهر الإنسان بقوة المنجزات الاقتصادية أو المادية إذا كانت على حساب انحطاط الإنسان الأخلاقي والقيمي وانفكاكه ـ جزئيا أو كليا ـ عن سلطة الوحي السماوي وفقدان حياته للمعنى.. فهذه المصانع المشيدة، والصواريخ المطلقة، والأقمار الصناعية الصاعدة لا ينبغي أن تغشي أبصارنا عن حقيقة الخواء الذي ينخر في روح الحضارة الغربية.
فالإنسان الذي كرمه الله سبحانه، وأسجد له الملائكة، وسخر له ما في الأرض جميعا قد أصبح في ظل هذه الحضارة عبدا للآلة أو ترسا في المصنع، روحه مكبلة في سجن المادة، لا يتغلب على مآسيه وآلامه إلا بما يهلك بدنه ويسلب روحه وعقله، من مسكر يشربه أو مخدر يتعاطاه.
لذلك كان ثمة تناسب بين ظاهرة الخواء الروحي وبين زيادة معدلات الانتحار.
- الانتحار .. الانتحار
فالإنسان الأوروبي الذي لا يعرف إلا المادة عاجز عن احتمال المآسي والآلام في ظل غياب المعنى والإمعان في النظر المادي للوجود. فبينما يصبر المسلم نفسه عند البلاءات باحتساب الأجر في الآخرة، فإن الإنسان المادي الموعود بالفردوس الأرضي تخبره ماديته بأنه لا سبيل لتخفيف هذه الآلام إلا بالهروب نحو الملهيات.. فلك أن تنغمس في مشاهدة الأفلام خالية من أي قيد، وحضور الحفلات الغنائية، والاسترسال في تتبع أدوات التسلية والترفيه.. فإن لم تتخلص بعد كل هذا من تلك الآلام، لم يبق أمامك إلا الخيار الأخير، وهو أن تلتقي بالعدم مرة أخرى.
- أزمة الإنسان الحديث
بعد أن نشرت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية إحصائيات جديدة تنبئ عن زيادة عدد الوفيات بسبب الانتحار في الولايات المتحدة زيادة مريعة منذ 1999م.
يشير الدكتور كلاري روتلبرج عالم النفس والسلوك إلى أزمة الإنسان الحديث وهي أزمة انعدام المعنى، حيث يربط بين الشعور بحالة انعدام المعنى في حياة الإنسان وبين شرب الخمر وإدمان المخدرات والاكتئاب والقلق.. ومن ثم الانتحار.
يقول كلاري: عندما يتعرض الناس لفقد المعنى والضغوط والصدمات حينها يكون للذين يعتقدون أن لحياتهم غاية قابلية أكثر للمواجهة وللتغلب على المحن والتعافي منها.
لذلك أصبحت حاجة الإنسان الغربي للانتحار أمرا متفهما، فنشأت في عدد من البلاد الأوروبية منظمات ومراكز تقدم خدمة المساعدة على إنهاء الحياة لتخفيف المعاناة والألم، وهو ما يعرف بالقتل الرحيم ..
وينظر إلى هذه العملية على أنها أحد تطبيقات الحرية الشخصية، فكل إنسان له الحرية المطلقة لوضع النهاية لحياته، وله الحق في الموت بكرامة (كما يزعمون).
وبعد كل هذا ـ وهو غيض من فيض ـ يتبين لنا أن الإنسان الحديث قد أصبح واقفا على الهاوية، وأن البشرية عادت تحتضر من جديد، وأن حاجتها اليوم ملحة إلى قيادة عالمية جديدة تستضيء بنور الوحي الإلهي فتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ضيق المادية إلى رحابة الإيمان، ومن عبادة المال إلى عبادة الله وحده، وتسعف الإنساني قبل هلاكها بترياق البشرية. (إسلام ويب)