الخلاف مع العلمانية مستمر.. والصراع وجودي

07 سبتمبر 2025 10:55

 الخلاف مع العلمانية مستمر.. والصراع وجودي

هوية بريس – إبراهيم الطالب

يحسب كثير من شبابنا أن الخلاف مع العلمانية هو خلافٌ حديث الوجود، هين القدر، ضعيف الأثر، إذ يعتبرونه خلافا في الرأي والقناعة، ويدرجونه في الخلاف الذي لا يفسد للود قضية.

إلا أن الأمر على النقيض من ذلك على الإطلاق، حيث نعتبر أن صراع الإسلام مع العلمانية في المغرب هو صراع وجود، فلا بقاء للإسلام مع العلمانية، رغم تدليس أتباعها عندما يقولون: إن العلمانية تقف من الأديان على نفس المسافة، ويزيد بعضهم مع التدليس قول الزور: إن العلمانية تحمي الدين من أن يدنسه السياسي أو يستغله، لهذا تفصله عن السياسة.

وسندلف إلى جوف هذا الصراع من بوابة التاريخ الذي لا نزال نعيش مراحله الحاسمة اليوم، وتحكمنا أحداثه على كل المستويات.

وسننطلق من نقطة مؤتمر الجزيرة الخضراء 1906، حيث ستتقرر المطالب التي سبق أن قدمها السفير طاياندي للسلطان المولى عبد العزيز، والتي جمع لها هذا الأخير قبل المؤتمر المذكور بسنة، ما سمي في التاريخ بمجلس الأعيان حيث استدعي حوالي 40 من أعيان المدن والقبائل والعلماء والقضاة، واستمرت المفاوضات من 29 يناير الى 30 ماي 1905، وخلص مجلسهم إلى رفض تلك المطالب معلنين مخالفتها للشريعة الإسلامية.

وبعد 6 سنوات كان السفير رينو يقتحم قصر سلطان الجهاد المولى عبد الحفيظ من أجل فرض الحماية على المغرب، في سياقات جعلت السلطان يتنازل عن الجهاد، ويختلف مع الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني بعد أن قبل السلطان بالمطالب الفرنسية، لينتهي المطاف بشيخ الجهاد ميتا تحت سياط سلطان الجهاد الذي أصبح يلقب بسلطان فرنسا، وذلك في ساحة قصر الخصيصات بفاس، لتتوالى بعدها سلسلة أحداث جسام أذنت بانطلاق مشروع الإصلاحات الكبرى التي عرفها المغرب والتي وضعته على سكة العلمانية والحداثة الفرنسيتين المختفيتين في تفاصيل كل المشاريع التحديثية التي أرساها الاحتلال.

من سنة 1912 إلى غاية 1956، تم خلال هذه المدة إخضاع المغرب لعملية تطوير قسري خطيرة جدا، شملت كل البنيات وأهمها التشريعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والاجتماعية والثقافية، فصارت تبنى في المغرب الكنائس وتوظف في حملات التنصير وأعطيت الرخص لفتح الخمارات، وكما أنشئت الشركات ومولت بالقروض الربوية ابتداء من طرف البنك المخزني، كما فتحت الملاهي الليلية ودور السينما ومحلات القمار، ونظِّم البغاء وأبيحت الزنا، وأنشأت الحماية المدارس الفرنسية لتربية وتكوين أبناء الأعيان، وهكذا بدأت القوة الناعمة تعيد صياغة الإنسان المغربي المستسلم، في حين كانت الجيوش الفرنسية والإسبانية تدك القبائل والقرى والمداشر والجبال والسهول، تلاحق المجاهدين الذين رفضوا أن يحكمهم الغزاة الكفار، ورأوا مجابهة الجيوش الغازية من أوجب واجباتهم الدينية، فبذلوا لذلك الأموال والأنفس، وقد استمر العمل الجهادي في المغرب إلى غاية 1934.

وفي سنة 1936 ألف ج. لادري دو لاشارِّيير (1) كتابه: “تهدئة المغرب 1907-1934” وبعد أن تحدث عن نهاية معارك غزو المغرب خلال ما سمته فرنسا (حروب التهدئة) قال متسائلا:

“هل العمل كامل؟ لا. ما زال هناك الكثير لتحقيقه غدا، وتجويده. لكن، منذ الآن، فإن ضباطنا، جنودنا، سواء كانوا بيضا أم سودا، من فرنسا الأم أو من مستعمراتنا أو من المغرب نفسه، هؤلاء الذين “هدّؤوا” المغرب و”فتحوه لنفسه” إن صح التعبير، قد ربطوا المصير الشريفي بمصير الأمة الحامية رباطا لا انفصام له.

ولا ينبغي أن يُنسى ذلك لا في فرنسا، ولا في العالم، ولا في المغرب. وبالأخص في المغرب، حيث يحقّ لفرنسا أن تطالب بحق في أن يُقرّ الجميع، من فلاحين وعلماء، من شلوح وفاسيين، بالاحترام إزاء هذا التكريم الذي تُقدّمه لخير أبنائها، الذين سقطوا من أجل انتشال هذه الأرض الإفريقية من فوضاها القديمة، لتزدهر اليوم تحت راية “السلام الفرنسي”.

فهل يليق بنا أن ننسى سلام فرنسا الذي كلف تحقيقه مئات الآلاف من أرواح نساء وأطفال وأبطال المغاربة؟

وهل يعي المغاربة من الجانبين العلماني والمسلم معنى وفحوى وماهية ربط المصير الشريفي بمصير الأمة الحامية والذي اعتبره “لاشريير Lacharrière” رباطا لا انفصام له؟

إنه العلمانية التي أرساها ليوطي خلال حكمه وتابعه عليها كل خلفائه، والتي قاومها المغاربة بكل فئاتهم، إنها الحداثة التي أقحمها الاحتلال مع التحديث، فلم يفطن لها البسطاء، وأُشْرِبها مَن تتلمذ على يد الفرنسيين في مدارسهم وجامعاتهم، وجعلوها شرطا للتقدم والنهضة، وبهذا نصبوا أنفسهم وكلاء على مشروع ليوطي يحرسونه ويحُولُون دون إسقاطه.

فبعد استسلام عبد الكريم الخطابي وانتهاء حرب الريف المجيدة بأقل من 10 سنوات انتهت معارك الجهاد التي كان يخوضها العلماء وطلبتهم والمجاهدون وقبائلهم التي كانوا يوجهونها ويقودونها وذلك سنة 1934، ثم بعدها سينتقل مشروع التطوير القسري للمجتمع المغربي إلى العمل بأعلى سرعة، وقد لعب فيه المغاربة الذين أشرفت على تكوينهم المدارس الفرنسية دورا مهما، وكذلك غيرهم ممن تأثروا وانبهروا بالاحتلال وإنجازاته في التعمير والإدارة.

يقول الجنرال كاترو في كتابه “ليوطي المغربي” أن المارشال ليوطي في 1921، في جوابه على مذكرة تنتقد إدارته على العمل بشكل انفرادي، قال: «..هناك حاجة لتكوين مستخدمين حكوميين شباب؛ يوجد في العائلات الكبرى المخزنية ومن حولها شبان يتكلمون الفرنسية أذكياء وطموحون، يجب استعمالهم إذا أردنا ألا نراهم ينحرفون إلى اتجاه آخر يكون ضدنا. هناك طاقات غير مستعملة، (…) من المفيد بالنسبة للحماية أن تُكوِّن مجموعة من المساعدين قادرين على تعويض الفرنسيين تدريجيا في كثير من الوظائف، كحل، بهذه الطريقة، للخصاص الحاصل في الأطر (…) والآن، عندما نكون قد علَّمنا النخب كيف تشتغل معنا، ولما نكون قد ضمنا لتطلعاتها ولطموحاتها منافذ في مستوى تاريخها وتقاليدها وكفاءاتها، لن نتخوف من أن نرى هؤلاء الشباب يتحركون خارج دوائرنا، وأن يخضعوا لتأثيرات خارجية ونزعات ثورية. لن يكون هناك سبب للفزع من ظهور جرائد أو دوريات عربية حرة، لكن موجهة ومراقبة من طرفنا. فهو على أي حال تطور حتمي لن نفلت منه، إنما يجب أن نستعد له» (2).

فكثير من معاوني الاحتلال وكذا من تتلمذ عنهم في المدارس خلال الأربعينيات والخمسينيات شكلوا طبقة مهمة من دعاة التغريب، الأمر الذي أحدث انقساما بالغ الأثر على مستوى النخب، تجلى في تبني بعض الأحزاب الوطنية للعلمانية مبكرا، ففي مباحثات “إيكس ليبان” وقبل إعلان استقلال المغرب أعلن حزب الشورى والاستقلال علمانيته وهو من أكبر الأحزاب الوطنية حينها، حيث يفيدنا بذلك العالم والمفكر والسياسي مولاي إدريس الكتاني في كتابه الذي ضمنه استقالته من الحزب المذكور والذي عنونه بـ: “المغرب المسلم ضد اللادينية” ولا تخفى أهمية العنوان بالنسبة لموضوعنا هذا؛ قال الكتاني رحمه الله:

“ولم يكد ينتهي المؤتمر حتى بدأ السيد عبد القادر بن جلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال بالمؤتمر والناطق باسمه -وكان يتألف من ثلاثة أعضاء آخرين من المكتب السياسي للحزب هم السادة محمد الشرقاوي وعبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة- بدأ يعطي تصريحات وأحاديث لمراسلي الصحف، كان يهتم فيها على الخصوص بالتنصيص على نقطتين رئيسيتين في نظره:

الأولى: أن الشورى والاستقلال حزب لاديني (لائكي) ولذلك فهو ديمقراطي تقدمي عصري.

والثانية: أن اليهود المغاربة يجب أن يشاركوا في إدارة الدولة المغربية وفي الحكومة الوطنية المقبلة التي ستنبثق عن حل المشكلة المغربية.

وكانت في طليعة الصحف التي نشرت هذه الأحاديث «الأبسيرفاتور» البريطانية و«فرانس أبسيرفاتور» الفرنسية”(3).

بعد حزب الشورى والاستقلال سينفصل شباب حزب الاستقلال ليشكلوا حزب الاتحاد لوطني للقوات الشعبية الذي سيتخذ لاحقا اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والذي سيتزعم الدفاع عن اللادينية، ويحارب ضد العلماء معتبرا أن الملكية والعلماء والدين كلها شيء واحد يشكل عائقا ضد مشروعه الاشتراكي الذي أرساه بنبركة وبوعبيد واليوسفي وآخرون. ليدخل المغرب سنوات الرصاص ثم الانقلابين ثم تصفية حركة الشبيبة الإسلامية بعد مقتل عمر بنجلون ثم إضرابات الثمانينيات ثم لنجد أنفسنا أمام حكومة التناوب التي خوصصت البلاد، ويسرت الانتقال بين العهدين، لكننا لم نجن من حكومتها سوى المزيد من العلمنة والمزيد من الحرب على المرأة والأسرة.

ثم يدخل المغرب مرحلة ما بعد أحداث 11 من شتنبر 2001، معلنا وفاة التناوب والاتحاد الاشتراكي بتنصيب إدريس جطو على رأس الحكومة، وبداية التحضير لحركة كل الديمقراطيين، التي ستولد من رحم السلطة ليمسخها العفاريت وحشا خرج بغتة ليلتهم فلول اليسار وعجائز الرفاق، الذين سيرفعون شعار: “محاربة أسلمة البلاد”، معلنين انطلاق قطار العلمنة فائق السرعة من محطة قريبة من القصر، ركبه كل تاجر سياسي وكل سياسي تاجر، كان أهمهم ولا يزال عزيز أخنوش، ولم يتوقف هذا القطار إلا بين قدمي عبد الإله بنكيران رأس الإسلاميين ليَخرج إخوانُه من السجون إلى تشكيل الحكومة تحت العاصفة التي أحدثتها رياح الربيع العربي، لنشهد بعدها مرة أخرى أحزاب الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والبام يشتركون في بلوكاج بنكهة انقلاب مضاد، سينتهي بتوقيع العثماني كبير البيجيديين على اتفاقيات التطبيع.

والغريب أن الحرب على إسلام الشعب المغربي، وشيطنة علمائه وتكميم أفواههم، والعلمنة المستمرة والتغريب المضطرد، لم ينتج كل ذلك عقلانية ولا ديمقراطية ولا تقدما بل زاد من معدلات الفقر والتخلف والهشاشة والفساد والتفكك الاجتماعي، كما انتعشت كل مظاهر التدهور وتطورت، فكانت الحصيلة هو إفلاس الاقتصاد والثقافة والسياسة، فصار “طوطو” يجمع في ليلة ما تجمعه كل الأحزاب في مؤتمراتها السنوية مجتمعة.

ولنا أن نتساءل: هل كان يدور في خلد أمثال موحا وحمو الزياني وعبد الكريم الخطابي وعسو وباسلام وكل المجاهدين -الذين قدموا بناتهم وأطفالهم وزوجاتهم فداء حتى يستمر الإسلام شريعة ومنهجا وهوية في المغرب-، أن يقوم أبناؤهم وأحفادهم بل وزراء بلادهم بعد استقلالها مدافعين عن اللواط والزنا باسم الحرية الجنسية وحماية العلاقات الرضائية.

إن صراع المغاربة الأحرار مع العلمانية هو صراع وجودي، ولا يمكن اعتباره اختلافا في القناعات والرؤى، فالمغرب بلد ظل يتحاكم إلى الدين منذ 13 قرنا، ولم ينقطع عن ذلك إلا بعد أن دخلت العلمانية على ظهر الدبابات الفرنسية كما رأينا، فكيف يلزم المغاربة باستصنام مخرجات مشاريع الاحتلال؟

وكيف تفرض على المغرب الرؤية الدولية للحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع التي تتماها مع ما رسمه قادة الاحتلال لمستقبل المجتمع المغربي المسلم الذي قاوم آباؤه وأجداد وقاتلوا وقتلوا حتى لا تُحكَّم القوانين والرؤى العلمانية الغربية في أبنائهم؟

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

————

1- (‏Jacques Ladreit de Lacharrière) (1881-1958) أكاديمي وأستاذ في École libre des sciences politiques، و (École coloniale)، والمدرسة الوطنية لفرنسا ما وراء البحار (École nationale de la France d’outre-mer). كما كان عضوا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم ما وراء البحار منذ سنة 1930. وعمل موظفا حكوميا ومستشارَ دولة، وشغل وظائف عليا في اللجنة الفرنسية لإفريقيا (Comité de l’Afrique française). ألَّف في سنة 1936 كتابه المذكور: « La pacification du Maroc, 1907-1934»

2- جنرال كاترو، ليوطي المغربي أو تطبيق الحماية بالمغرب، تعريب أحمد لقمهري، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء 2017.

3- إدريس الكتاني، المغرب ضد اللادينية، دار السلمي للتأليف والنشر والباعة والتوزيع، مطبعة الجامعة، الدار البيضاء، ص 10-11.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة