“الخناشيش” الصغرى وتنزيل نظرية أخنوش في المدن الشمالية
هوية بريس – حسن المرابطي
قد يكاد الواحد منا يجزم أن كلمة “أخنوش” الأكثر استعمالا في مواقع التواصل الاجتماعي في الأشهر الأخيرة، بل هي الأكثر إثارة للاهتمام حتى في الواقع الحقيقي، لاسيما بعد توليه رئاسة الحكومة أواخر سنة 2021؛ ومن المؤكد أن هذا الاستعمال ارتبط بشكل أساسي بغلاء الأسعار وتأزم الأوضاع الاقتصادية، خصوصا الارتفاع الصاروخي لأسعار المحروقات بشكل غير مفهوم حسب ما يؤكد بعض الخبراء في الميدان، فضلا عن خصومه السياسيين؛ إلا أننا، في هذه المساهمة، لا نريد مناقشة مدى جدية كل الآراء التي تجعل رئيس الحكومة السيد أخنوش هو الفاعل الرئيسي في رفع الأسعار لاسيما أسعار المحروقات، رغم وجود مؤشرات مختلفة تؤكد ما يذهب إليه كثير من المحللين، وإنما هدفنا هو محاولة الإشارة إلى درجة تنزيل “النظرية الأخنوشية لرفع الأسعار” على أرض الواقع من “خناشيش صغرى” ما لبثت تندد بما يفعله أخنوش بالمواطنين حسب زعمهم.
وعليه، عند الحديث عن موضوع رفع الأسعار لا يجب التركيز على جانب المحروقات فقط، أو بعض المواد الأخرى كالزيوت النباتية مثلا، وإنما لزاما علينا أن ننظر إلى الظاهرة التي تفشت مؤخرا وهمت جميع القطاعات والمواد، في جميع المدن والقرى، لاسيما المدن الساحلية السياحية التي تعرف توافد الزوار من مختلف المناطق خصوصا أبناء الجالية المغربية؛ ذلك أن ارتفاع الأسعار في هذه المدن، خصوصا المدن الشمالية مثل الحسيمة ومارتيل وفنيدق والمضيق والسعيدية، أصبح حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي وكل شخص التقيناه، أو تحدثنا معه، وسبق أن زار هذه المدن الشمالية؛ بل هناك من يستغرب موجة ارتفاع الأسعار والتي همت مجالات لم تتأثر بشكل كبير بارتفاع أسعار المحروقات، كبعض الخدمات (صنف المقاهي والمطاعم مثلا)، والتي سجلت ارتفاعا صاروخيا وصل في بعض هذه المدن إلى مضاعفة ثمن بعض الخدمات المقدمة للزبناء بدون سبب مقنع إلا معرفتهم المسبقة باضطرار الزبون لأخذ ذلك في غياب البديل.
لذلك صار الكثير من زوار هذه المدن، بل حتى سكانها، يتساءلون عن جدوى استنكار ارتفاع أسعار المحروقات علما أن المتحكمين فيها يعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، وإنما حصة الأسد تعود لشخص أو شخصين، في حين أن هذه القطاعات الخدماتية تتعدد أطرافها ولا تعود لشركات عالمية أو وطنية وإنما لأشخاص فرادى، لا تربط بينهم أي مصالح كبرى أو هيئات مهنية قوية تجعلهم يتفقون على الأسعار وغلائها، ورغم ذلك فإن الكل يلاحظ أن هناك شبه اتفاق على مضاعفة الأسعار وعدم تفعيل المنافسة بينهم لكثرة أعدادهم وتنوع مختلف الخدمات؛ بمعنى آخر، أن رفع الأسعار من طرف شركة رائدة تعود لشخص أو أشخاص أمر متوقع في عصر أصبح الإنسان فيه لا يفكر إلا في تلبية حاجياته واشباع رغباته فقط ولو على حساب معاناة الآخرين، لاسيما في قطاع لا يعرف وجود منافسين أقوياء؛ وفي المقابل، فإنه من غير المنطقي تسجيل ارتفاع الأسعار على مستوى بعض القطاعات الخدماتية والتي تعج بالمنافسة بين مواطنين أقل ما يمكن القول عنهم أنهم من الطبقة المتوسطة، أو بصيغة أخرى أولى الناس تأثرا بارتفاع الأسعار ويدركون حجم المعاناة التي تصيب الفقير، بل حتى الطبقة الوسطى.
وبالتالي، فإن الأمر الذي بدأ يشغل ذهن المستهلك، عموما، ليس هو ارتفاع الأسعار، وإنما نوعية العقلية التي تسود عند التجار والمشتغلين في قطاعات الخدمات والذين لا يرون بأسا في مضاعفة الأسعار دون مبرر اقتصادي في ظرف لا يعرف أي زيادات في المواد الأولية، أو زيادات لا تتناسب مع ما تعرفه الأسعار من ارتفاع في كثير من الخدمات غير الإقبال المتزايد فقط لكثرة الزوار وانتعاش السياحة الداخلية بالخصوص؛ بل الغريب في الأمر والمثير للجدل، أن هناك من أوقف تقديم بعض الخدمات لأنها لم تعد ترضي أصحابها من حيث الأرباح التي تحققها وحرمان مجموعة من المواطنين الذين ألفوا الاستفادة منها لاسيما الطبقة الفقيرة والمتوسطة، والاكتفاء بتقديم ما يدر ربحا أكثر خصوصا بعد مضاعفتها في فصل الصيف؛ لكن بعد انقضاء فصل الصيف يعودون لتقديم تلك الخدمات المهجورة حتى يستطيعوا البقاء متحمسين لاستقبال الصيف القادم لكي يتخلوا عن زبنائهم الفقراء كعادتهم؛ وحتى تتضح الفكرة أكثر، لابد من التمثيل بقضية تخلي بعض المطاعم عن تقديم الوجبات الخفيفة والرخيصة طيلة فصل الصيف، ليس لقلة المقبلين عليها وإنما لظنهم أن أرباحها ضئيلة مقارنة مع الوجبات الأخرى وباقي الخدمات الأكثر تكلفة؛ وكأن لسان حالهم يقول: “لا نريد فقراء في مطاعمنا، فقد سئمنا من رؤيتهم طيلة السنة”.
على سبيل الختم، نقول: قد لا نستطيع الإحاطة بموضوع ارتفاع الأسعار ولا الفلسفة المتحكمة فيها، ولكن يكفي الإشارة إلى بعض النقاط كما سلف معنا أعلاه، حتى ندرك حجم الأزمة التي نتخبط فيها، ولا نقصد الأزمة الاقتصادية وإنما الأخلاقية؛ ذلك أن ارتفاع الأسعار ليس حدثا متعلقا بزماننا فقط أو بلدنا، ولكن ما يجعله حدثا غير طبيعي هو أنه لا يخضع لأي قانون أو منطق تجاري واقتصادي، لأن هناك دول رائدة في عالم السياحة وتقدم خدمات أكثر احترافية مما يقدم في مدننا الشمالية المغربية ولكن دون أن نسمع من يشتكي من ارتفاع الأسعار دون مبرر؛ بل على العكس تماما، فزوارها يتمنون زيارتها مرة ثانية وثالثة لو أتيحت لهم الفرص؛ كما أن الأمر الأكثر إيلاما ويحزنا في نفوسنا هو أن الفكرة التي يعاديها الجميع، وينسبونها لمالكي الشركات الكبرى مثل السيد عزيز أخنوش رئيس الحكومة المغربية ورئيس مجموعة إفريقيا، وهي استغلال الظروف لكسب أرباح مضاعفة، كما يكتب عليها الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي ويشتكي منها معظم المواطنين في الواقع، لا يبدو أنها حكرا على تلك الشركات الكبرى أو الشخصيات النافذة، وإنما للأسف هي مبدأ الكثير منا إن توفرت له الشروط والإمكانيات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مثلُ هذه الأُمَّةِ كمثلِ أربعةِ نفرٍ، رجلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وعلمًا فهو يعملُ بعلمِه في مالِه يُنفقُه في حقِّهِ، ورجلٌ آتاه اللهُ علمًا ولم يُؤْتِه مالًا فهو يقولُ لو كان لي مثلَ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: فهما في الأجرِ سواءٌ؛ ورجلٌ آتاه اللهُ مالًا ولم يُؤْتِه علمًا فهو يخبطُ في مالِه يُنفقُه في غيرِ حقِّهِ ورجلٌ لم يُؤْتِه اللهُ علمًا ولا مالًا فهو يقولُ لو كان لي مثلَ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فهما في الوِزْرِ سواءٌ.
وبالتالي، قبل محاربة غلاء الأسعار لابد من محاربة الفلسفة التي نتبناها والتي لا تظهر إلا حين تتوفر لها الشروط المناسبة، وهذا ليس دعوة لترك الشركات الكبرى فعل ما تشاء ولكن في المقابل العمل بالموازاة على المطالبة بتخفيض الأسعار، تصحيح، بل، معالجة قلوبنا التي تحمل من البذور ما يضاهي ما تترجمه من تحكم في السوق واحتكر بعض المنتوجات.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.
اللهم لا تجعلنا من الذين يقولون ما لا يفعلون.