الدعوي والسياسي.. هل دقت ساعة البلوكاج الفكري؟
هوية بريس – امحمد الهلالي
استعادت اشكالية الدعوي والسياسي حيويتها من خلال النقاش الداخلي الدائر في النقاش العمومي الجاري حول حزب العدالة والتنمية وفي اعقاب بعض التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين في حركة التوحيد والاصلاح قبيل المؤتمر السادس للحركة، وقد اثيرت في هذا النقاش دفوعات جديدة لنفس الاسئلة القديمة لكن بمواقف جديدة تدور اساسا حول فكرتين، الاولى تتعلق بالفصل بين الدعوي والسياسي بحيثيات مغايرة، والفكرة الثانية تدعو الى فك الارتباط بين الحركة والحزب وذلك من زاوية مخالفة وبمبررات مختلفة. لكن الحركة وهي تراجع الوثائق المؤسسة ومنها ميثاق الحركة والرؤية السياسية رفضت الفكرتين مؤكدة ان الدعوي والسياسي هو مسار قبل ان يكون قرارا.
إن الاشكال الاساسي هنا يمكن طرحه من خلال الاسئلة التالية:
– ما هو المتغير الذي استجد وتطلب هاته الاستدارة في تغيير الموقف من التمايز الى الفصل خاصة لدى بعض من ظل يدافع عن الكعس؟
– فما جديد هذا النقاش وما دواعيه وما هي المستندات التي تتاسس عليها كل فكرة على حدة.
– هل الفصل في ما هو تنفيذي باعتباره جزءا اصيلا في اطروحة التمايز لا يفي بالغرض ام ان الفصل يستبطن موقفا جديدا اتجاه الحركة على اثر تشبثها بمبدأ سمو المؤسسة رغم مكانة الاشخاص؟.
– ثم ما ذا بقي في علاقة الحزب بالحركة يستوجب ان نفصله عنها ؟ بل من جهة الحزب هل ما زال هنالك من شيء يتوجب فصله في ضوء استلال الهيئتين والتنافي في المسؤوليات التنفيذية وامتناع رموز الدعوة والتربية والتنظيم والعمل الاجتماعي من العمل الانتخابي ترشيحا ودعاية؟
لهذا سنناقش كلا الموقفين ومرتكزات كل منهكما كما يلي:
الفصل بين الحركة والحزب:
تم طرح فكرة الفصل بين الحركة والحزب بشكل فجائي ومعزول عن السياق المعتاد لمناقشة هاته الاشكالية ماعدا سياق السجال الذي تم حول الولاية الثالثة . وهو سياق تميز بمحاولة جر الحركة الى التموقع في هذا النقاش في بادئ الامر ثم تحميلها مسؤولية رفض هذه الخطوة ورفض هذا المسعى، وسط قاموس جديد من التبخيس لمفاهيم دعوية وحركية من قبيل الجماعة التي اصبحت تمثلا للطائفية وكذا للخطاب الاسلامي المؤسس على المنهج، أو المستحضر للمبادئ والقيم فضلا عن تقديح النقاش المحتكم الى احترام القوانين والمساطر.
ان الدعوة الجديدة الى الفصل بين الدعوي والسياسي في حقيقتها هي دعوة الى ابعاد الحزب عن الحركة محكومة بمجموعة من الدواعي والمبررات اهمها انها تعتبر مجرد رد فعل نفسي وموقفي اكثر من استنادها الى بناء فكري ومعرفي كما هو دأب النقاش في مثل هاته القضايا. كما انها جاءت في الاتجاه المعاكس للمسار الذي قطعه التفكير في هذه الاشكالية، ومثل انقلابا حادا في قناعة بعض من عرفوا طيلة هذا المسار برفض هاته الفكرة من اساسها والتنظير لعكسها مبدئيا ومصلحيا، واعتبارا في مقام اخر لكون الحركة والحزب يمثلان في العمق وحسب وجهة نظر هؤلاء، وجهان لعملة واحدة وبحسبان السياسة ليس سوى فرع عن الدعوة التي هي الأصل.
وعلى هذا الاساس فالمسار كان دائما يتجه نحو استكمال تنزيل اطروحة التمايز بوصفها خيار متدرج وتراكمي للتركيب المبدع بين رأيين ببدوان متعارضان وهما الوصل التطابقي والفصل التنافري للوصول الى التمايز الذي يجسد الفصل التمايزي في كل ما هو تنفيذي وتدبيري من ناحية، والوصل غير التطابقي في المبادئ والقيم والفكر . ولذلك كانت كل محطات المراجعة تمثل خطوة متقدمة في هذا المسار وليس ارتدادا عن قرار تم التاصيل المعرفي والفكري والشرعي له، وجرى التقعيد التنظيمي والعملي لمقتضياته، الى ان اكتمل صرح هذا النموذج المغربي في تدبير واحدة من اعقد الاشكالات في السياسة المعاصرة على مدى عشريتين كاملتين من النقاشات والمراجعات ومصلحا ان مثلت الهيار الثالث للحمع بين استناد الحزب الى المرحعية الاسلامية وبين تجاوز هواجس بعض النخب التي ضغطت من اجل حمل الحزب على التخلي عن المرجعية في اعقاب اتهامه الباطل بالمسؤولية المعنوية.
ومن هنا ففكرة الفصل التي طرحت بدون سياق ودونما اي تأصيل شرعي او نقاش فكري او معرفي على غرار ما تم بشأن اطروحة التمايز، تبقى محكومة برهانات غير تلك التي اطرت سياق طرحها، ذلك انها سيقت بمنطق تبريري محكوم ببعض المواقف التي تنتمي في احسن الاحوال الى التقديرات التدبيرية وليس الى المستندات التنظيرية.
مع اطروحة التمايز كان المحدد الاساسي هو مصلحة الدعوة وتأمين اداء الحركة لوظائف الدعوة والتربية والتكوين ولكي تظل هاته الوظائف في خدمة الجميع وعنصر في التأليف والجمع وليس اداة للتفريق والاختلاف والتنازع، وان يبقى الخطاب الدعوي خطابا مرحميا لا اتهاميا تطاوعيا وليس تنازعيا رساليا للناس كافة وليس نخبويا خاصا بفرقة ناجية او طائفة منصورة من دون الناس.
اما مع فكرة الفصل فقد اصبح الفهم الخاص لمصلحة الحزب هي المسوغ ومزاعم تحرير السياسة من هيمنة الطائفة هي المبرر والحجة والسجال والمناكفة بين أبناء الحزب الواحد واحتجاج هذا الطرف على الاخر هو المستند.
عندما كان الحزب في حاجة الى الدعم ظلت الحركة هي المشغولة بمصلحته وبتأمين الدعم الضروري له وفي نفس الوقت تجنيبه كل الاحراجات بتجنب كل الشبهات التي يمكن ان تشوش عليه، سواء في قضية الخلط بين الدين والسياسة أو في مسائل توظيف الدعوة لاغراض انتخابية . ولهذا الغرض منعت الحركة الخطباء المتعاطفين منها ورموز الدعوة والتربية والعمل الاجتماعي المنتنين اليها، فضلا عن مسؤوليها في التنظيم في جميع المستويات من الاسهام المباشر في العمل السياسي والانتخابي ليس ترشيحا وحسب، ولكن حتى على مستوى الانخراط في الدعاية الانتخابية، بل وفي اهر قراراتها بهذا الشأن ابعدت مقراتها ومجالسها التربوية عن اي عمل حزبي انتخابي، واعتبرت ذلك من صميم اطروحتها للتمايز لا الفصل، التي تؤكر نظرتها الى العلاقة بين الدعوة والسياسة ومن صميم الاستقلال بين هيأتين تجمعهما شراكة استراتيجية معلنة وغير مخفية . هذه القرارات اتخذت بمبادرة من الحركة ليس لفائدة الحزب وحسب، ولكنها لفائدة تدبير الشأن العام الوطني ولفائدة الاختيار الديموقراطي بوصفها جزء من اطروحة معرفية ومراجعة فكرية وجزء من رؤية تجديدية في تصور الاسلاميين المعاصرين للفكر السياسي الاسلامي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في معرض استحضار هذا التطور الطبيعي هو هل يصبح كل هذا المسار بجرة قلم مجرد “رهانات جماعة” ولو على حساب “الفكرة الاصلاحي” وتغليب” مصلحة الجماعة” على “انتظارات المجتمع” يا للعحب!!.
مفارقة اليوم هي انه في ظل القوة التي اصبح يتمتع بها الحزب، وفي ظل عدد المكاسب الديموقراطية التي راكمتها بلادنا بجهود الجميع وبدور معتبر لهاته الاطروحة المجددة، تاتي هاته الدعوة الى الفصل بين الحركة والحزب او قل الى تخليص الحزب من الجماعة وتحرير السياسة من الدعوة وابعاد الدنيوي عن الديني.
عندما كانت الحركة تخوض في نقاشات نظرية بهذا الخصوص وتبحث في الحجج المعرفية لبناء اوفق علاقة تجمع بين الدين والدنيا وبين الدعوي والسياسي وبين الحركي الحزبي، في غير ما خلط استغلالي ولا فصل تنافري، كان مناضلو الحزب مشغولين باسئلة السياسة الحارقة وقضايا التدبير المنهكة، مطمئنين الى نتائج تفكير لا يأتي الا بما يخدمهم ولا يصب الا في مصلحتهم، لكن اليوم وفي ظل تداعيات البلوكاج الذي جاءت دعوة الفصل هاته في سياقه، بوصفها جواب عن خلل طارئ وفجائي تدعي ان “جماعة تكبل حزبا” و”طائفة لا تساير المجتمع” و”دعوة يتعين فصلها عن السياسة”.
في تقديري فإن فكرة الفصل بين الدعوة والسياسي ليست هي المشكلة ولن تكون هي الحل . والمشكلة هي في منهجية طرحها وسياق اسقاطها . فمن جهة لا تعدو هاته الفكرة ان تكون مجرد عودة الى منهجية التفكير بالخيارين المتقابلين وتراجعا عن المنهجية التي تقوم على قواعد تفكير من قبيل “الجمع اولى من الترجيح” وطريقة التفكير بالتركيب والخيار الثالث، ويخشى اخيرا ان تنم عن تعاطي استعمالي مع فكرة معينة بحيث يتم تبنيها عندما تخدم رأيا او موقفا او تموقعا معينا، ثم يتم رفضها عندما لا تساير الموقف أو الموقع ذاته .
قد يكون لفكرة الفصل هاته بعض الوجاهة لو جاءت نتيجة جهد مضني من التفكير وكتتويج لمسار طويل من التنزيل او وردت بناء على طلب رسمي من احدى الهيئتين المعنيتين في الحزب او الحركة او حتى في سياق التفاعل الايجابي مع واقع يدعو الى اعتمادها . اما ان تكون في سياق رددود فعل بعض الاشخاص او تسويقا لتقديرات شخصية غير مقنعة فذلك كاف لمعرفة مدى صلابتها.
في الجزء الموالي من المقال: فك الارتباط بين الحركة والحزب.