الدكتور الحسين أيت سعيد يكتب مقالة نفيسة في موضوع “شراء الأضحية بالاقتراض”
هوية بريس – إبراهيم الوزاني
توصلت “هوية بريس”، بهذا المقال للدكتور الحسين أيت سعيد، من الأستاذ عبد السلام أيت باخة، حيث كتب هذا الأخير: “بعث لي شيخنا العلامة فضيلة الدكتور الحسين أيت سعيد حفظه الله بمقالة نفيسة في موضوع شراء الأضحية بالاقتراض، هذا نصها:
موقف الشريعة من شراء الأضحية بالاقتراض
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه المرتضى، ورسوله المجتبى، سيدنا محمد بن عبد الله، أكرم الخلق على الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد ثارت ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي حول شراء الأضحية بالاقتراض، وتباينت الآراء في الموضوع، واختلط فيها ما هو رأي محض، ووجهة نظر شخصية، بما هو شرعي ديني يعتقد ويعتمد، فحار الناس فيما يأخذون من ذلك وما يَدَعون، ومن يتبعون قولَه ومن يتركون، وزاد من حيرتهم ما يقرؤونه عن الموضوع في عشرات المواقع الالكترونية، والصحف والمجلات المتخصصة وغير المتخصصة.
وهذه الزوبعةُ، تثار كل سنة بمناسبة قرب عيد الأضحى، وكأنها كل عام نازلة جديدة لم تعالج من قبل، والحق أنها عولجت منذ زمن بعيد، لكن بعض الناس لا يقرؤون، أو يقرؤون ولا يفهمون.
والأمر لمّا يتعلق بالشريعة، يدلي فيه كلُّ أحد برأيه واجتهاده الخاص كأنه عالم متخصص، ولمّا يتعلق بالدنيا، لا يخوض فيه إلا من أحسنه وقتله بحثا، وواكبه حينا من الدهر، وكأنّ الدين حلبة مفتوحة لكل الآراء الصحيحة والباطلة، والمقبولة والمردودة، والصحيحة والضعيفة، والشاذة والمنكرة، والغالية والمقصرة، وكلها عند الناس في كفة واحدة بحجة أن الدين للجميع، وحق للجميع، وهذه كلمة حق يراد بها باطل، فالاقتصادُ حق للجميع، والطب والفيزياء والرياضيات والهندسة، حق للجميع، ولكن لِما ذا لا يتكلم في هذه إلا من أحسنها وتخصص فيها، ولا تكون ساحة مفتوحة للإدلاء فيها بشتى الآراء كما هو الحالُ في الساحة الدينية، أذلك راجع إلى احترام الناس عقولهم هنا، وفقِدها هناك، أم أن الأمر يرجع إلى إهانة الدين وتقديس ما سواه، أم ماذا؟ فمجالُ هذه الأمور كلها، مجال واحد، وهو المجال العلمي الذي يقتضي التخصص من الخائض فيه، والسكوتَ ممن ليس كذلك، وقديما قيل: “لو سكت من لا يعلم، لقلّ الخلاف”.
وهذا الجدل لم يراع الناسُ فيه أبسط القواعد العلمية، ولا المسالك المنهجية، ولا الدلالات السياقية الواقعية التي تقتضي من صاحبها أن يحترم عقله وعقل غيره من الناس.
ومن احترام المرء لعقله، أن لا يدخل فيما لا يحسنه، وأن لا يتولج المضايق التي تزري بسمعته ومروءته، وتسقط كرامته، فيصبح مهانا بعد ما كان مهيبا.
ومن احترامه لعقل غيره، أن لا يضله، وأن لا يغشه بإخفاء الحقيقة عنه، فإضلالُ الناس عن الجادة السوية، ذنب عظيم، وجرم كبير في حقهم يدل على فقد وازع الإيمان، وعدم استشعار مراقبة الله، وذلك لا يعَدّ في نظر الشرع ذنبا في حق شخص بعينه، وإنما هو جرم في حق البشرية كلها، لأن وصف الآدمية يشملهم جميعا، كما قال تعالى: “فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين”.
فالآية بنصها قد سمّت من فعل ذلك، ظالما، ومفتريا، وكاذبا، ومضلا، وجاهلا، وضالا، ويكفي وصفٌ واحد من هذه الأوصاف صاحبَه شناعة وقبحا، فكيف إذا اجتمعت فيه كلها.
ومن أعظم الذنوب أيضا القول على الله وعلى شرعه بغير علم، وذلك محرم قطعا بالنص والإجماع، قال تعالى: “ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا” ولا يختلف العلماء في أن هذا النهي للتحريم القطعي.
وقال تعالى: “قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون”.
فتدرج الله تعالى في ذكر هذه المحرمات من كبيرها – وهي الفواحش – إلى أكبرها وآخرها في سلم الترتيب وهو القول على الله بغير علم.
والقولُ على الله، لابد أن يكون بعلم ينفي الريب، لا بظن وتخمين وحدس، ورأي مجرد، وانطباعات شخصية، فهذا إن كان يصلح في بعض شؤون الدنيا وتقدير مصالحها، فلا يصلح في باب الإخبار عن الله، أو رسوله، أو شريعته، لأن هذا له طريق واحد، وهو العلم الذي تدرك به الأشياء على ما هي عليه، فمن ليس عنده علم بذلك، فالسلامة له في سكوته، وإن شاء أن يبدي رأيه، فليبده في شيء غير هذا، وآنذاك إن أخطأ فإنه يعذر نوعا ما.
والشريعة لم تأت لترضي جميع الأذواق، ولا لتسير مع جميع الأهواء، ولا لتزكي جميع التصرفات، لأن من الأذواق ما هو فاسد، ومن الأهواء ما هو جامح غير منضبط ، ومن التصرفات ما هو غير رشيد ولا ناضج، وإنما أتت لبيان الحق والحقيقة للناس، وتبصيرهم بما ينبغي فعله واعتقاده، وإخراجهم من أهوائهم الضيقة إلى فضاء الحق الواسع الشاسع، قال الشاطبي في الموافقات: -3/393/ النوع الرابع المسألة الأولى – “المقصد الشرعي من وضع الشريعة، إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبد الله اختيارا، كما هو عبد الله اضطرارا”.
وهذا الكلية مأخوذة من قوله تعالى: “ولو اتبع الحقُّ أهواءَهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن”.
وقال تعالى لنبيه آمِرا ومحذرا: “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”.
فأمر الله تعالى نبيه إلزاما باتباع الشريعة، ونهاه تحريما عن اتباع أهواء كل ناعق ممن لا يعلم، وبذلك وضّح له النهج الذي يسير عليه، وهو نهج الشريعة الذي هو صراط واحد لا يتعدد، وما سواه من الأهواء، سبل متعددة، يهلك الإنسان في أوديتها، فما من رأي مجرد، إلا ويقابله عشرات مثله، ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية، وما ذاك إلا لأن الهوى حليف الخطل والخطأ، ومرتع الشيطان المفضَّل لديه، ومسلكُه الفضفاض الذي يدخل منه على الإنسان فيضله عن الحقيقة. وتبصيرُ الناس بالحق والحقيقة وما ينبغي فعله واعتقاده، من وظائف العلماء، فمن استجاب فبتوفيق الله، ومن نكص على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ولا يؤثر نكوصه في الشريعة بشيء؛ ولا يغيّر من الحق والحقيقة شيئا، فالحقائق تبقى حقائق ولو تنكر لها الناس جميعا؛ لأن قوتها تستمدها من اسمه تعالى “الحق”، كما قال تعالى: “ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما تدعون من دونه الباطل”، وما كانت قيمته مستمدة من الله، فلا يتغير بتغير الآراء، والأذواق، والزمان والمكان، بل يبقى ثابتا شامخا، مرفوع الرأس يشهد على نفسه أنه آية من آيات الله. وهذه الأمة المحمدية المرحومة، أمة فيها خير كثير؛ لأنها ما زالت تسأل عن أحكام الله تعالى، وتربط معظم أمور حياتها بها، وتعمل بها ما استطاعت، رغم تكالب الأعداء عليها لإخراجها من دينها كليا إن استطاعوا، أو جزئيا إن لم يستطيعوا، ولن يكون لهم بإذن الله ذلك، لأن الله تعالى تكفل لنبيه صلى الله عليه وسلم بحفظ أمته من الضلال، فهي أمة لا تموت بالمرة، ولا تنسلخ من دينها كليا، رغم ما يصيبها من عوارض الانحراف؛ وتلك العوارض ظواهر غير ثابتة، تزول بسرعة إذا وجد لها راق خبير، وبيان شاف يشفي الصدور.
وبناء على هذا الأصل الفطري المستقر في قلوب هذه الأمة، الذي حفظها الله به من الذوبان، فإن أهل العلم بشرع الله أصوله وفروعه، يجب عليهم أن يبينوا للناس أحكام الله كماهي؛ بلا ليّ ولا كتمان لأن الحق أبلج، والباطل لجْلَج، وقد أخذ الله في جميع النبوءات العهدَ والميثاق على العلماء أن يبينوا للناس ما نزل إليهم، قال تعالى “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَـتُبيّـنُـنَّه للناس ولا تكتمونه”. والآية تشمل كل كتاب من كتب الله، وهي في سياق تحذير علماء المسلمين من الكتمان كما كَتم من قبلهم من علماء الأمم السابقة الذين عوقبوا على ذلك، وتذكيرِهم بأنهم إن فعلوا فسيعاقبون كما عوقب من قبلهم سواء بسواء، لأن مناط العقوبة، مناط واحد، وهو كتمان آيات الله، فيستوي في ذلك المتقدم والمتأخر، لأن سنن الله الكونية والشرعية، يستوي الناس فيها جميعا. وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون”.
ولم يرخص له في ترك البيان بحال، بل ألزمه به إلزاما، وإلزامُه إلزام لعلماء أمته؛ لأنهم ورثته في شريعته، ولذلك أَشهد صلى الله عليه وسلم أصحابَه عليه أنه قد بلغ وبين، فشهدوا له بالبلاغ، فقد حج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ومعه مائة ألف، وأربعة وعشرون ألف صحابي، وهو عدد ضخم جدا، فخطب فيهم يوم عيد الأضحى بمنى، ففي صحيح البخاري وغيره أنه ذكرهم بعدة قضايا أساسية في دينهم التي يجب عليهم التنبه لها: من أمور الدماء، والربا، والوصاية بالنساء، ثم قال لهم: “ألا هل بلغت؟ فقالو: نعم، فقال: “اللهم فاشهد “. فشهدوا له – كما ترى- بأداء الأمانة، والنصيحة والبلاغ، فانتقلت تبعة هذا البلاغ إلى العلماء من هذه الأمة الذين ستشهد عليهم أمتُهم بالبلاغ أو عدمه.
فمن هذا التأسيس والتأصيل المختزل، نأتي إلى بيان حكم الشريعة – في اقتناء الأضحية بالاقتراض، أو بعبارة أخرى: بالسلف – ليكون جليا في أذهان الناس، حجة لهم إن عملوا به، وحجة عليهم إن أعرضوا عنه؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: “فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب”.
وبيان ذلك على النحو الآتي أولا: ينبغي أن يركز الناسُ على مقاصد هذه الأضحية، لا على شكلها؛ إذ ليست مقصودة للحمها وشحمها، وسمنها فقط، فهذه توابع لمعان سامية في الأضحية، وليست أصلا فيها، والتابع مع فقدان المتبوع، يصبح جسدا بلا روح. ومن سوء الأسف أن هذه المعاني في المجتمعات الإسلامية، غائبة عن أذهان كثير من المضحين، ولا ترتبط الأضحية عندهم إلا بالأكل والشرب، والتباهي والتفاخر على الجيران وأهل الحومة بقولهم: كبشنا أفضل من كبشكم، وأسمن وأغلى، ومن لم يقل ذلك بلسان المقال، فإنه يقوله بلسان الحال، وغابت عند جمهرة الناس المقاصدُ الكلية للأضحية، التي هي:
1- التقرب إلى الله والتعبد له بطاعته في هذه الأضحية، لما ورد من الثواب الجزيل العاجل والآجل لمن ضحى لله، لا لرياء ولا سمعة ولا تفاخر.
2-التصدق على الفقراء وذوي الحاجات من هذه الأضحية، وإعانة المعوزين واليتامى، وتخفيف معاناتهم، وإشراك الأغنياء الفقراء في فرح العيد.
3- إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكُّرُ ذلك الموقف النبيل منه حين قال عند ذبح أضحيته: “اللهم منك ولك عن محمد وأمته”، فهذا فيه من معاني التضامن والاهتمام بالغير، ما يلفت الأنظار إليه، وهو ما تفتقده مجتمعاتنا.
4- إحياء سنة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي يعتبر محمد صلى الله عليه وسلم حفيده ووارث ملته، وفي ذلك بُرور الأبناء بالآباء، والسير على نهجهم، والاعتداد بمآثرهم، وتذكرهم بجلائل الأعمال التي أسدوها للبشرية كلما حلت هذه الذكرى، وتقويةُ الصلة بين جيل الآباء والأبناء، وأنهم يتواردون على سنن واحد، لا نشاز فيه ولا عقوق، وفي ذلك رمز الوفاء، والاعتراف بالفضل من اللاحق للسابق، كما قال تعالى: “ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان”. والمرء إذا علم أن عروقه وأصوله تمتد في أغوار تاريخ سحيق، يزيده ذلك ثباتا وشجاعة ورجولة ونخوة، وتمسكا بسنن الآباء، فليس عرقا مجتثا عن أصل، ولا غصنا مقطوعا من شجرة لا تاريخ له، ومن لا تاريخ له في الماضي، فلا تاريخ له في المستقبل، والامبراطورياتُ الكبرى في العالم، إنما تبني عظمتها وقوتها على أمجاد آبائها التاريخية، وبدون ذلك لن تتحرك إلى الأمام، ولن يهابها أحد.
5- استحضار عظمة إبراهيم عليه السلام في موقف الفداء، حينما أمر بذبح ابنه، فامتثل لأمر الله بلا تردد، وقدمه على محبة ولده الفطرية، وهذا الابتلاء لم يبتل أحد بمثله لا قبله ولا بعده، لذلك قال الله عز وجل له: “إني جاعلك للناس إماما”، وأمر البشرية جمعاء باتباعه بقوله: “فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا”. وبصبره الذي لا نظير له، نال مقام الخلة والإمامة، وكان أمة وحده، كما قال تعالى: “إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين”. وورث منه هذا السر ابنُه محمد صلى الله عليه وسلم، فنال مقام الخلة أيضا كأبيه إبراهيم عليه السلام، ومقامَ الإمامة للعالمين، فأرسل بذلك إلى الإنس والجن.
6- امتحن الله إبراهيم -وهو أعلم به- ليرينا نحن صبرَه وجلده وتضحيته في ذات الله وفي دين الله، وأنه من المعادن النقية، والسرائر الصافية؛ ليكون محلا للاقتداء والاحتذاء والاهتداء، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والتربية بالأمور المحسوسة، أنجع من التربية بالأمور النظرية.
7- تأكيد تعظيم أوامر الشرع وامتثالِها، وإن لم تظهر لنا مصلحتها بادي الرأي، فإبراهيم عليه السلام، سارع إلى الامتثال، ولم يسأل عن حكمة الأمر بذبح ابنه، لأنه موقن أن الله عليم حكيم، وأنه لا يأمر إلا لحكمة، وليس من شرط الامتثال، العلم بالحكمة.
8- بيان أنه ما من أمر شرعي يبدو عسير التطبيق، إلا ويصاحبه اللطف واليسر والانفراج عند التنزيل، وإنما يبتلينا الله عباده ليعلمهم أنه لطيف ورحيم بهم، وذلك بين في قوله تعالى: “وفديناه بذبح عظيم”.
9- الإشارة إلى رمزية الفداء، بتقديم أعز ما يُملَك عند الطلب، كما فعل الخليل عليه السلام، ولذلك كان أتباع ملته من المسلمين، يقدمون هذا الفداء كل وقت وفي كل مناسبة، فصلواتهم، وزكواتهم، وصيامهم، وحجهم، وأذكارهم، وصدقاتهم، قرابين يتقربون بها إلى الله ليفتدوا بها من عذاب النار
10- التنبيه على أن العظماء الذين يغيّرون مجرى التاريخ، لا يستسلمون للعقبات التي تعترض طريقهم في الوصول إلى مبتغاهم، لأن الهدف إذا كان أسمى، كانت الهمة على قدره، وأعظمُ هدف يبتغى، هو رضا الله تعالى، والمقام في محراب عبوديته وهو الذي شمر إليه الأنبياء، فالعوائق في طريقهم تعتبر عوارض لا تصمد أمام هممهم وعزائمهم السائرة إلى الله، فكل ما يحول دون ذلك بالنسبة إليهم، فهو هين أو مفقود، فمطلبهم أجل من أن يقف في طريقه شيء، والعوارض إنما تؤثر في المحجوبين، وتصدهم عن الوصول، أما من ركب متن عزمه، فلا يقف في طريقه شيء، وإن وقف فرضاً، فلا يصمد بل يتلاشى بسرعة.
11- التذكير بعداوة العدو الأكبر، وهو الشيطان، لتجتنب خطواته، وهو القائل لربه تعالى: “فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين”. وهو الذي ينبغي للمسلين أن يجتمعوا على محاربته ومعاكسته وعصيانه فيما يأمر به من الفحشاء والمنكر، ورجمُ إبراهيم عليه السلام له بمنى يذكر بذلك. هذه بعض المقاصد التي ينبغي للمسلم استحضارها في الأضحية التي هي قربان، والله تعالى إنما يتقبل القرابين من المتقين، وأما الحرصُ على اللحم وحده، والتباهي به، فالناس الآن يأكلون اللحوم كل يوم، حتى تخموا بها، فالقضيةُ قضية مبادئ، لا قضية بطون ومتع زائلة.
ثانيا: هل يجوز الاقتراض لشراء الأضحية لمن لا يحضره ثمنها؟
والجواب: أن الاقتراض نوعان: الاقتراض الحسن الذي يقصد به المقرض وجه الله تعالى بإعانة أخيه المسلم الذي كان في ضائقة مالية، فأقرضه حتى يجد سعة فيرد له ما اقترضه منه بلا زيادة ولا نقصان، فهذا النوع من القرض، قد جوزه بعض العلماء في الأضحية، ومنهم ابن رشد في المقدمات الممهدات، وغيره، بشرط أن يكون المقترض قادرا على الوفاء، أو عنده ما يوفي منه، وأخذ بهذا القول في الإفتاء كثير من المعاصرين، ولعلهم بنوا ذلك على ما أخرجه الدارقطني من حديث عائشة أنها قالت: يارسول الله، أستدين وأضحي؟ قال: “نعم، فإنه دين مقضي”. وهو حديث ضعيف باتفاق أهل العلم، فلا يصلح أن يبنى عليه هذا الحكم بإطلاق. والصواب عندي خلاف ذلك، لأن الأضحية سنة ومستحبة عند جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على من قدر عليها، ومن قال بوجوبها كأبي حنيفة وطائفة، فإنه لم يبن ذلك على دليل مقبول، فما استدل به، إما أنه صحيح غير صريح في الوجوب، وإما أنه غير صحيح ولا صريح، وقد تظاهرت الأدلة عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بسنيّتها،
والقولُ بخلاف ذلك مرجوح، إذ الواجبات لا تثبت بالاحتمالات، ولا بد فيها من دليل صحيح صريح في الوجوب، وهو شيء معدوم في إيجاب الأضحية. وما دامت سنة ومستحبة، فلا حاجة لمن لا يقدر عليها أن يستدين لها، لأن الدَّين يصبح في ذمته واجبا، ومرهونا به، ولم يكلفه الله تعالى أن يحيي سنة بدين واجب، فالسنة إن لم يحيها لعدم قدرته عليها، فلا حرج عليه ولا يأثم بذلك، وأما الدَّين فإنه إن لم يؤده، فهو آثم، آكل لأموال الناس بالباطل، فإن مات وعليه دين، فإن أهل العلم والفضل المقتدَى بهم، يؤمرون أن لا يصلوا عليه، لأن صلاتهم عليه شفاعة له، فكيف يشفعون له وهو مرهون بدينه؟ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بميت يَسأل هل عليه دين؟ فإن قالوا له: نعم، قال: “صلوا على صاحبكم” وما ذاك إلا ترهيب من الدَّين ومن خطورة أمره، فكيف يجعل سببا لإحياء سنة؟ وما ربطوا به الجواز من قدرته على الوفاء، أو عنده ما يوفي منه، فهو مناط غير مطرد، ذلك أن قضية وفائه، أمر مستقبلي، فقد يتراءى له أنه يقدر على الوفاء بعد شهر أو بعد استلام أجرته الشهرية، ثم يحول بينه وبين ذلك حائل، إما من إفلاس كلي، أو موت، أو حَجر، أو غيرها. وقد يكون عنده ما يبيعه في ذاك الدين، لكن بعد استدانته نزلت به جائحة، فذهبت بماله كله أو جله، فأصبح غير قادر على الوفاء بعد ما كان غلب على ظنه أنه من أهل الوفاء، فالأمور المستقبلية، غير مضمونة، فلا ينبغي للمرء أن يربط بها نفسه إلا في الضروريات أو الحاجيات التي تنزل منزلة الضروريات، أما الكماليات فلا، لأنه ليس بحاجة أن يرهن نفسه بها.
ثم إن القرض إنما جاز في الأصل للضرورة والحاجة والطارئ الذي لا مخرج للإنسان منه إلا به، فرخص فيه تيسيرا على الناس، أما الكماليات فلا يحتاج الناس فيها للقرض، لأنهم في سعة من أمرهم، والأضحيةُ تدخل في الكماليات. فلا ينبغي للإنسان أن يدخل نفسه في ضائقة لم يلزمه بها الشرع ولم يطلبها منه. وأيضا الاقتراض لشراء الأضحية، يتنافى مع قوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر” وقوله: “يريد الله أن يخفف عنكم” وقوله: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” وقوله: “وما جعل عليكم في الدين من حرج”. فمن استدان لشراء الأضحية وهو غير قادر، فقد كلف نفسه عدم وسعها، وأعرض عن تخفيف الله عنه إلى التشديد على نفسه بإلزامها ما لم يلزمها الله به، وذلك إعراض عن رخصة الله الثابتة بهذه النصوص القرآنية المتواترة القطعية، والأصل براءة الذمة، حتى يثبت ما يشغلها.
النوع الثاني من أنواع الاقتراض: الاقتراض بالربا لشراء الأضحية، وهذا لا أعتقد عاقلا يجيزه فضلا عن عالم، وهو ظاهرة غريبة حدثت في مجتمعنا منذ سنوات قلائل، مما يدل على الاستهانة عند فئة من الناس بأمر الربا، إما جهلا، وإما تكبرا لأنهم لا يريدون الظهور بمظهر العاجز عن الأضحية، وإما تأثرا بالعادة الفاشية الضاغطة على الناس حتى اعتقدوا أنه لا يمكن أن يبقى المرء بلا أضحية ولو باع حوائجه الضرورية، أو اقترض بالحرام، أو ارتكب أي طريق للحصول على ثمن الأضحية، ولا يهمه ما وراء ذلك.
وهؤلاء يجب أن يعلموا أن الربا محرم بالنص والإجماع، في قوله تعالى: “وأحل الله البيع وحرم الربا” ولا أصرح دلالة من هذا في التحريم، ومن دخل فيه فقد دخل في ذنب عظيم، فكيف يتقرب إلى الله بالأضحية التي عصى الله فيما اشتراها به، وكيف يتوسل بمحرم هو من أعظم الذنوب إلى إقامة مستحب لا يَسأل الله من لم يقدر عليه إطلاقا، فهو كمن سرق ليتصدق، أو باع خمرا ليعين فقيرا، أو قامر ليبني مسجدا، فهذا فيه قلب للحقائق كلها، فما عند الله، لا يتوسل إليه بالخسيس، ولم يجعل الله الأمور المحرمة أبدا وسائل لطاعته،، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا فمن أفتى بأن هذا النوع من القرض تجوز به الأضحية، فقد تنكب الحقيقة، وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم له به، والفتوى بذلك باطلة بإجماع العلماء والعقلاء، فلا اعتداد بها، ولا قيمة لها، فهي معدومة، كمن ولد ميتا، وتعليلُها برعاية العرف السائد، لا يزيدها إلا وهنا على وهن، ذلك أن العرف عند جميع الفقهاء، ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: عرف لا يخالف الشريعة، ولا يصادم أحكامها، وهذا عرف معتبر، وهو الذي فرع عليه الفقهاء كثيرا من الأحكام. القسم الثاني: العرف الفاسد، وهو الذي يخالف أحكام الشريعة، ونصوصها وهذا لا اعتداد به عند أحد من الفقهاء، ولا يبنى عليه حكم مطلقا، ومثل هذا العرف ينبغي تغييره ليوافق أحكام الشريعة، لا أن نغير الشريعة لتوافقه، فالشريعةُ لا تجاري كل عادات الناس وأهواءهم لترضيهم، وإنما تراعي الصحيح من ذلك، وتبطل ما عداه، وتأمر العلماء والأمراء بإصلاح الفاسد من ذلك ليوافقها فيكون معتبرا. فعلى المفتين أن يقولوا ما هو صواب، وأن ييسروا على الناس فيما يسّرت فيه الشريعة، وأمّا إرضاءُ جميع الأذواق، فغاية لا تدرك. نسأل الله تعالى أن يهدي المسلمين سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
………………..
أستاذ بجامعة القاضي عياض، مراكش الحمراء.
الرجاء لمن له صلة بالشيخ أيت اسعيد أن يطلب منه نشر دروسه التي كان يقدمها في جمعية الحافظ بن عبد البر في التسعينيات في مادة التفسير ومادة الفتاوى أو كما سماها آنذاك تواضعا __أجوبة على قدر علم المستفتى___فإنها دروس جد قيمة بالمئات وهي مسجلة بالفيديو آنذاك وقد بحثت عنها في الشبكة العنكبوتية فلم أجد منها شيئا
الاشكال فى اقناع الاطفال اما نحن الاباء فالاضحية اصبحت ضريبة سنوية فوق الطاقة.
ضريبة سنوية لأنكم مع الأسف لم تربوا أبناءكم على تعاليم الإسلام بما فيها القناعة والسنة الفريضة.
لأنكم مع الأسف لا تقولون لأبناءكم يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك.
يا غلام إني أعلمك كلمات إحفظ الله يحفظك
يا بنيتي إن الفتاة إذا بلغت المحيض لا يحسن أن يظهر منها إلا ههنا (الوجه والكفين)…
والأكثر من هذا أن أبناءنا لا يرون تطبيقا عمليا من آباءهم لتعاليم الإسلام بل يربيهم الإعلام على أنها تشدد وتخلف