الدكتور العثماني يكتب: اكتئاب ما بعد الولادة
هوية بريس-الدكتور سعد الدين العثماني
[email protected]
اكتئاب ما بعد الولادة هو اضطراب مزاجي يصيب الأم في المرحلة التي تلي ولادة طفلها. ويجب تمييزها عن التغيرات المزاجية التي تصيب ما بين 30 إلى 80 بالمئة من النساء في الأسبوع الأول بعد الولادة، وتضم بالخصوص شعورا ببعض الحزن والتعب والتوتر والصعوبة في النوم. فإن هذه الإحساسات التي تسمى عادة “الكآبة النفاسية”، تكون في الغالب مؤقتة وغير شديدة، فتختفي في غضون 3 إلى 5 أيام، وفي بعض الحالات قد تستمر لمدة أسبوعين. ويكفي غالبا لتجاوز “الكآبة النفاسية” الإخلاد إلى الراحة وتلقي الدعم النفسي والرعاية المناسبة من الأسرة والمقربين.
أما “اكتئاب ما بعد الولادة” فيظهر عادة بعد أسبوعين إلى 8 أسابيع من الولادة. وأحيانا قد يظهر بعدها بفترة أطول قد تصل إلى سنة. وهو يصيب 10 إلى 15٪ من الأمهات حديثي الولادة. ويمكن أن يحدث بعد ولادة أي طفل، وليس فقط بعد ولادة الطفل الأول.
وتحس فيه الأم بأعراض النوبة الاكتئابية كما شرحناها في حلقة سابقة، من حزن وشعور بالإحباط والميل إلى الانعزال والتعب الشديد والقلق والبكاء بلا سبب. وينضاف إليه في كثير من الأحيان كثرة الأفكار السلبية ونقص الارتباط العاطفي بالمولود الجديد وأحيانا الفراغ العاطفي تجاهه، والمبالغة في الشعور بجسامة عبء رعايته أو الخوف من العجز عن رعايته. وأحيانا تشعر المريضة برهاب الاندفاع، ويتمثل في شدة الخوف والقلق من فقدان السيطرة على النفس ومن ارتكاب فعل لاإرادي تؤذي به طفلها. وقد تشكو الأم أيضا من أعراض جسدية ملحة مثل اضطراب النوم والعزوف عن الأكل والشعور بالصداع أو بآلام في البطن.
ومن المهم التنبيه على أن هذه الأعراض تختلف من أم لأخرى، ولا تكون جميعها حاضرة في كل الحالات، بل لكل حالة خصوصياتها السريرية (الكلينيكية).
ومثل ما رأينا فيما يخص مرض الاكتئاب عموما، فإنه ليس هناك سبب محدد للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، لكن هناك عوامل مختلفة، باجتماع عدد منها قد يظهر المرض. ويتعلق الأمر أساسا بالعوامل البيولوجية والتغيرات الهرمونية، ووجود تاريخ عائلي للإصابة بالاكتئاب العام أو باكتئاب ما بعد الولادة، وتاريخ شخصي للإصابة بنوبة اكتئابية واحدة أو أكثر، والعوامل النفسية مثل ضغوط المحيط والخلافات الزوجية والإرهاق بمختلف أنواعه والمشاكل المرتبطة بالحمل والولادة.
إن الوعي باكتئاب ما بعد الولادة وتشخيصه مبكرا وتقديم العلاج والتكفل المناسبين، كلها أمور ضرورية لتفادي التأثيرات السلبية المحتملة على علاقة الأم بطفلها، والتي يمكن أن تؤثر على نمو الطفل وعلى نفسيته.
وكلما كان التدخل النفسي والعلاجي مبكرا، كلما سهل تفادي تلك التأثيرات السلبية. وهذه مسؤولية الزوج والأسرة، ومسؤولية فريق التوليد ومتابعة الأم في فترة ما بعد الولادة.
كما أن وعي الأم بأمثال هذه الحالات سيجعلها تطلب المساعدة والدعم مبكرا، بمجرد ما تشعر بالأعراض الاكتئابية الأولى. ومن المفيد أن نطمئن إلى أن معدل الشفاء من اكتئاب ما بعد الولادة مرتفع والحمد لله، وبتلقي العلاجات المناسبة يمكن أن يكون كذلك سريعا. وكثيرا ما يحتاج إلى بضعة أشهر على الأقل ليكون التعافي كاملا.
أما إذا تُركت الحالة دون علاج مناسب، فإنها ستتعقد في الغالب بمضاعفات كثيرة، منها زيادة المعاناة وحدة الألم النفسي وظهور الأفكار الانتحارية. وفي أسوأ الحالات قد تقدم المصابة على محاولة الانتحار أو على إيذاء طفلها.
وهذا يعني أن حالة الاكتئاب عندما تزداد حدتها تصبح من حالات الطوارئ التي تستدعي تدخلا علاجيا مستعجلا.
هناك محوران متكاملان لعلاج اكتئاب ما بعد الولادة.
الأول محور الدعم النفسي وتوفير شروط التحسن. وذلك مثل أخذ ما يكفي من الراحة والعناية بالنوم الجيد والنظام الغذائي المتنوع واستشارة الأسرة والمعالجين حول كيفية التعامل مع الأعراض والتحديات التي تطرحها الحالة. ويدخل في هذا المحور العلاج النفسي من خلال تعليم المصابة مهارات تساعدها على تعديل طريقة التفكير والتغلب على المشاعر السلبية. وتستعمل لذلك أنواع متعددة من العلاج النفسي.
الثاني العلاج بالأدوية المضادة للاكتئاب بالقواعد ذاتها الملتزم بها في علاج أنواع الاكتئاب الأخرى، وهي القواعد التي سنعود إليها في حلقة خاصة. وهناك عدد من هذه الأدوية الحديثة التي يمكن تناولها من قبل الأم المريضة مع استمرارها في الرضاعة الطبيعية.
والأهم هنا أن نؤكد أيضا أن بعض الخطوات يمكن أن تساعد وقائيا في تقليل خطر الإصابة لدى النساء ذوات سوابق الإصابة بالاكتئاب، حتى قبل الولادة. وتشمل بالخصوص الاحتضان والرعاية الأسريين، وتجنب الإجهاد، والتغذية الصحية المتوازنة، وممارسة تمارين رياضية، والنوم بشكل جيد. وعند ظهور أدنى عرض أو في حالة تاريخ عائلي أو شخصي للإصابة بالاكتئاب، يكون دائما مفيدا استشارة طبيب نفسي للإسراع بالتشخيص المبكر، وبالتالي التدخل العلاجي المبكر.