الدكتور العثماني يكتب: الأسرة والوقاية من المرض النفسي
هوية بريس- د.سعد الدين العثماني
[email protected]
رأينا في الحلقة الماضية كيف تتأثر الأسرة بإصابة أحد أعضائها بالمرض النفسي، وما هو نوع المساعدة التي تحتاجها أمام موقف مثل هذا. ونتوقف في هذه الحلقة على دور الأسرة – إيجابا أو سلبا – في ظهور المشاكل النفسية وتعقد المرض النفسي. ونحن ننطلق هنا من النموذج الذي يتبناه اليوم المتخصصون في هذا المجال، ألا وهو النموذج البيولوجي – النفسي – الاجتماعي المندمج. وهذا النموذج ينطلق من أن المرض النفسي ما هو إلا محصلة لتفاعلات عدة تضم أساسا كلا أو بعضا من عوامل عدة أهمها: الاستعداد الوراثي والهشاشة البيولوجية والعوامل العضوية والتراكمات والتفاعلات النفسية والبيئة الاجتماعية. وللأسرة في كل هذه المستويات دورا وتأثيرا، صغيرا أو كبيرا.
فإذا كان عاملا الاستعداد الوراثي والهشاشة البيولوجية يولد معهما الإنسان، فإن العوامل الأخرى يمكن يكون للأسرة تأثيرا عليهما، إما بتخفيف النزوع نحو مشاكل الصحة النفسية والمرض النفسي، أو نحو الوقاية منها.
ولأن الوقاية من مشاكل الصحة النفسية تأخذ معناها الكامل بالتدخل الإيجابي قبل ظهور تلك المشاكل، من خلال العمل على تقليل العوامل المسببة أو المساعدة عليها، فإن من الواضح ان للأسرة دورا كبيرا في ذلك بتوفير الجو الإيجابي لأطفالها وباقي أفرادها.
إن النمو النفسي للطفل والمراهق عقليا وعاطفيا واجتماعيا، يتأثر كثيرا بالجو السائد داخل الأسرة وبأسلوبها في التعامل. فالأسرة المستقرة والداعمة توفر بيئة ملائمة لنمو جسدي ونفسي متوازن. وتقوم بدور إيجابي في تنمية قدرات الفرد من خلال تكوين الخبرات البناءة وتقدير الذات واحترام الآخرين وتعليم التوافق الشخصي وتكوين الاتجاهات النفسية السليمة. والجميع متفق على أن الخبرات التي يتعرض لها الطفل في السنوات الأولى من عمره تؤثر تأثيرًا هامًا على نموه النفسي. وهذا التأثير يبقى مستمرا – وإن بدرجة اقل – ولا يتوقف في مرحلة المراهقة، ثم قد يقل في المراحل الموالية، لكنه يبقى دائما مهما ومؤثرا.
ومن هنا يمكن أن نفهم بسهولة أن للأسرة المستقرة الداعمة أثرا إيجابيا على الصحة النفسية لأفرادها، من خلال الجو النفسي الذي توفره، ومن خلال ما يسودها من قيم الحب والمودة والرحمة والاحتضان، ومن خلال ما توفره من رفقة ودعم عاطفي ومادي، ومن خلال ما تنقله لأبنائها من معارف وخبرات. وهذه كلها من العوامل المهمة للوقاية من عدد من مشاكل الصحة النفسية. كما أنها ذات تأثير إيجابي على الفرد الذي يعاني من اضطراب نفسي، فيكون لديه بالتالي قابلية أكبر للتحسن والمعالجة. وكلها مستويات تدخل ضمن مسمى الوقاية.
المستوى الأول يسمى الوقاية الأولية، وهو يعمل على منع حدوث المشكلة النفسية أو المرض النفسي أو التدخل بمجرد أن يلوح خطر ظهور أحدهما.
المستوى الثاني أو الوقاية من الدرجة الثانية، التي تهدف إلى التعرف المبكر على المشكلة النفسية أو تشخيص المرض النفسي في مرحلته الأولى، وبالتالي التدخل المبكر لإيجاد الحلول أو العلاجات المناسبة بالرجوع للمتخصصين.
المستوى الثالث او الوقاية من الدرجة الثالثة، تحاول تقليل أثر المشكلة أو المرض النفسي على الفرد والأسرة والمجتمع، ومنع تعقد الحالة الصحية للمريض.
وتثبت العديد من الدراسات في هذه المستويات كلها الدور الحاسم للأسرة. ومن هنا فإن لهذه الأخيرة دورا في التقليل من معدلات الانتكاس وفي المساعدة على التعافي، من خلال الدعم والتشجيع الذين قد يكون لهما أثر سحري على تطور الحالة الصحية للمصابين.
وفي المقابل فإن الأسرة غير المتفاهمة أو المضطربة تشكل بيئة نفسية سلبية، تضر بالنمو النفسي للطفل والمراهق، وقد تكون مرتعا خصبا للمشاكل النفسية والسلوكية والاجتماعية. وقد تسهم في تدهور الصحة النفسية للفرد أو تزيد مرضه النفسي سوءًا، وبالخصوص عندما تتميز حياتها بالإهمال أو سوء المعاملة أو العنف أو غيرها من الظواهر السلبية. ومن هنا فإن كل العوامل التي تساهم في استقرار الأسرة وتجاوز مشاكلها، تدخل ضمن عوامل الوقاية من مشاكل الصحة النفسية.
وأخيرا لقد كانت لهذه المقدمات دور مهم في تزايد الاهتمام بالعلاج النفسي الأسري، من خلال العمل على تحسين التفاعل بين أفراد الأسرة وإحداث التغيير والتطوير الإيجابيين في حياتها ومستوى رعايتها لأفرادها.