الدكتور العثماني يكتب: دور المناخ الأسري في الصحة النفسية
هوية بريس-د.سعد الدين العثماني
[email protected]
تطرقنا في الحلقتين الماضيتين من هذه السلسلة المرتبطة بالصحة النفسية، إلى علاقة الأسرة بالمرض النفسي: تأثيرا وتأثرا. ونتحدث هنا عن علاقة الأسرة بالصحة النفسية التي هي أعم بكثير من المرض النفسي كما تحدثنا عن ذلك سابقا.
ويشكل المناخ الأسري الجو العام الذي يعيشه الزوجان وينشأ فيه الأبناء وتتكون شخصيتهم. وله أهمية بالغة لأن الأسرة هي أهمُّ مؤسسة للتنشئة الاجتماعية وأولها تأثيرا في الطفل، وفيها يبدأ باكتساب الخِبرات الحياتية والتشبع القِيَم. ويستلزم النجاح في ذلك أن تكون الأسرة مستقرة ومترابطة، وبالتالي سعيدة، وأن تكون متشبعة بما يكفي من القيم الإيجابية. وهي القيم التي يمكن تلخيصها في أربعة أنواع:
أولا – قيم الحب والمودة والاحتضان والدفء، مما يسهم في نمو شخصية متكاملة ومتزنة لدى الأبناء، ويساعد على تحليهم بالتفاؤل والثقة بالنفس، وقدرتهم على تقبل الآخرين والثقة بهم.
ثانيا – قيم الرحمة والتعاطف، وتعزيز لغة الحوار والتفاهم، مما يشعر بالاحترام والتقدير والحماية الأسرية، ويشبع حاجة الطفل إلى الأمن النفسي وإلى التوافق الذاتي، ويقوي قدرته على تحمل المواقف الضاغطة.
ثالثا – قيم التعاون وتقاسم للمسؤوليات ووضوح في العلاقات، مما يبعد عن الخلافات والتوترات، ويساعد على ضبط الانفعالات. ومن هنا فإن إبعاد الأطفال عن أجواء المشاحَنات التي قد تحدث بين أفراد الأسرة، وبين الوالدين على وجه الخصوص، من مسؤولية هذين الأخيرين، توفيرا للجو الصحي والإيجابي لصحتهم النفسية.
رابعا – قيم التسامح والمساواة واستقلال الرأي والديمقراطية، ومنح الطفل قدرا معينا من الخصوصية وحرية التصرف، في إطار قواعد عامة واضحة، مما ينمي قدرة الطفل على اتخاذ القرارات والتمييز بين الخطأ والصواب، ويكسبه الاتزان العاطفي والانفعالي.
وتشير الدراسات المتعددة في هذا المجال إلى أن المناخ الأسري يؤثر على شخصية الأبناء وعلى صحتهم النفسية. وبعضها يؤكد أن الأبناء الذين لم ينشؤوا في جو مستقر ومترابط، ولم يحصلوا على عطف أسري كاف، يكونون في الغالب أقل شعورا بالأمن وأقل ثقة بالنفس، وتزداد صعوباتهم في العلاقات الاجتماعية. وكثير منهم قد يعاني من التردد أو الإحباط أو الخجل أو الانطواء، أو غيرها من المشاكل النفسية.
كما أن اللجوء إلى أساليب التهديد والحِرمان، والعقاب البدني والنفسي المبالَغ فيه، أو توجيه عبارات التوبيخ والتنقيص، والحدة في التعامل، يجعل الأبناء عُرضة للشعور بالعجز والفشل، ويقلِّل من قدراتهم في مواجهة المواقف الاجتماعيَّة المختلفة، وقد تنشأ لَدَيهم مشكلات عدَّة؛ مثل العُزلة والانطواء، ومثل الشعور بالقلق واستسهال الكذب، وتبني السلوكات العدوانية.
وفي المقابل فإن الحماية الزائدة للطفل بالمبالغة في تدليله أو إطالة فترة معاملته وكأنه لا يزال رضيعا، أو المبالغة في رعايته والقيام بواجباته نيابة عنه، والحيلولة دون نشأة السلوك المستقل لديه، ليس أمرا إيجابيا، بل يؤدي لدى الطفل في غالب الحالات إلى نقص الثقة بالنفس، ونقص الشعور بالمسؤولية، وإلى الأنانية ونقص القدرة على تحمل الضغوط والصبر على التحديات. كما تؤدي الحماية الزائدة إلى انخفاض مستوى الجرأة، وضعف الدافعية للإنجاز.
وكما في شؤون الحياة كلها، فإن التربية تحتاج إلى توازن واعتدال في أساليبها، وخير الأمور أوسطها.
ونختم بالقول إن الأبناء الذين نشأوا في جو أسري يسوده جو الحب والمودة والاحترام والثقة والتعاون، يكونون أكثر ثقة بأنفسهم وتمسكا بقيم أسرهم، وأكثر إيجابية في علاقاتهم الاجتماعية. وعلى قدر قوة الروابط العائلية، وقدر تشبع الأسرة بالقيم المذكورة سابقا يزداد احتمال نشأة الأبناء بتكوين نفسيّ سليم، وصحة نفسية جيدة.